الأربعاء، 30 يناير 2019

الدوائر المغلقة

 تحت المجهر أرى أعداداً هائلة من الدوائر المغلقة التي  تدور وتسير وتتصادم مسرعة صاعدة هابطة في  كل الإتجاهات. 



لا أفهم  كثيراً مما  يجري  أمامي.

أفرك عيناي  جيداً ثم أنظر مرة أخرى تتضح  الرؤية أكثر. يظهرلي بوضوح أن هناك  تباين هائل بين هذه الدوائر في الأحجام وفي الألوان أيضاً. 
هناك  دوائر من  كل القياسات. الكبيرة  والمتوسطة والصغيرة والكبيرة  جداً والمتناهية في الصغر. هناك  الدوائرمن  كل الألوان الزاهية والبراقة وكذلك الباهتة  والكالحة.  هناك أيضا الدوائرالنورانية التي  تنبثق منها أنوراً طاغية تضئ ما حولها أينما تمضي وأخرى مظلمة مغرقة في السواد. تختلف هذه الدوائر أيضاً في  درجة عتامتها فبعضها شفاف للغاية  ترى من خارجها ما بداخلها وبعضها معتم  تماماً لا تكاد ترى ماذا بداخلها.

أرهقتني هذه الدوائرالمغلقة وأنا أنظرإليها وأراقب حركاتها الدائمة المستمرة طول الوقت في جميع الإتجاهات فلا يمكنني أن أتنبأ في أي إتجاه ستكون حركتها أو يكون موقعها في اللحظة  التالية.

تغير الدوائر المغلقة من  ألوانها وأحجامها باستمرار بحيث يستحيل تتبع دائرة واحدة لفترة طويلة ومتابعة تطوراتها  مع التقدم في الزمن.

كل الدوائرالمغلقة لها عمر إفتراضي  ولكنه غير ثابت وليس  هناك  قاعدة  ما تحدد عمردائرة ما. تبدأ الدوائر حياتها الإفتراضية في الفراغ صغيرة جداً ولامعة جداً ثم تنمو تدريجياً وتصير براقة لفترة من  الزمن ثم تبدأ في الذبول وفي الأفول فيقل حجمها كثيراً قبل أن تذوي و تفقد جدارها الخارجي المحيط بها والذي يحمي أجزاءها الداخلية  فتتبعثر  تلك  الأجزاء في  الفراغ الكائن بين تلك الدوائر.  بعض هذه الأجزاء العالية  الكثافة يتداعى إلى الأسفل ويبقى في القاع البعيد والبعض الآخر نوراني يسري بسرعة إلى الأعلى  ويستمر  في الصعود حتى يختفي عن الأنظار.البقية الباقية منها تبقى معلقة في الفراغ.

تقتات معظم الدوائرالمغلقة على البقايا المتخلفة في القاع والبعض الآخر يقتات على البقايا العالقة في الفراغ. تمتص البقايا ببطء عن طريق الجدران. ما يصعد  للأعلى لا تدركه الدوائر المغلقة الأخرى ولا تستطيع أن تحيط  به.

بعض الدوائر المغلقة ينفتح  جدارها لفترة زمنية  صغيرة  تكفي لأن تلتهم دوائرأخرى أبطأ منها في الحركة فتفاجئها وتلتهمها إلى داخلها  وتضم  أجزائها الداخلية  إلى أجزائها فتكبر من  الداخل فيتمدد جدارها  الخارجي فيكبر حجمها الكلي.

قد  تتجمع   بعض  الدوائر المغلقة الزاهية  والبراقة حول إحدى الدوائر البطيئة  الحركة أو الباهتة أو المظلمة وتحيط  بها من كل جانب لتمنعها من الحركة في  أي  إتجاه  ثم  تبدأ في  فتح  جدرانها والتهام بعض أجزاء هذه  الدائرة الممنوعة من  الحركة  حتى تأتي  على  كل أجزائها  وتختفي تماماً من  تحت  المجهر.

تنتقل هذه الدوائر الملتهمة لتحيط بدائرة  أخرى لتبدأ في حصارها ثم  تلتهمها إلى النهاية. تستمر الدوائر المغلقة الملتهمة في عمليات الحصار والإلتهام حتى لا تحتمل جدرانها المزيد من الإلتهام فتنقسم مولدة العديد  من  الدوائر الملتهمة الجديدة.

الآن  أتفقد  دائرتي المغلقة يفاجأني أن جداري الحامي لأجزائي قد أصبح ضعيفاً ومتهالكاً  وأن  الظلمة تنتشر  في كل المحيط  الكائن من حولي.  أشعر  بالدوائر المغلقة  الملتهمة تزحف  نحوي وتحيط بي تبدأ جدرانها  القوية  في الإنفتاح نحو جدراني المتهالكة  تبدأ بالفعل في إلتهام بعضاً مني.  أشعر بالضعف الشديد يغمرني. أدرك أنني هالك  لا محالة  تخفت  أنواري تخور  جدراني  بأكملها وتتهدم تاركة  إياي عار تماماً من أي  أمل في الأمن. أحاول عبثاً الإحتماء بالدوائر النورانية  دون  جدوى  إذ  تبتعد عني ولا تلتفت لي تاركة إياي  فريسة سهلة للخذلان  والإلتهام. 
ثم  يبدأ الهجوم التدريجي والمنظم  على داخلي. يبدأ داخلي  في التداعي والإنهيار بعض مني يسقط في أقصى القاع حيث الظلمة الحالكةوالسواد والبعض الآخر يفر صاعداً إلى  الأعلى حيث النور والبريق الذي يغلفه  الضباب  والإبهام. البقية الباقية مني لا  تزال  قيد الإلتهام والذوبان في الآخرين المحاصرين  لي.

