"أعلم تماماً أنك تختنق. الهواء هنا لا يناسبك بأي حال من الأحوال. الهواء هنا ملئ بالخبث والدمامة والتشويه."
"أعلم أنهم أتوا بك إلى هنا من مكان بعيد جداً رغماً عن إرادتك. أتوا بك من هناك حيث هواء الغابات الرائق المحمل برائحة العشب الأخضر والبحيرات الشاسعة والأنهار العذبة مازال يتجول بصحبة الطيور بلا قيود بين الأشجار العالية التي تصل السماء الزرقاء الصافية بالأرض الخضراء الممتدة".
"هناك كنت تتنفس بعمق وطمأنينة ملأ صدرك وتنمو سوياً بلا أية مكدرات أو تعقيدات نفسية."
"إذا أردت أن تتنفس بحرية مطلقة عد إلى هناك ولا ترجع إلى هنا مرة أخرى."
إذا أردت ألا تختنق ثانية عد إلى هناك."
"أيها الرجل الأسود."
"لم أشهد في حياتي أصدق من هذا الإخاء بين أناس من جميع الألوان والأجناس، أمريكا في حاجة إلى فهم الإسلام لأنه الدين الوحيد الذي يملك حل مشكلة العنصرية."
بهذه الكلمات الصادقة النابعة من أعماق داعية إسلامي أمريكي أسود قضى تسعة وعشرون عاماً يدعو إلى الإسلام بدون أن يعرف كيف يؤدي الصلاة كما يجب أن تكون وصف "مالكوم إكس" رحلته للحج التي قابل أثناءها الملك "فيصل" ومستشاره "عبد الرحمن عزام".
وهذا المشهد الذي انبهر به مالكوم في الحج هو مشهد نعتبره عادي جداً بالنسبة لنا منذ زمن بعيد اعتدنا عليه في بلادنا كما اعتدنا عليه في كل أماكننا المقدسة.
و في القاهرة التي بدأ منها رحلته إلى مكه قابل الرئيس "جمال عبد الناصر" وقابل كل من شيخ الأزهر ومفتي مصر الشيخ "حسنين مخلوف" الذين شرحا له أن ممارسات جماعة "أمة الإسلام" التى ينتمي إليها تنافي تعاليم الإسلام. وهكذا بعد أن تعرف على الإسلام الصحيح أعلن مالكوم إسلامه من جديد وتهيأ لمرحلة خطيرة في حياته ستقابله عند العودة إلى موطنه أمريكا.
|
مالكوم يصلي في مسجد قلعة صلاح الدين بالقاهرة |
|
مالكوم في القاهرة |
|
مالكوم مع الملك فيصل |
كان والد مالكوم قساً معمدانياً وناشطاً سياسياً في أكبر منظمة للسود آنذاك وهي "الجمعية العالمية لتقدم الزنوج".
كانت حياة عائلة مالكوم سلسلة من النكبات فقد شهد الأب مقتل أربعة من إخوانه الستة على يد العنصريين البيض، وتعرض لمضايقات وتهديدات بسبب نشاطاته السياسية، فرحل إلى مدينة لانسنغ في ولاية ميتشيغان في العام 1928م.
وبعد عدة شهور أحرقت منظمة كوكلوكس كلان العنصرية منزل العائلة فرحلت العائلة من جديد إلى ضواحي مدينة لانسنغ، وفي العام 1931 قُتل والد مالكوم بصورة وحشية على يد العنصريين البيض ولكن السلطات ادعت أنه مات دهساً.
فقامت أمه بتربية أطفالها الثمانية دون مورد للرزق لا سيما أن السلطات حجبت عنها كل الإعانات و الحقوق المالية، وفي عام 1939 أصيبت أمه بانهيار عصبي فأدخلت مصحة للأمراض العقلية.
|
مالكوم ليتل أو مالكوم إكس - لاحقاً - في طفولته
|
تردت أخلاق مالكوم وعاش حياة التسكع والتطفل والسرقة فتم طرده من المدرسة وهو في السادسة عشرة من العمر وأودع سجن الأحداث، واستكمل تعليمه الثانوي وهو في السجن.
