الاثنين، 23 مارس 2020

منذ أدركت أنك بداخلي وأنا أطوف حولي (الحلاج)


قالت مناجية وهي تجلس على حافة شرفتها الليلية
قلت لي أني يوماً سوف ألاقيك ؟




مرت أعوام وسنين وأنا أنتظرك. لم تخبرني أين ومتى ألقاك. ولكنني كل يوم في شوق أنتظر لقاك.

لماذا هذا الإبهام؟


من شوقي إليك في كل الأشياء أراك.أرى منك شاهداً عليك.أرى منك دليلاً عليك . تبعث لي برسائل يومية توحي لي أني اليوم سألقاك. توهمني أني أتلقى منك اليوم هديه.



أنظر في وجه المـارة.
فـي كـل مـنهـم شـئ مـنك.
لا أحـد فـيـهـم مـثـلـك يـشبهك.
السماء الزرقاء فوقي فيها شئ منك.
الأرض المبسوطة تحتي فيها شئ منك.
الأشجار الخضراء من حولي فيها شئ منك.
الأنـهار الصافـيـة تجـري أمامي فيها شـئ منك.
أمــشـي و أمــشـي كـل الأشــيـاء فـيـها شـئ مـنــك.
أهـيم في كل مـكان أبحث عـنك . كـل مـكان فيه شئ منك.
أرحـل فـي كـل زمـان لـعـلي ألـقـاك . كـل زمـان فيه شئ منك.
أفتش عنك وراء ستار المعنى المـبهـم. كل خفي المعني فيه شئ منك.
أقلب كل كتاب أبحث عنك وراء عصي الكلمات. كل الكلمات فيها شئ منك.


أمشي حتى أصل إلى حافة أرضي . يدركني الليل والجهد ولا أجدك. وأكاد أن أسقط فيما بعد الحافة .

لماذا أخفيت نفسك عني ؟

إن كنت حقاً تراني فأنت تـراني وأنا دوماً أبـحـث عنك.
إن كنت حقاً تراني فأنت تراني وأنا أهبط الوديان بحثاً عنك.
إن كنت حقاً تراني فأنت تراني وأنا أصعد الـجـبـال بحـثاً عنك.
إن كنت حقاً تراني فأنت تراني وأنا أجوب الصحـاري بحثاً عنك.
إن كنت حقاً تراني فأنت تراني وأنا أخوض مياه الأنـهار بحثاً عنك.
إن كنت حقاً تراني فأنت تراني وأنا أســبـح فـي الـفــضـاء بـحـثاً عنك.


هل أخفيت عني موعدك معي كي تعذبني. هل تراني الآن وأنا أجوب الآفاق أبحث عنك. هل ترضيك حيرتي . هل يسعدك تيهي بين سمائي وأرضي. هل أنا مهين كي لا تلحظني. هل أنا من الضآلة كي لا تراني.

فتشت في أغوار النفس عن رسالة منك فيها موعد لقياك.

لم يلقني في داخلي إلا نفاقي.
لم أصادف في داخلي إلا زيـفي.
لم أجد في داخلي إلا فراغاً وخواءاً.
لم أقابل في داخلي إلا ظلاً تائه بين ظلال.
أحوم حول نفسي وأتـوهـم أنـي أمـشـي إلـيـك.
أغلق عيناي حتى لا تراك وأسألك أن تتجلى علي.
أصم آذاني عن ندائاتك و ألومك على صوتك الخفيض.
إعطي ظهري للشمس وألوم الظلمة التي لا تفصح عنك.
أتشبث بمكاني فوق الأرض وأتوهم أني أسرع الخطى إليك.



قالت مناجية وهي تجلس على حافة شرفتها الليلية:

قلت لي أني يوماً سوف ألاقيك ؟



في كل مساء أقف أمام المرآة كي أتجمل لك. 
ألبس أبهى أثوابي لعلك تلقاني.
أتعطر أسمى عطوري لعل رائحة العطر تقود إليك.
أجلس إلى نافذة أظن أن أزهارها تطل عليك.
أرنو إلى طريق أظن أنك تأتي منه.
أتطلع إلى سماء أظن أنك تهبط منها.
أحدق في أرض أظن أنك تخرج منها.
تخايلني أشجار أظن أنك تتوارى خلف ظلالها.
تلمع في عيني نجمات أظن أنك تجلس فوقها.
يغمرني ضوء من قمر أظن أنك أنت ضياؤه.