تبدأ الدوائر المغلقة الملتهمة في الإنسحاب والمغادرة من  حولي  وتبدأ في البحث عن فريسة أخرى لتحاصرها  وتلتهمها.

الآن  أدرك أنه  لم  يبق مني شئ ما يصلح  للإلتهام.  

أدرك أنه  لم يبق مني شئ  حي.



صلاة الشروق






إنتظرت في المسجد الصغير القريب من المنزل بعد صلاة الفجر في ذلك اليوم شاغلاً نفسي بالدعاء وبأوراد الصباح المعهودة  متأخراً عمداً عن الوقت الذي إعتدت فيه مغادرة المسجد بعد الصلاة منتظراً وقت الإشراق  حسب التوقيت المحلي لأصلي  ولأول  مرة في  حياتي  ركعتي  الشروق. وقد كان أن صليت وخرجت  من المسجد شاكراً الله على توفيقه  إياي راجعاً كل الفضل  إليه عز وجل.    

وما أن خرجت من  باب  المسجد حتى وجدت الشاب الملتحي الذي صلى بنا صلاة الفجر في انتظاري ونور الصباح لم ينتشر بعد في  الخارج ليخبرني وبمنتهى الدماثة أنني قد صليت في وقت نهي وهذا لا يجوز وعندما أخبرته أنني كنت أصلي صلاة الشروق قال لي إن وقتها لا يبدأ عند  وقت  الشروق تماماً ولكن بعد وقت الشروق بقليل عندما يبلغ ظل الشمس مقدار رمح. شكرته وانصرفت عائداً للمنزل. وأنا أفكرها أنا ذا مرة أخرى يتدخل الرمح في توقيت صلاتي فلابد من وجود حكمة ما وراء ذلك.

يصر الكثيرون على أن هناك صلاة  نافلة قائمة  بذاتها تسمى صلاة الشروق.

وهولاء يستندون في   ذلك إلى حديث مشهور  يتم تداوله  بين  الناس وخاصة  على وسائل التواصل الإجتماعي .  ومن يرسلون هذه  الرسائل التي   تسمى الرسائل  الدينية  هم أنفسهم الذين  كانوا  يقفون أمام   أبواب المساجد في  السبعينيات  والثمانينيات  قبل إختراع الإنترنت وما تلاه وتبعه من برامج  شاعت تحت مسمى وسائل التواصل الإجتماعي. كانوا ينتظروننا عند خروجنا بعد  الصلاة في المسجد ليوزعوا علينا نسخاً  خطية من منشورات  دينية ما أن تصل إلى نهاية قراءتها حتى  تفاجأ بعبارات ملزمة لك بأن تقوم بنسخ هذا المنشور عشرة مرات وبأن  توزعها بدورك على عشرة أشخاص مع الوعيد الشديد بسوء العاقبة إن لم تفعل ذلك والتبشيربكل الخير إن إنصعت للأمر وقمت بدورك  بالنشر.  ولا أخفي عليكم أنني كنت  من الذين يأتمرون وينصاعون وينسخون وينشرون ومافعلت ذلك عن إقتناع ولكن  إيثاراً  للسلامة عسى أن يكون  الوعيد  أوالتبشيرأمراً صحيحاً  لا أعلمه لجهلي وقلة إطلاعي في الأمور الدينية. ولعل هذا هوالسبب  أنني لم تنهمرعلي العطايا والأخبارالسارة عندما  كنت   أفعل  ذلك بغيرإقتناع.   ولكنني أيضاً لم يصبني   أي سوء عندما  كنت لا أفعل. 

نعودإلى صلاة الشروق والحديث المشهورالذي يستند إليه هولاء والذي يقول: ( من صلى الفجر في جماعة ثم جلس يذكر الله حتى تطلع الشمس ثم يصلي ركعتين كان له كأجر حجة وعمرة تامة تامة تامة ). 

ولقد بحثت في صحة هذا الحديث لأجد بسهولة تامة وبدون أي مشقة تذكر أنه حديث مشكوك في صحته ويكفي أن "بن باز" قد صححه فقط لأنه روي من عدة طرق. 

ووجدت وبنفس  السهولة أيضاً أن صلاة الشروق  هي نفسها صلاة الضحى  قولاً واحداً والتي ذكرنا سابقاً  أن أفضل وقت لأدائها هو حين "ترمض الفصال" كما في الحديث الصحيح أي عندما تتوسط الشمس السماء. أما ظل الرمح فيلزم الشمس من الوقت ما  مقداره عشرون دقيقة لتصل  بظلها إلى هذا المقدار وهذا هو بداية وقت دخول صلاة الضحى. وبما أنني بفضل الله أصلي صلاة الضحي في وقت تفضيلها فأنا إذاً على صواب من أمري.




