السبت، 12 ديسمبر 2015

رحيل الصديق الأخير



تباطأت كثيراً وأنا أستمع إليه يحكي لي إحدى رواياته الجميله. مر أكثر من شهر وهو يهمس في أذني كل ليلة بما أسمح له أن يقصه علي. هو لايعلم بالطبع أنني حين أستيقظ في الصباح وحتى ألاقيه ليلاً مرة أخرى أظل أجتر كل ما حكاه لي بالأمس وأتشوق للقائه ليكمل لي حكايته.

أنا أعرفه منذ فترةٍ ليست بالقصيرة و أشاهده كثيراً ولكن لم يتسنى لي مقابلته بصفة شخصية حتى ألتقيت به مؤخراً في معرض الكتاب السابق وعلى أحد الأرفف في إحدى المكتبات ولم أتردد لحظةً واحدةً في اقتنائه.



صديقي هذا كان يظهر في برنامج خاص به بالتليفزيون المصري وكنت حريصاً على مشاهدته دائماً وهو يحمل عدة مجلداتٍ تحت إبطه محاولاً بكل ما أوتي من عشق ٍللقاهرة القديمة أن يستنطق أحجار مساجدها وجوامعها وكتاتيبها و أسبلتها و مآذنها وقبابها وربما أيضاً شوارعها وحواريها وعطوفها. وكنت دائما ليس فقط أتعاطف معه في جولاته هذه ولكنني كنت أيضاً وغالباً ما أشفق عليه مما ألزم به نفسه مما لم يلزمه به أحد وكنت أحس في قرارة نفسي أنه آخر الرجال الذين سيقومون بمثل هذا العمل الرائع والمضني في نفس الوقت.





تصادف وبعد أن همس لي بآخر سطور روايته الجميله "وقائع حارة الزعفراني" أن سمعت خبر رحيله عن الدنيا  وأحسست بوحشة كبيرة فلقد كان آخر صديقٍ لي جالسته واستمعت إليه وقد فقدته ومازال صدى همسه يتردد في أذني.




ولا أنسى رحلتي الشيقة معه وهو يطوف بي في  آفاق الأدب العربي في كتابه "منتهى الطلب إلى تراث العرب" ورحلته في البحث عن كتاب "المنازل والديار" للأمير أسامه بن منقذ والتي جعلتني أعشق الكتاب من قبل أن أراه وأبذل جهداً كبيراً حتى أجده وكانت فرحتي الغامرة وامتناني العميق له حين أصبح الكتاب بين يدي ومن مقتنياتي النفيسه.



رحم الله الكاتب الكبير جمال الغيطاني وأدخله فسيح جناته وألهم كل من قابلوه وجهاً لوجه وعاشوا معه تجربته الإنسانية الرائعة الصبر على فراق شخص نادر قلما يجود الزمان بمثله.

 أما أنا فأستأذنكم لأني على موعد آخر معه الآن فكتابه التالي "تجليات ٌ مصرية" يرقد بجانبي  يتطلع إلي منذ عدة أيام وأرى صاحبه متشوقٌ لملاقاتي مجدداً والهمس في أذني لنصل من حبل الصداقة والود ما تأخر لبعض الوقت.



كتب المقال وحرره: عاطف أبو شوشه