أقـرأ فـجـراً كل الأوراد.
أصلي صـبحاً كل صـلاة. 
تـخـذلني ليلاً كل ظـنوني.
لا النـافـذة تـطـل عـليــك.
لا الـطـريق يـفضي إليك.
لا السـمـاء هـي سـمـاؤك.
لا الأرض هـي قــرارك.
لا الـظـلال هـي ظــلالـك.
لا النجـمـات هي مـجلسك.
ولا ضوء القمر هو نورك.

في كل هذي الأشياء شئ منك تدركه روحي ولكن لا تراه نفسي.
وأنا لا زلت أتردد في حيرتي.

متى ألـقـاك.
أيـن ألـقـاك.
وكيف اللقيا.

عاطف شوشه

الجمعة، 13 مارس 2020

الموت محلقاً



أنضو عني أثقالي.
أقرأ تعاويذ التحصين.
أتلو أوراد الرحمة والتوبة.
أدعو أدعية التيسير و التوفيق.
أحاول التحليق مرة أخرى إلى السماء.


يدهشني أنني قد تحررت أخيراً. أبدأ في الإرتقاء والصعود إلى الأعلى. تلفحني نفحات علوية من رضا ربي. أتوهم أنني سأواصل الصعود الإرتقاء. أفيق من سكري عندما يؤلمني قيدي الذي لا يزال في معصمي معقوداً إلى أرضي. يجذبني القيد ثانية إلى الأسفل فأعود هائماً كريشة يتقاذفها الريح لا يقر لها قرار فوق الأرض أو في السماء. 

إلهي . . . أنا طائر كسير ذليل ينظر كل صباح بشغف إلى زرقة السماء ويتوق أن يطير فيصل بجناحيه إلى السحب البيضاء حيث النقاء لا تحده حدود وحيث الصفاء لا تقيده قيود . يتوق أن يدنو قليلاً من دفء شعاع الشمس الذهبي أويسبح متوحداً في ضوء القمر الفضي.

إلهي . . . أنا طائر كلما حرك جناحيه مرفرفاً  وقبل أن يتمادى في فرحه بالصعود إلى أعلى يجذبه هذا الخيط المربوط في ساقه المعقود على الأرض في كف طفل صغير يلهو به فيعود هابطاً مخذولاً جريحاً منكس الرأس ويذوي تحت قبة الفلك حزيناً منتحباً ينتظر في ذلة ومهانة أن يطعم فتات الخبز الذي يلقى إليه فوق التراب.

إلهي . . . أين مني هذا الفضاء الرحب الواسع أختار من الأغصان ما أشاء أن أقف عليه مرفوع الرأس مغرداً أو أن أبني فوقه عشاً عالياً لا تصل إليه ديدان الأرض. أطعم من رزقك الوافر في ملكك الواسع بغير حساب. أشكر نعمتك ربي وألهث بذكرك خالياً وأناجيك. 

إلهي . . . متى تحررني قدرتك من عبودية قيدي إلى عبوديتك أنت وحدك. متى يستقر الجبل من تحتي وتريني أنظر إليك. متى ترفعني فوق ذنوبي بعد أن أوشكت أن أكون تحتها مغموراً مقبوراً. متى تكشف لي الحجب حتى أرى بهاء نورك الأبدي يتجلى في حضرتك العلية.




إلهي . . . سار إليك السائرون وسلك دربك السالكون وكشفت السر للمحظوظين واجتبيت إليك من أحببت وفضلت علي من خلقك أناسي كثيرة.
فسائر إليك بالمحبة وقد وصل
وسائـر إليك بالزهد وقد وصل
وسائر إليك بالإخلاص وقد وصل
وسائر إليك بالورع وقد وصل
ومن أصبح مقرباً من جنابك واقفاً بأعتابك لم يعمل عملاً يعلمه لكنه بفضل منك قد وصل.

إلهي . . . بسطت إليهم يدك فأخرجتهم من عتمة الحيرة فأدركوا من كرمك نوراً وتلقوا من عطفك حبوراً وآتيتهم من لدنك علماً وكشفت لهم الطريق إليك جلياً. فبأي ذنب إقترفته روحي لم أكن من عبادك المصطفين الأخيار. إن كانت نفسي التي حبستني فيها هي التي تحجبني عنك فحررني من عبوديتها وأسرها. أعوذ بك ربي أن أعترض على قدرك أو أن أُعمل عقلي في حكمتك.

