هذي الغرفة فيها نهايتي وهي قاتلتي لا محالة من ذلك.
لأنه الفريسة الوحيدة المستباحة في هذا الفراغ المعتم الضيق الكئيب. فإن أسراب الكائنات الماصة للدماء تزحف إليه في جماعات من شقوق السقف المثقوب فوق رأسه. جماعات من فصائل أخرى تنبثق من الفراش تحت جسده الضامر النحيل. جميعها إتفقت على أن تستمر في تعذيبه طالما هو حي في يقظته وفي منامه. لا سبيل إلى مقاومتها لأنها هي الأصل في هذا المكان. كانت تقطن هنا قبل مجيئه وسوف تظل بعد رحيله كغيره ممن جاءوا وذهبوا. أنا الغريب على المكان على الرغم من سنين الألم الطويلة التي قضيتها فيه رغماً عني.
إذا تمددت على الفراش المسكون تحتي يرقبني هذا السقف المهترأ من فوقي ويتحين مني إغفاءة ليعلن عن حنينه المكبوت للإلتصاق ببلاط الغرفة فيبدأ في هبوطه التدريجي المستمر مقلصاً المسافة بينه وبين الأرض غير عابئ بالجثة الملقاة في ما بينهما حتى أحس بأنفاسي ترتد ساخنة على وجهي. أفتح عيناي لأجده قد لامس أنفي. لذا أنام دائماً بنصف عين مفتوحة أو لا أنام.
عندما أقف أو أسير حافياً على البلاط العاري ذو النقر السوداء وأنا شارد الذهن كعادتي أفيق على جدران الغرفة المتشحة بالبقع المتقيحة من الأرض إلى السقف تزحف نحوي من كل الإتجاهات وتكاد تطبق على عظام صدري وتهشمها. لا أجد الهواء الكافي لكي أتنفس داخل هذه الغرفة التي ليس لها نوافذ وبابها الذي يتجه ناحية الشرق خشبه ردئ قد نخر قلبه السوس ولا يكاد يسد منفذها. أكاد أختنق في هذه الغرفة بلا هواء.
الغرفة تقتات على البقية الباقية من عقلي والحشرات اللزجة على ما بقي في أوردتي من دم قد تعكر لونه.
أهرب من الغرفة إلى فراغ السطوح الضيق أمامها. لابد وأن أضع حداً لهذة التعاسة التي تحيط بي أنا وحدي. لا يمكنني الإستمرار على هذا النسق مهما حاولت أو أعدت المحاولة فمثلي لا مكان لهم في هذا العالم القمئ. لابد أن أضع النهاية بنفسي ولا أنتظرها. الإنتظار أقسى من المواجهة الآف المرات. أنظر حولي أصعد السور الذي يعلو البناية العالية التي أقطن في غرفة فوق سطوحها أقف منتصباً أنظر إلى الأسفل البعيد حتى أرى الأشجار والمارة والسيارات أحس بدوار في رأسي فأنا مصاب بداء الخوف من الأماكن المرتفعة وأسقط أنا في الفراغ بينما يسقط هو إلى الداخل فوق الأرض.
فزعت قليلاً وأنا أبدأ في السقوط الحر ولكنني تماسكت عندما أحسست على الفور بنسمة خفيفة باردة تحملني برفق وأنا متجه إلى الأسفل. في سقوطي بدأت أراقب البناية من الخارج. النوافذ الزجاجية تشي بما وبمن وراءها. غرفة جلوس تشغلها عائلة مجتمعة تأكل الحلوى وتشاهد التلفاز. غرفة أطفال يلهو من بداخلها بهمجية طفولية بريئة مبعثرين كل محتوياتها وهم يضحكون. غرفة نوم جديدة في أثاثها وقاطنيها. يظهر ذلك بوضوح من المسافة المتناهية في الصغر بين جسديهما المكشوفين. حمام كبير حمام صغير مطبخ. قاربت رحلة السقوط على النهاية. ليتني كنت أستطيع التغلب على الجاذبية الأرضية ولو للحظات قليلة لأكمل بعض التفاصيل الهامة في مشاهداتي المتلاحقة إلى الأسفل.
كان أول إرتطام رقيق لي بغصن شجرة خضراء. هنا تخلت عني تلك النسمة الرقيقة التي حملتني إلى أسفل. غادرتني مبتسمة ولوحت لها شاكراً.
بدأ شعاع من الضوء يتخلل الأغصان موقظاً بعض الكائنات من حولي. بدأت أراقبها في صمت وهي تغادر مكامنها في نشاط وتفاؤل لتبدأ رحلتها اليومية في البحث عن رزقها الذي قدره الله لها تاركة خلفها صغارها على أمل العودة السريعة. تبادلت هذه الكائنات أصوات جميلة ملأت المكان سعادة وهي تحيي بعضها تحية قدوم الصباح. رفرف أحدهم بجناحيه مغادراً الفرع الذي وجدتني فوقه محدثاً تياراً من الهواء حملني إلى الأسفل ولكن هذه المرة على الأرض.
