السبت، 28 أكتوبر 2017

ويبقى الكتاب مفتوحاً نحو السماء



كانت الشمس قد مالت للمغيب وقد أخذ السكون يلف الأشياء إذ هدأت حركة الأحياء ترقباً لدخول الظلمة وكأن دخولها هذه الليلة ليس عادة أبدية أزليه

سكنت أوراق الأشجار وهجعت الطيور في أعشاشها فوق الأغصان وهي تضم صغارها بأعين مفتوحة لم يستطع أن يغلبها النعاس بعد وكأنها تنتظر حدثاً مريباً سوف
يأتي لا محالة



وكعادته الليلية بدأ جاهداً يقرأ ورده اليومي المعتاد من القرآن في مصحفه القديم متوسلاً بنظارته الطبية السميكة وقد بلغ منه الكلل والوهن مبلغه. أخذ يقرأ ويقلب الصفحات غير عابئ بعامل الزمان من حوله. وكلما خفت ضوء الشمس وهي راحلة تسعى وراء الأفق إزدادت الأحرف أمام عينيه إزدهاراً وتألقاً. وهو يستمر في القراءة رغم هبوط الظلام وزحف العتمة على كل الأشياء من حوله

كلما إزدادت العتمة زاد الإشراق
كلما أوغلت الظلمة إنبثق النور

لاح شيطان كالطيف فوق كتفه الأيسر واختفى بسرعة داخل رأسه. كل من أخلصت في حبهم  خانوك. كل أصدقاء عمرك تنكروا لك عندما كنت في أمس الحاجة إليهم. كل من أحسنت إليهم وعطفت عليهم أساؤوا إليك. أفنيت حياتك تسعى خلف الأوهام ولم يبق من عمرك ما يكفي من الوقت ولا الجهد لتبدأ البحث من جديد عن الحقيقة.  والبيت الذي بنيته فوق السحاب واهنٌ ملئٌ بالشراك كبيت العكنبوت

يتشبث بكتابه ويستمر في القراءة رغم مهاجمة الأفكار السوداء

قفز شيطان  ثان أمام عينيه لف ودار حول الكتاب المفتوح فوق فخذيه ولكنه لم يلتفت إليه واستمر في القراءة بشغف عظيم.  لوح الشيطان بذراعيه في الهواء وتلقف بيديه كرتين متوهجتين من النار. أدخل الكرتين على الفور في مفصلي ركبتيه فاشتعلتا في الحال. إهتز الكتاب قليلاً ولكنه لم يسقط

لم ينتبه كثيراً إلى ما حدث رغم الألم المبرح واستمر في القراءة بنشاط على الرغم من الأفكار السوداء والإشتعال

والأحرف أمام ناظريه تزداد بهجة وسعاده

أِسْتُدعي شيطان آخر. وبعد أن عبر من خلاله عدة مرات جيئةً وذهاباً أخرج من جعبته مطرقة حديدية هائلة وجاء من خلفه وتلمس الفقرة التالفة في عموده الفقري وأخذ يطرق فوقها مباشرة بكل قوة ومهارة

أثاره ما حدث للحظة قصيرة ولكنه استمر في التلاوة على الرغم من الأفكار السوداء والإشتعال والطرق

كلما إزداد الألم إزدادت الأحرف نوراً وازداد الكتاب لطفاً وإشراقاً

ظهر شيطانان آخران يحملان منشاراً لقطع الأشجار وبدءا عل الفور عملهما بهمة وحيوية أسفل رأسه مباشرة. إهتزت رأسه قليلاً ثم عادت لإتزانها واستمر في إستغراقه في القراءة رغم الأفكار السوداء و الأشتعال والطرق والنشر

كلما إزداد الألم زالت الحجب وتعرت الأحرف وانكشفت الكلمات عن معانيها المستترة

شيطان آخر أمسك مثقاباً وأخذ يحدث الثقوب العميقة واحداً تلو الآخر في عظام الرأس الصلبة

أستمر في القراءة رغم الأفكار السوداء والإشتعال والطرق والنشر والثقب

الآن صارت الضوضاء واقعاً لا يحتمل والألم الجسدي ليس له نظير يعجز عن تحمله البشر وتعجز عن وصفه الكلمات

فجأة تهدأ كل الأصوات
تسكن كل الأوجاع والآلام
تغادر جميع الشياطين
تغلق العينان المفتوحتان
تنتشر الراحة والطمأنينة في أرجاء الجسد الواهن
ترتسم على الوجه إبتسامة أخيرة
ويغادر شيئا ما

ويبقى الكتاب مفتوحاً نحو السماء









كتب هذا المقال وحرره/ عاطف شوشه