وكذلك يريد الله أن يعلمني  ويرشدني إلى ماهو صحيح من الدين لأنني كنت دائماً ما أشعر بشئ ما بداخلي يلومني في كل مرة أخرج فيها من المسجد بعد  صلاة الفجربدون أن أصلي صلاة الشروق وما صليت هذه المرة وما أتاني هذا الشاب إلا بإذن الله تعالى أذن لي لكي أصلي حتى يبين  لي أنني على صواب ويزيل ما كان يدور  بنفسي من عدم الرضا فلله المنة والفضل على ذلك وفي كل الأحوال ولتكن هذه هي المرة الأولى  التي أصلي فيها صلاة الشروق وتكون هي أيضاً  المرة الأخيرة.


"اللهم لا إله إلا أنت سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا".




 ومن أراد تفصيلاً أكثر لما  ذكرته فليدخل على الروابط التاليه :


http://fatwa.islamweb.net/fatwa/index.php?page=showfatwa&Option=FatwaId&lang=A&Id=22560 

https://www.ajurry.com/vb/showthread.php?t=40227

https://mawdoo3.com/%D9%83%D9%8A%D9%81%D9%8A%D8%A9_%D8%B5%D9%84%D8%A7%D8%A9_%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%B1%D9%88%D9%82

https://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t=6384


كتب  هذا المقال/  عاطف شوشه

الأحد، 6 يناير 2019

سفر الخروج

غاب ببصره للحظات قصيرة في الفراغ الواقع على يمين المسجد بالقرب من شجرة نحيلة تقاوم أوراقها الذبول أعواماً بلا فائدة. 
لحظات مرت كأنها دهراً طويلاً. 
لحظات إختزلت عمراً بأكمله.

كان قد أنهى صلاة جمعته وخرج من المسجد القريب من المنزل كعادته لأعوام مضت. عمال المسجد يتعجلون المصلين ليجمعوا الفرش خارج المسجد. في هذه البقعة كان يراه وهو ينهي صلاته. ينتظره قليلاً ليمضيا معاً يتجاذبان أطراف الحديث في مواضيع ليست بالهامة. قد ينصرف  كلاً منهما إلى منزله ولكن في معظم الأحيان كان يصعد معه إلى شقته ويشربان الشاي سوياً. بحركة تلقائية كان يلتف حوله وهما  يسيران ليستطيع سماعه جيداً إذ كان يعاني من ضعف في السمع في أذنه اليسرى منذ زمناً طويلاً.

هذه الجمعة على التحديد كان لا يمكنه أن يراه ولن يراه بعد ذلك أبداً وعلى الرغم من معرفته هذه الحقيقة معرفة اليقين فقد ظل للحظات ينظر إلى المكان  قرب الشجرة الذي  اعتاد أن يراه فيه. مد بصره إلى الطريق الترابي الطويل المؤدي إلى المسجد لعله يكون قد أنهى صلاته مبكراً ومضى ولم ينتظره  كما لم يفعل من قبل إلا نادراً. ولكنه لم يكن هناك أيضاً.

الحقيقة المؤلمة التي لم يعيها كاملة حتى الآن هي أنه قد شيعه بالأمس فقط إلى مثواه الأخير.  وافته المنية وقت إقامة صلاة الفجر. لم  ينفعه  النداء بأن يتماسك لعدة دقائق أخرى حتى يخرج المضطربين المحيطين به من حالة الذهول التي صدمتهم  ليعرفوا ماذا يجب  عليهم أن يفعلوا في اللحظة التالية. لم ينفعه الإسراع به إلى المستشفى القريب الذي رفض الطبيب بها استقباله لأنه كان قد  فارق الحياة قبل أن يصل إليها مع النصيحة بأن يعودوا به  إلى منزله كما أتوا به. لم ينفعه فزع المقربين حوله  أو بكاءهم. 

إنتهت طقوس خروجه  من الدنيا سريعاً جداً. ساعات قليلة وقضي الأمر كله وأصبح ذكرى بعد أن كان واقعاً. ما أسهل الخروج من  الحياة وما كان  أصعب الدخول إليها والعيش فيها. ما أسهل مفارقة  كل الأشياء التي نعتقد  أنها هامة جداً وعزيزة جداً مهما تشبثنا بها وتشبثت بنا. ما  أيسراستمرار الحياة بدوننا وما أسرع إنتظام حركتها وكنا نظن أنها ستتوقف بعدنا.

لحظات قصيرة إختزلت عمر إنسان بأكمله وأكدت أن  ذلك  الفراغ سوف يظل فراغاً  للأبد.

كان الطقس بارداً جداً خارج المسجد على غيرعادته. أحس برعشة تسري في جسده. حول بصره والتفت ببطأ شديد. 

غادر المكان ومضى وحيداً.