إلهي . . . تشعبت بي الطرق و اختلطت في عيني الدروب أفلا دليل منك يقودني إلى بابك. أما من جبل يعصمني من طوفان نفسي. أما من سفينة تبحر بشوقي إليك. أما من جودي تستوي فوقه روحي. أما من أرض أهبط عليها بسلام منك وبركات.

إلهي . . . وكيف أمشي وأنا لا أميز البئر من الطريق.

إلهي . . . وكيف أهـتـدي وقـد فـقـدت الـصـديـق.

إلهي . . . وكيف أخطو وأنا لا أعـلم السبيل.

إلهي . . . وكيف آنس وقد عدمت الرفيق.

إلهي . . . إن لم آنس بك فلا مؤنس لي.

إلهي . . . إن لم تهدني سواء السبيل أبقى لصيقاً إلى أرضي.

إلهي . . . إن لم تدركني أظل مقيداً إلى رسني تلعب بي الأهواء وتخايلني الأوهام.

إلهي . . . قد أرى الضوء في آخر الطريق ولكن ذنوبي أثقلت جناحاي أن أطير تجاهه وأعجزت خطاياي قدماي أن أسير إليه.

إلهي . . . أثقلتني نفسي بالرغبات وبالشهوات حتى إنغرست ساقاي  في الأرض كشجرة يابسة لا ظل لها ولا ثمار.

إلهي . . . إغفر لي وتب علي وارحمني وقربني إليك. إن أكن شقياً فملكوتك أوسع أن يشملني. 

إلهي . . . أما آن الأوان للضرير أن يبصر قبساً من الضياء. أما آن للمسكين أن يدركه التوفيق فيصبح من الأغنياء.

إلهي . . . سنين العمر قد شارفت على النهاية وأنا لا زلت على الطريق أتعثر في البداية.

إلهي . . . روحي طائر يحرقه العشق لِرُبى السماوات العلى ونفسي طفل غِرير يلهو بقيدها.

إلهي . . . أفلا مددت إلي يداً من لطفك أصل إليك أم سأظل معلقاً بين الأرض والسماء وأموت بينهما محلقاً.

عاطف شوشه

الخميس، 12 مارس 2020

هم جميعاً أبناؤنا



هم جميعاً أبناؤنا ونتاج مجتمعنا ونتاج الإرث الثقافي والحضاري الذي نورثه لهم نحن جيل الآباء والأجداد.

وهم أيضاً نتاج طريقة تربيتنا لهم وتعاملنا معهم إن أخطأوا أو أحسنوا. وكل منا له نصيبه من تربية أبناء هذا الجيل سواءاً منا من رزقه الله بأولاد أو حتى من لم يرزقه.
و سواءاً منا من كان دوره مباشراً وإيجابياً في التربية كالمعلمين والكتاب والأساتذه وغيرهم و من كان دوره غير مباشر أو يعتقد أن دوره سلبياً ويكتفي بتربية أولاده وأداء النصح الخاص لهم.

كلنا مشتركون وكلنا جزء من منظومة التربية لكل أبناء مجتمعنا حتى وإن لم تربطنا بهم صلة قرابة أو صداقة من نوع ما. فنحن جميعاً مسؤولون عن الحالة العامة للمجتمع الذي ينشأ فيه هؤلاء الشباب.

يروى أن بعض المريدين كانوا يسيرون مع شيخهم فرأوا بعض الشباب في مركب في النهر يشربون ويغنون ويلهون فطلبوا من شيخهم أن يدعو الله عليهم فقال الشيخ "اللهم أدخلهم الجنة" فتعجب أصحابه من ذلك وقالوا له: "نحن نسألك أن تدعوا عليهم لا أن تدعوا لهم." فقال لهم الشيخ : "حتى يدخلهم الله الجنة فسوف يهديهم بداية إلى الطريق القويم في الدنيا وهذا أكثر فائدة لهم و للمجتمع من أن أدعو عليهم".

قال الله تعالى"ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً فلا يسرف في القتل". هذه دعوة من الله تعالى إلى من ظلم بالقتل بعدم الإسراف في القصاص حيث أن القتل هو أصعب شئ على النفس أن تتقبله وأن تسامح من قام به. فأولى بمن ظلم بما هو أقل شأناً وخطراً من القتل ألا يسرف في الأخذ بحقه ممن ظلمه.