كان مالكوم إكس ذكياً نابهاً تفوق على جميع أقرانه فشعر أساتذته بالخوف منه مما حدا بهم إلى تحطيمه نفسياً ومعنوياً والسخرية منه. فقد تخرج من الثانوية بتفوق وحصل على أعلى الدرجات بين زملائه وكان يطمح أن يصبح محامياً غير أنه لم يكمل تعليمه وترك الدراسة بعد أن أخبره أحد المدرسين أن حلمه بالذهاب إلى كلية الحقوق بعيد كل البعد عن الواقع كونه زنجياً.
إنتهى الأمر بمالكوم في السجن بعد أن مارس جميع أنواع الإجرام في بوسطن ونيويورك. وفي السجن وصلته عدة رسائل من إخوانه يبلغونه فيها اعتناقهم لدين جديد دين للسود قادر على إنقاذهم وعلى إنهاء عصر سيطرة الشيطان الأبيض، لم يكن هذا الدين سوى أجزاء مبعثرة من دين الإسلام.
وكانت حركة "أمة الإسلام" قد ظهرت في أوائل القرن العشرين بين السود في أمريكا وتبنت الإسلام بمفاهيم خاصة غلبت عليها الروح العنصرية على يد رجل أسود غامض الأصل اسمه "والاس فارد" ظهر فجأة في ولاية "ديترويت" داعياً إلى مذهبه بين السود، واختفى بصورة غامضة بعد ذلك بأربع سنوات، فحمل لواء الدعوة بعده "إليجا محمد" وصار رئيسًا لأمة الإسلام.
|
علم حركة أمة الإسلام المأخوذ من إرث الثقافة العثمانية بالهلال الأبيض والخلفية الحمراء. |
وقد كانت تلك الحركة تنادي بأفكار عنصرية منها أن الإسلام دين للسود، وأن الشيطان أبيض والملاك أسود، وأن المسيحية هي دين للبيض، وأن الزنجي تعلم من المسيحية أن يكره نفسه لأنه تعلم منها أن يكره كل ما هو أسود. فكان لديها مفاهيم مغلوطة وأسس عنصرية منافية للإسلام رغم اتخاذها له كشعار، فقد كانت تتعصب للعرق الأسود وتجعل الإسلام حكراً عليه فقط دون بقية الأجناس.
وفي السجن تردد مالكوم على المكتبة التي ضمت آلاف الكتب وتعلم اللغة اللاتينية، كما انقطع عن التدخين وأكل لحم الخنزير وعكف على القراءة والإطلاع فقرأ آلاف الكتب في شتى صنوف المعرفة، فأسس لنفسه ثقافة عالية مكنته من استكمال جوانب النقص في شخصيته. ثم حفظ المعجم فتحسنت ثقافته، حيث شرع بنسخ كلمات القاموس كلمة إثر كلمة، فبدا السجن له كأنه مرحلة اعتكاف علمي وانفتحت بصيرته على عالم جديد فكان يقرأ في اليوم خمس عشرة ساعة، وعندما تطفأ أنوار السجن في العاشرة مساء كان يقرأ على ضوء المصباح الذي في الممر حتى الصباح.
|
السجن الذي حبس فيه مالكوم إكس فترة عقوبته. (ألتقطت الصورة عام 1983) |
وقرأ قصة الحضارة وتاريخ العالم، وما كتبه النمساوي مندل في علم الوراثة، وتأثر بكلامه في أن أصل لون الإنسان كان أسود، وقرأ عن معاناة السود والعبيد والهنود الحمر من الرجل الأبيض وتجارة الرقيق، وقرأ أيضاً لمعظم فلاسفة الشرق والغرب فغيرت القراءة مجرى حياته، وكان هدفه منها أن يحيا فكرياً لأنه أدرك أن الأسود في أمريكا يعيش أصم أبكم أعمى بسبب بعده عن القراءة أو التعلم.
