الخميس، 5 ديسمبر 2019

آخر النازلين



هنا في الأسفل.

تحت الأرض.

حيث الضوء الخافت  يتسرب إلينا من الفتحة الصغيرة في الأعلى محاولاً أن يكشف لنا بعض ما في هذا المكان الضيق الرطب ذو الرائحة المميزة والسقف الواطئ  و الحوائط القاتمة.

هنا في هذا المكان حيث يعم السكون والصمت المطبق من حولنا جلست أنا وعم محمود القرفصاء جنباً إلى جنب نتأمل اللفافة التي أمامنا والتي أُحيطت بعناية بقماش أبيض ناصع البياض لم يؤثر فيه التراب الذي ترقد فوقه.

بعد فترة من الصمت لا أدري كم طالت قطع عم محمود السكون حولنا وقال بصوت خفيض يتناسب مع هذا الهدوء القسري الذي يحيط بنا: " هل تريد أن ترى آخر من نزل منكم إلى هنا ؟ " 
نظرت إليه نظرة ارتياب وسألته :"هل تعرفهم جميعاً؟" أجابني بصراحة: "لا ولكنني أستطيع فقط أن أميز آخرهم" 

لمعت عينا عم محمود في الظلام من خلف نظارته الطبية السميكة واستطالت أصابع يديه العشرة النحيلة  بشكل غريب وهو لا يزال في جلسته تلك حتى وصلت بأظافرها السوداء إلى اللفافة التي أمامنا وبدأت في فكها والكشف عما بداخلها. 

أشار عم محمود بسبابته التي استطالت أكثر من باقي أصابعه حتى وصلت إلى قطعة محددة من البقايا داخل اللفافة ثم قال واثقاً : " هذا هو"

سألته باستغراب : "وكيف عرفته ؟ ". أجابني ببساطة: " أعرفه من قطعة القماش تلك التي مازالت عالقة ببقاياه. أما الآخرين فقد تحلل قماشهم ولن نستطيع بعد الآن أن نفرق بين بقاياهم ".

جبنت فلم أستطع أن أمد يدي لألمس أيٌ من هذه البقايا المختلطة ولكنني لمستها وربت عليها كلها بناظري. 

كنت قد سلمت عليهم جميعاً حين وصلت. كل واحد منهم باسمه فاكتشفت أنني لست فقط أفتقد وجودهم في عالمي العلوي ولكنني  أفتقد أيضاً وبشدة أن أنطق بأسمائهم وأن أسمع نفسي وأنا أناديهم فأخذت أردد أسماءهم مراراً وأسلم عليهم تكراراً. 

البعض يقول ويؤكد أنهم يسمعوننا عندما نسلم عليهم بل ويسعدون بزيارتنا لهم. 

والبعض الآخر يقول أنهم لا يسمعوننا أبداً كما أخبرنا ربنا بذلك في كتابه الكريم.

لكنني على كل الأحوال قد أحببت هذا المكان وألفته نفسي وأتوق دائماً إلى العودة إليه ربما بسبب تلك البقايا التي أحببتها بدون أن ألمسها لأنها بقايا من أحببتهم أو ربما بسبب الهدوء و السكينة اللتان تملآن هذا المكان والراحة النفسية التي أحس بها هنا. أو ربما لأنني قد اقترب الوقت الذي سوف أصاحب فيه هذه البقايا وتصحبني هي الأخرى في الأسفل وتؤنسني حتى أصبح بقايا تختلط  معها ثم ننتظر سوياً زائراً آخر نسعد بزيارته معاً أو نزيلاً نؤنس وحدته حتى يصير بقايا تختلط بنا. 

خيم علينا الصمت  مرة أخرى ولم يقطعه هذه المرة إلا صوت العامل ينادي من الغرفة المجاورة يطلب المساعدة. 

خَفَتَ اللمعان في عيني عم محمود وعادت إليه نظرته المعتادة وعادت أصابعه إلى مكانها الطبيعي بعد أن خبأت كل البقايا بعناية فائقة في داخل القماش الأبيض مرة أخرى . 

قمنا من جلستنا ونحن نتكأ بكلتا يدينا على الحوائط الخشنة حولنا  ونحاذر السقف القريب من رؤوسنا.

تركنا اللفافة البيضاء العزيزة خلفنا وتقدمت عم محمود وبدأنا باحتراس شديد  نصعد السلم الرأسي الضيق ذو الدرجات الغير منتظمة حتى أصبحنا فوق الأرض مرة أخرى. 

صدمت أعيننا الشمس الساطعة تطل علينا من منتصف السماء. 




عاطف شوشه