توجهت إلى بوابة القرية الشاطئية التي وصلنا إليها أمس وقت صلاة العشاء تقريباً بعد أن لاحظت أن هناك تجمعاً من بعض الملاك حول سيارة شرطة كانت تقف هناك في مشهد غير مسبوق ويصحبها ضابطين ومدير أمن القرية. وأنا أقر بأن الحدث الذي أفضى إلى هذا المشهد في حد ذاته لا يستحق كل هذه الأهمية ولكن ردة الفعل المفاجئة من بعض ساكني القرية هو ما دفعني إلى كتابة هذا التعليق. فقد قام أحد الشباب وهو مهندس يعمل في إحدى شركات البترول التي تزاول عملها بالمنطقة والذي يسكن بمفرده في أحد الشاليهات بمعاكسة إحدى فتيات القرية.

وبعد دقائق قليلة كنت قد ألممت بالموضوع بسرعة وبدون أن أسأل سؤالاً واحدً. ووقفت أراقب مايتوالى من أحداث. جاء بعد قليل أحد الملاك ليطمئن على سير الموضوع على حد قوله ثم قال" الولد ده  إحنا عارفين الشركة إللي بيشتغل مهندس فيها وممكن نروح نشتكيه هناك".


وتعجبت كثيراً هل يصل بنا الأمر إلى حد الإضرار به في عمله وقد يصل الأمر إلى أن يفقد وظيفته أو على أقل تقدير يفقد إحترامه أمام رؤسائه ويفقد الهيبة أمام مرؤسيه. كل هذا لمجرد أننا قد امتلكنا القدرة على العقاب وأمسكنا بهذا الشاب متلبساً بالجرم المشهود. هل حب الإنتقام وشهوته أصبحت أمراً عادياً حتى ممن لم يقع عليه الظلم. هل هو النفاق المجتمعي الذي تفشى في مجتمعاتنا ويتباهى به الكثيرون بلا أدنى خجل.

حدث عادي جداً يحدث في كل مكان وفي كل وقت لا يستدعي كل هذا الإنفعال والتشنج المبالغ فيه. تحدث كل يوم أمام أعين الكثيرين أشياء أكثر خطراً من هذا ونجد هؤلاء أنفسهم يتظاهرون بأنهم لم يلاحظوا ما حدث ويتجنبون حتى أن ينظروا في وجه الفاعل وإذا حدث وتلاقت النظرات يبتسمون له كالمؤمنين على فعله جبناً وخوفاً من المواجهة.


لماذا يتناسى الجميع كبيرهم قبل صغيرهم أن هؤلاء هم جميعاً أبناؤنا ونتاج مجتمعنا ونتاج الإرث الثقافي والحضاري الذي نورثه لهم نحن جيل الآباء والأجداد.

الجمعة، 6 مارس 2020

الـكــعبــة بـاقــيـة

     
إخلاء صحن الطواف حول الكعبة وبناء جدار حولها
                               

الحرمان على ثلاثة أشكال. حرمان التمني وحرمان الندم وحرمان الحسرة أيسرها على النفس حرمان التمني وأقساها حرمان الحسرة.

أما حرمان التمني فهو أن يتمنى الإنسان من الله نعمة لا يملكها فهو لم يختبر الإحساس بها من قبل ولم يعرفها وإن كان قد سمع بها. كمن يتمنى أن يكون له مال ولكنه لم يعرف لذة الإنفاق أو كمن يتمنى أن تكون له ذرية وهو لم يعرف حب الأولاد والبنات أن يكونوا من صلبه هو.  والإنسان في مثل هذه الحالات يتمنى وإن لم تتحقق أمنيته يغلب عليه الإحساس بالحرمان.

أما حرمان الندم فهو أن يكون الإنسان في نعمة من الله ويكون قد تنعم بها وعاش فيها  فترة من عمره ثم تنقطع عنه هذه النعمة لسبب أو لحكمة لا يعلمها إلا الله. كمن يفتقر بعد الغنى أو كمن يفقد الأهل ويصير وحيداً في حياته. فهذا عرف النعمة ومارسها وعاش لذاتها فإذا انقطعت عنه أصابه الندم على فقدانها وأحس بالحرمان.