ودخل في السجن في مناظرات أكسبته خبرة في مخاطبة الجماهير والقدرة على الجدل، وبدأ يدعو غيره من السجناء السود إلى حركة أمة الإسلام فاشتهر أمره بين السجناء، فأكسبته هذه المناظرات العديدة قوة الحجة وفصاحة اللسان. حتى استطاع جذب الكثيرين للانضمام إلى هذه الحركة داخل السجن، فصدر بحقه عفو وأطلق سراحه.
إنضم مالكوم بعد خروجه من السجن رسمياً إلى منظمة أمة الإسلام وتحول إلى حياة الزهد والتعلم.
نظراً لقدرات مالكوم التنظيمية والقيادية والخطابية فقد تدرج مالكوم شيئاً فشيئاً ضمن الجماعة إلى أن أصبح الداعية الأول في أمة الإسلام يدعو إلى الانخراط فيها بخطبه البليغة وشخصيته القوية إلى أن تقلد منصب المتحدث الرسمي للحركة ويرجع إليه الفضل في ازدياد أتباع المنظمة من 500 شخص في عام 1952 إلى 30.000 شخص في عام 1963.
وحدث أن إنفصل مالكوم عن حركة أمة الإسلام نتيجة لاختلافه مع زعيمها وكذلك لعدم رضاه عن أداء المنظمة المتردي في أنحاء البلاد الجنوبية حيث العنصرية ضد السود في أبشع صورها.
بدأ مالكوم طور جديد من حياته عندما قرأ كتاباً في تعاليم الإسلام وعن شعيرة الحج فقرر أن يؤدي هذه الفريضة. فسافر لتأدية الحج في سنة 1379 هـ الموافق عام 1964.
|
مالكوم يؤدي الصلاة، عام 1964 |
عاد مالكوم من الحج واعتنق المذهب السني وأنشأ منظمة جديدة تحت إسم "المسجد الإسلامي" يدعو فيها جميع الأعراق والأجناس إلى التعايش بسلام وعاد باسم جديد كذلك هو الحاج "مالك شباز" الذي يشير إلى أصوله الأفريقية بعد أن كان قد غير اسمه من "مالكوم ليتل" إلى "مالكوم إكس" - حرف الإنجليزية X -وكان هذا إجراءاً معهوداً من قبل المنضوين في أمة الإسلام وهو يرمز إلى الاسم الأخير الذي سلب منهم جراء استعبادهم علي يد البيض إذ أن إكس ترمز في الرياضيات للمجهول وغير معلوم الأصل.
ويتابع مالك شباز نضاله ضد التمييز العنصري في أمريكا ناشراً فهمه الصحيح للإسلام، فالإسلام كما يذكر مالكوم:
"الدين الوحيد الذي كان له القوة في جعله يقف في وجه مسيحية الرجل الأبيض ويحاربها."
يقصد بذلك المسيحية التي حملها المستعمر في حملاته الصليبية على العالم، لقد أصبحت بذلك دعوة مالكوم عالمية فزار العديد من بلاد العالم وخصوصاً في القارة السمراء مؤسساً بذلك منظمة "الوحدة الأفروأمريكية".
حاول مالكوم تصحيح مفاهيم جماعة أمة الإسلام الضالة، فقوبل بالعداء والكراهية منهم وبدءوا بمضايقته وتهديده فلم يأبه لذلك، وظل يسير في خطى واضحة يدعو إلى الإسلام الصحيح الذي يقضي على جميع أشكال العنصرية.
وبتنامي الخلافات بين مالك ومنظمة أمة الإسلام، قامت المنظمة بإعطاء أوامرها الصريحة بقتله.
وفي الحادي والعشرين من شهر فبراير عام 1965 صعد مالكوم إلى منصة في قاعة مؤتمرات في مدينة نيويورك ليلقي محاضرة يدعو فيها إلى الإسلام فقام ثلاثة من أعضاء أمة الإسلام باغتياله.