وقعت بجوار جحر صغير يقطنه "إبن عرس" مع صغاره. يلهو الصغار داخل الجحر فرحين بقدوم النهار وما يتبعه من طعام ومشاهدات كثيرة مسلية من هذا الثقب الذي يدخل منه الضوءالآن ويغادر منه الكبار ومنه يعودون. يروقني تكوين جسد هذا الكائن الذي يعيش بين الناس في ذكاء وحصافة ليس لهما مثيل. جسده الطويل نسبياً بالمقارنة لأرجله القصيرة يجعلان مشيته السريعة الخاطفة مسلية جداً. والأكثر تسلية هو منظره وهو يقف الآن على رجليه الخلفيتين فقط رافعاً كل جسده لأعلى وممسكاً بشئ في يديه يبحث في داخله عن طعام له ولصغاره. وهو لذكائه لايثير حفيظة الأطفال فيهاجمونه كلما شاهدوه بل يبتسمون لمرآه وهو يجري مسرعاً عابراً للطريق ومختفياً تحت السيارات الساكنة.
قط أبيض ذو رأس وذيل أسودين وشوارب طويلة يصحو من نومه متثاقلاً. يتمطى يفتح عينيه في كسل واضح ليستقبل أشعة الشمس المنعشة على وجهه وجسده.
يراني لأول وهلة فلا يأبه بي وعندما بدأت أتحرك بدأ في الإنتباه محاولاً التعرف على هويتي. وضع بطن كفه الناعم فوقي وانتظر قليلاً ثم رفع كفه عني و بقيت ساكناً للحظات وهو يرقبني وعندما هممت بالحركة مرة أخرى عاد ووضع كفه فوقي.عندما تكرر هذا المشهد عدة مرات تيقنت أنه يريد أن يلهو قليلاً قبل أن ينهض باحثاعن رزقه هو الآخر وأن اللعبة تروق له. أخيراً أصابه الملل مني وتركني وانصرف عني.
على الجانب الآخر كلب أنثى ينام على جنبه وصغاره الكثيرون فوقه يتدافعون لينالوا حظهم من لبن الصباح وهو مستسلم لهم في سرور ظاهر. أخذ الصغار بعد ذلك يلهون على الرصيف وفوق الأسفلت وهم يتابعون حركة المارة حولهم ويأنسون لمداعباتهم وخصوصاً الأطفال الصغار.
نسمات أخرى رفعتني قليلاً وهبطت بي إلى اللون الأخضر الذي يبعث على الراحة والهدوء وبداخله كائنات كثيرة أدق حجماً تجري يميناً ويساراً وتتحرك بنشاط ظاهر ذهاباً وإياباً تريد أن تنجز مهام يومها قبل أن ينقضي ضوء النهار. بعضها يمشي على أرجل عديدة وبعضها يقفز والبعض الآخر يزحف على بطنه. ألوان أخرى ذات سيقان مرتفعة لها رائحة أخاذة تتفتح من حولي حمراء وصفراء وبنفسجية في هدوء رقيق لا يقطعه إلا أزيز لكائنات أخرى تهبط برفق فوقها لتشرب من داخل تلك الألوان الزاهية الباعثة على البهجة. وكائنات أخرى أرق وأجمل وأبهى ألواناً ترفرف في صمت وتشرب هي الأخرى من نفس الكأس وتغادر مبتهجة.
بعد منتصف النهار إستلقت معظم الكائنات لتستريح من عناء الكدح اليومي تاركة للشمس مهمة إمدادها بالطاقة اللازمة لها لإكمال دورة حياتها.
عاد "إبن عرس لجحره. لاذ إليه صغاره طلباً للدفء والأمان. وانصرفت أنثى الكلب ومعها صغارها من عرض الطريق.
الكائنات فوق الشجر أيضاً بدأت تعود من كدها اليومي لتحتضن صغارها تهيئة للنوم وهي لا تزال تصدر تلك الأصوات الجميلة التي تودع بها النهار المنصرم وتستقبل بها الليل الآتي. أصعد ببصري إلى أعلى أجد النوافذ التي رأيتها في سقوطي قد بدأ ينبعث منها الضوء الداخلي من جديد واحدة تلو الأخرى. وينتهى بصري من الصعود عند السطوح الحزين. لازلت ملقى على الأرض منذ الصباح. الآن فقط بدأت أفيق. أتحسس رأسي الذي يؤلمني بشدة من أثرالسقوط من فوق السور. أنظر حولي بفزع شديد. الليل يقبل نحوي بسرعة بلا قمر ولا نجوم حاملاً الظلام الكثيف في طياته. أقوم متثاقلاً أحمل رأسي بين كفي أدخل إلى غرفتي ملاذي الوحيد في هذه الدنيا. أستلقي فوق فراشي مقهوراً وأغيب عن الوعي في نوم عميق.
يبتسم السقف المهترأ المثقوب من أعلى. لقد حانت له الفرصة أخيراً لأن ينفث عن شوقه المكتوم فبدأ هبوطه التدريجي المستمر مقلصاً المسافة بينه وبين الأرض والتصق ببلاط الغرفة غير عابئ بالجثة الهامدة الملقاة بينهما.
بدأت الكائنات الماصة للدماء في المغادرة حاملة معها بقايا الدماء العكرة المتجمدة في الجثة المنقطعة الأنفاس.
عاطف شوشه