أما حرمان الحسرة فهو أن تكون النعمة لم تزل مملوكة لصاحبها وفي متناول يده ويكون قد تنعم بها من قبل ويعرف لذاتها ولكنه لتغير الأحوال أصبح لا يستطيع التنعم بها كمن حرم الطعام لمرض في جسده فهو يملكه في بيته ولكنه لا يستطيع أن يتناوله وإلا أصابه الضرر في صحته. فهذا تكون مصيبته في نعمته إبتلاءاً من الله عز وجل  فتتولد الحسرة في قلبه وهذا هو أقسى أنواع الحرمان.

والكعبة باقية لم تتهدم برجفة زلزال. ولم تغرق بماء طوفان. ولم تخسف بنائها الأرض. لم يرفعها الله إلى السماء ولم يغلبنا على ملكها غالب. ولكنها أمامنا ولا تزال بيننا ونصب أعيننا بكامل زينتها و بهائها وجمالها وجلالها ورفعتها وشموخها. ولكننا لا نستطيع أن نقترب منها رغم تعلق قلوبنا بها وحبنا الشديد لها وإيماننا الدائم بأن ديننا لا يكتمل لنا إلا بزيارتنا لها. 

فنحن وإن بعدت المسافة بيننا وبين الكعبة  أو إن قربت فلقد أراد الله لنا جميعاً أن نشعر بالحرمان منها حتى وإن لم يكن في نيتنا شد الرحال إليها  قريباً.

فنحن قد اعتدنا أن نشتاق إليها في كل يوم وفي كل ليلة من عمرنا ونحن نشتاق إليها حتى بعد زيارتنا لها ونشتاق إليها في نفس اللحظة التي نغادرها فيها.

اللهم  إنا نتوجه إليك بكل جوارحنا ألا تبعدنا عن جنابك ولا تطردنا من رحابك. اللهم لا تجعلنا أشقى عبادك عندك بمعصيتنا. اللهم إنا نبتهل إليك ابتهال من لم يخطر بباله عند مسألتك أحد سواك ونتضرع لعظمتك تضرع الخاضع الذليل من خضعت لك رقبته ورغم لك أنفه و نتشفع إليك برسولك الكريم وندعوك دعاء من يتبرأ إليك من حوله وقوته إلى حولك وقوتك أن تكشف عنا الغمة وألا تحرمنا أبداً نحن وجميع المسلمين من زيارة أحب بلادك إليك ولا من زيارة الكعبة بيتك الحرام.  

عاطف شوشه

الثلاثاء، 3 مارس 2020

في ليلة مقمرة





في ليلة مقمرة نظرت إلى السماء ثم تلفت حولي فلم أجده. اظطربت قليلاً وتسائلت كيف يمكنني العيش بدونه. درت حولي عدة مرات فلم أره في أي إتجاه.

سرت طويلاً أبحث عنه.

مررت بالمنزل الذي أسكن فيه ولم أستغرب أنني لم أحاول أن أدخل لألقي نظرة على عائلتي. زوجتي وأولادي الذين تركتهم نائمون في هدوء وسكينة وقطتي البيضاء التي أعتادت أن تنام على سريري تحت قدمي. لم أدخل حتى لكي أبحث عنه لعله يكون قد سبقني ودخل البيت مستأنساً بالدفء الذي يلف المكان في الداخل. نظرت إلى أعلى  رأيت الشرفة والنباتات التي كنت أرويها كل صباح والكرسي الذي اعتدت الجلوس عليه في شمس الشتاء الدافئة وأنا أقرأ في كتابي.

أستمر في السير. أمر على المسجد الذي أصلي فيه على أطراف الصحراء المجاورة يحيط به السكون من كل جانب. مصباح أخضر اللون يضئ الهلال الذي يعتلي المئذنة القصيرة. الشيخ يفتح الباب بهدوء وهو يبسمل ويحوقل. ينسل الآن داخلاً في صمت وجلال يضئ مصباح صغير في الداخل يظهر نوره على إستحياء من خلال النوافذ الزجاجية الملونة ولكنه لا ينفذ إلى  الفراغ الممتد خارج المسجد. هو الآن يتوضأ ثم يقرأ قليلاً متمماً ورد قرآنه ثم يؤذن لصلاة الفجر. بينما استيقظت مع حركته هذه الطيور الصغيرة التي استوطنت في إطمئنان الشجرة اللصيقة بجدار المسجد والتي تبدأ في الإستعداد ليومها المقبل. أمر أمام هذا المشهد المألوف ولا أفكر أن أدخل لأصلي أو حتى لكي أبحث عنه في الداخل ربما سبقني إلى الداخل وهو يصلي الآن أو يقرأ القرآن. 