مالكوم في الكفن قبل الدفن. ظهرت هذه الابتسامة على وجهه منذ حادثة قتله إلى اليوم الذي دفن فيه. وقبلها رفع إصبع السبابة بعد أن انزرعت الطلقات الستة عشر في جسده.
المنصة التي اغتيل عليها مالكوم إكس، ويظهر في الخلف على الحائط بعض الطلقات التي اخترقت جسده.
تعد مأساة استعباد الأفارقة السود على يد المستوطنين الأمريكيين طوال 400 عام أحد أشد فصول التاريخ عنفاً ووحشيةً وفي المقابل نشأت فصول من المقاومة والنضال قام بها الأفارقة السود منذ الأيام الأولى لاستعبادهم وإلى يومنا هذا.
ويعد الفيلم الذي صور عن حياة مالكوم إكس هو الفيلم الأجنبي الوحيد الذي سمحت الهيئة الشرعية في السعودية بتصويره في مكه. والفيلم مأخوذ عن قصة حياته التي كتبها معه "أليكس هالي" مؤلف مسلسل "جذور الشهير الذي يصور استعباد الزنوج في أمريكا.
|
ملصق فيلم مالكوم إكس عام 1992، بطولة دنزيل واشنطن. |
هناك من يدعي بأن الإسلام لم يقض على العبودية والرق في العالم وإنما من قضى عليه هو الغرب متمثلاً في أبرهام لينكولن ويأتون بالبراهين ويدافعون عن هذا الرأي دفاع المستميت.
إن ما يحدث الآن في الغرب عامة وعلى الساحة الأمريكية خاصة يبرهن على أن الإجبار على نبذ العبودية باستعمال القوة والقانون لم يؤد إلى أي نتيجة إيجابية وأن الواقع الذي نراه الآن هو ما رسخ في الوجدان ولم تغيره السنين والأيام وأن القناعات الداخلية لا تغيرها القوانين الوضعية وتظل ثقافات الشعوب هي التي تتحكم في حركته وانفعالاته وانفلاتاته التي يندفع إليها بدون أي وعي أو سابق تدبير.
أما الإسلام الذي ينكرون دوره في القضاء على استعباد الإنسان لأخيه الإنسان فقد غير ثقافة العبودية والرق عند المسلمين بأسلوب جميل ومحبب بالممارسة العملية. حتى أن المسلم اليوم قد يتمنى أن يجد عبداً في أي مكان لا لكي يقوم باسترقاقه وتسخيره وإذلاله ولكن لكي يعتقه ويكسب جراء ذلك الأجر العظيم الذي وعده به ربه.
فقد جعل الإسلام عتق العبيد يرتبط بحالات من البهجة والفرحة تحبب إليه هذا العمل وترغبه فيه. ففي العتق في كثير من الأحوال كفارة للكبائر والذنوب العظيمة وإذا كفرت الذنوب والكبائر كان أمل العبد المسلم في دخول الجنة أكبر.
وفي العتق أيضاً نجاة من القصاص إذا قتل المسلم إنساناً عن طريق الخطأ. وفيه كذلك كفارة عن عدم الوفاء باليمين. وفيه أيضاً كفارة الظهار. وفيه غير كل ذلك قربة إلى الله فمن عتق رقبة كانت له أمناً من دخول النار.
فنبذ العبودية والرق في الإسلام يرتبط بسعادة المسلم وفرحته. واستمر الحال كذلك منذ ظهور الإسلام حتى لم يبق هناك أي عبيد في الدول الإسلامية.
أما التمييز بين البشر على خلفية العرق أو لون البشرة أو الخلقة فقد كان لتركيز الإسلام على كراهته في كل صوره أن ترسخت في نفس المسلمين عقيدة قبول الآخرين ليس فقط كإخوة لهم في الدين بل ومرشدين ومعلمين وقواد على أساس واحد فقط وهو مدى تدينهم أو مدى تقواهم.
عاطف شوشه