تحت المجهر أرى أعداداً هائلة من الدوائر المغلقة التي تدور وتسير وتتصادم مسرعة صاعدة هابطة في كل الإتجاهات.
لا أفهم كثيراً مما يجري أمامي.
أفرك عيناي جيداً ثم أنظر مرة أخرى تتضح الرؤية أكثر. يظهرلي بوضوح أن هناك تباين هائل بين هذه الدوائر في الأحجام وفي الألوان أيضاً.
هناك دوائر من كل القياسات. الكبيرة والمتوسطة والصغيرة والكبيرة جداً والمتناهية في الصغر. هناك الدوائرمن كل الألوان الزاهية والبراقة وكذلك الباهتة والكالحة. هناك أيضا الدوائرالنورانية التي تنبثق منها أنوراً طاغية تضئ ما حولها أينما تمضي وأخرى مظلمة مغرقة في السواد. تختلف هذه الدوائر أيضاً في درجة عتامتها فبعضها شفاف للغاية ترى من خارجها ما بداخلها وبعضها معتم تماماً لا تكاد ترى ماذا بداخلها.
أرهقتني هذه الدوائرالمغلقة وأنا أنظرإليها وأراقب حركاتها الدائمة المستمرة طول الوقت في جميع الإتجاهات فلا يمكنني أن أتنبأ في أي إتجاه ستكون حركتها أو يكون موقعها في اللحظة التالية.
تغير الدوائر المغلقة من ألوانها وأحجامها باستمرار بحيث يستحيل تتبع دائرة واحدة لفترة طويلة ومتابعة تطوراتها مع التقدم في الزمن.
كل الدوائرالمغلقة لها عمر إفتراضي ولكنه غير ثابت وليس هناك قاعدة ما تحدد عمردائرة ما. تبدأ الدوائر حياتها الإفتراضية في الفراغ صغيرة جداً ولامعة جداً ثم تنمو تدريجياً وتصير براقة لفترة من الزمن ثم تبدأ في الذبول وفي الأفول فيقل حجمها كثيراً قبل أن تذوي و تفقد جدارها الخارجي المحيط بها والذي يحمي أجزاءها الداخلية فتتبعثر تلك الأجزاء في الفراغ الكائن بين تلك الدوائر. بعض هذه الأجزاء العالية الكثافة يتداعى إلى الأسفل ويبقى في القاع البعيد والبعض الآخر نوراني يسري بسرعة إلى الأعلى ويستمر في الصعود حتى يختفي عن الأنظار.البقية الباقية منها تبقى معلقة في الفراغ.
تقتات معظم الدوائرالمغلقة على البقايا المتخلفة في القاع والبعض الآخر يقتات على البقايا العالقة في الفراغ. تمتص البقايا ببطء عن طريق الجدران. ما يصعد للأعلى لا تدركه الدوائر المغلقة الأخرى ولا تستطيع أن تحيط به.
بعض الدوائر المغلقة ينفتح جدارها لفترة زمنية صغيرة تكفي لأن تلتهم دوائرأخرى أبطأ منها في الحركة فتفاجئها وتلتهمها إلى داخلها وتضم أجزائها الداخلية إلى أجزائها فتكبر من الداخل فيتمدد جدارها الخارجي فيكبر حجمها الكلي.
قد تتجمع بعض الدوائر المغلقة الزاهية والبراقة حول إحدى الدوائر البطيئة الحركة أو الباهتة أو المظلمة وتحيط بها من كل جانب لتمنعها من الحركة في أي إتجاه ثم تبدأ في فتح جدرانها والتهام بعض أجزاء هذه الدائرة الممنوعة من الحركة حتى تأتي على كل أجزائها وتختفي تماماً من تحت المجهر.
تنتقل هذه الدوائر الملتهمة لتحيط بدائرة أخرى لتبدأ في حصارها ثم تلتهمها إلى النهاية. تستمر الدوائر المغلقة الملتهمة في عمليات الحصار والإلتهام حتى لا تحتمل جدرانها المزيد من الإلتهام فتنقسم مولدة العديد من الدوائر الملتهمة الجديدة.
الآن أتفقد دائرتي المغلقة يفاجأني أن جداري الحامي لأجزائي قد أصبح ضعيفاً ومتهالكاً وأن الظلمة تنتشر في كل المحيط الكائن من حولي. أشعر بالدوائر المغلقة الملتهمة تزحف نحوي وتحيط بي تبدأ جدرانها القوية في الإنفتاح نحو جدراني المتهالكة تبدأ بالفعل في إلتهام بعضاً مني. أشعر بالضعف الشديد يغمرني. أدرك أنني هالك لا محالة تخفت أنواري تخور جدراني بأكملها وتتهدم تاركة إياي عار تماماً من أي أمل في الأمن. أحاول عبثاً الإحتماء بالدوائر النورانية دون جدوى إذ تبتعد عني ولا تلتفت لي تاركة إياي فريسة سهلة للخذلان والإلتهام.
ثم يبدأ الهجوم التدريجي والمنظم على داخلي. يبدأ داخلي في التداعي والإنهيار بعض مني يسقط في أقصى القاع حيث الظلمة الحالكةوالسواد والبعض الآخر يفر صاعداً إلى الأعلى حيث النور والبريق الذي يغلفه الضباب والإبهام. البقية الباقية مني لا تزال قيد الإلتهام والذوبان في الآخرين المحاصرين لي.
تبدأ الدوائر المغلقة الملتهمة في الإنسحاب والمغادرة من حولي وتبدأ في البحث عن فريسة أخرى لتحاصرها وتلتهمها.
الآن أدرك أنه لم يبق مني شئ ما يصلح للإلتهام.
أدرك أنه لم يبق مني شئ حي.