أواصل السير أرى في الطريق مدرستي وأشاهد كل التفاصيل التي بداخلها. حجرة دراستي وأنا طفل صغير ونوافذها الواسعة التي تطل على الشارع العريض في الخارج. المعلمة التي أحبها كوالدتي والتي تحنو علي كثيراً. صديقتي الصغيرة التي أرتاح إليها وهي تجلس بجانبي ونرتدي نفس الزي كباقي تلاميذ المدرسة. الساحة الداخلية التي نمرح فيها غير عابئين بهموم الأيام القادمة. غرفة الموسيقى. غرفة الرسم. مكتب أبله الناظره. لم أفكر أن أبحث عنه في داخل المدرسة فقد يكون مختبئاً في حجرة دراستي القديمة يمارس لعبتي المفضلة في الإختباء و مفاجئة الأصحاب . 

لا أدري كيف وصلت بهذه السرعة من المسجد إلى المدرسة على الرغم من بعد المسافة بينهما حيث أنهما في حيين مختلفين حتى أني كنت أقود سيارتي طويلاً حتى أصل إليها. 

سيارتي التي رأيتها أمام منزلي أثناء مروري السريع وندى الصباح الباكر يغطي سطحها البارد لم أحاول أن أستعملها وأنا أبحث عنه.

أدركت في مسيري السور الحديدي الذي يحيط بالجامعة التي تخرجت منها. كل الأبواب مغلقة الآن. بعض الكلاب الشاردة تنام آمنة قرب البوابة الرئيسية حركت آذانها حين مررت بها وفتحت أنصاف عيونها ثم أغلقتها وأكملت نومها. لم أحاول إجتياز المدخل ذو الباب العالي فقطعاً لن أجده في الداخل في إحدى القاعات أو في أحد المعامل.

أمر الآن ببيت العائلة أرفع بصري إلى أعلى لعلي أرى والدتي في النافذة حيث تقف مودعة لي حين أنزل إلى الشارع أو منتظرة حتى أرجع  وكلها شوق وحنين لرؤيتي أعود سالماً. لكنني لم أرها في النافذة. لعلها تصلي الفجر الآن ولا تتوقع أن أكون أنا في الطريق أمر تحت شباكها وأتمنى رؤيتها تنظر إلي هذه النظرة الحانية . نظرت إلى نوافذ الجيران وشرفهم التي أعرفها جيداً وأعرف من يسكن وراءها لم يكن أي أحد منهم هناك. لم أصعد لأرى والدتي ولا لأبحث عنه عندها ربما يكون نائماً في سريري القديم في الغرفة المجاورة لغرفة أمي. 

غير بعيد من منزل العائلة هنا المكتبة العامة التي اعتدت أن أقضي فيها ساعات طويلة أيام شبابي مبهوراً بما احتوته من كتب ساحرة وقارئاً للكثير منها. أرى أمين المكتبة بنظارته الطبية السميكة وجسده النحيل وهو يجلس إلى مكتبه في مواجهة الباب. كل الكتب التي قرأتها أراها مرصوصة في أماكنها على الأرفف الخشبية العتيقة. لم أصعد السلم الحجري الدائري لأدخل إلى المكتبة لأبحث عنه على أحد رفوفها أو في داخل أحد كتبها الغامضة.

مضيت أسير في كل الطرقات التي أعرفها و ألفتها طوال حياتي. أرى تفاصيلها على الجانبين وأرى نفسي وأنا حولها صغيراً ألهو وألعب وشاباً أزهو قوياً فتياً وكهلاً أتوكأ على ذاتي. لكنني لم أعثر عليه أيضاً في أي طريق من هذه الطرقات.

أكملت المسير حتى وصلت إلى أرض شاسعة إنتثر فيها في هدوء وسكون تام خلق كثير من الرجال والنساء والأطفال فأتنست بهم ووجدت مكاناً قد أعد لي مسبقاً بينهم. كانوا كلهم صامتون ينظرون إلى السماء في هذه  الليلة المقمرة فجلست بينهم في مكاني ورفعت نظري أنا أيضاً إلى السماء. كانوا جميعاً يفتقدون مثلي هذا الشئ الذي كنت أبحث عنه.

كانوا جميعاً مثلي بلا ظلال.