الجمعة، 21 أبريل 2017

الجحيم هو الآخرين


إشارة المرور مزدحمة جداً بالسيارات. الطريقُ متوقفٌ تماماً. الحر خانق والرطوبة لا تحتمل. نرى أحد قائدي السيارات الخاصة يفك ربطة عنقه بحركات عصبية يظهر منها أنه على وشك الإختناق. يحاول فتح باب السيارة بجانبه والنزول منه ولكنه  لا ينفتح. يحاول فتح الباب المقابل ولكنه يتفاجأ بأنه أيضاً لا ينفتح. يبدو أن الرجل ذو المعطف الثقيل و القبعة المستديرة يختنق بالفعل وهو يحاول دون جدوى فتح أي من نوافذ سيارته بعد أن عجز عن فتح أي من أبوابها. يدق بكلتا يديه على زجاج السيارة ولكن دون جدوى. نشعر نحن أيضاً بالإختناق و الضيق الشديد ونحن نرقب هذا المشهد عن قرب يحيط بنا الظلام الدامس والسكون القاتل والترقب القلق من كل إتجاه.



حبل طويل يمتد لأعلى نتابع ارتفاعه حتى نصل ببصرنا إلى السماء. نفس الرجل الذي كان منذ لحظات يختنق داخل سيارته نراه مربوطاً في نهاية الحبل العلوية يسبح سعيداً في السماء بين السحاب الأبيض وهو مازال مرتدياً معطفه الثقيل وقبعته المستديرة وذراعاه في وضع عموديي على جسده وكأنه طائرة ورقية يحركها الهواء بلطف يميناً ويساراً.



لا أدري لماذا يرتبط عندي هذا المشهد الإفتتاحي لأحد الأفلام الإيطالية والذي أخرجه المخرج الإيطالي المشهور فلليني بالأبيض والأسود في أواخر السبعينيات بالعبارة الذائعة الصيت التي كتبها "جان بول سارتر" الفيلسوف الوجودي في مسرحيته "لا مفر" والتي تتكون من ثلاث كلمات فقط: "الجحيم هو الآخرين"







أبطال المسرحية كما أتذكرها أربعة أشخاص فقط بما فيهم الخادم. أما الثلاثة الآخرون فهم رجل وامرأتان. ثلاثتهم يعرفون جيداً أنهم يقادون إلى عذاب ما بعد الموت بسبب الخطايا التي ارتكبوها في دنياهم.



وبعد أن يقودهم الخادم واحداً تلو الآخر لهذه الغرفة التي ينتظرون فيها نقلهم مباشرة إلى الجحيم كي يتلقوا العذاب المناسب يكتشفون أن هذه الغرفة التي لا تحتوي على نوافذ أو مرآة وبها باب واحد هي نهاية رحلتهم الأبدية وأن الجحيم هو بقاؤهم هنا معاً يعذب بعضهم البعض عن طريق التحقيق في ذنوب كل واحد منهم ورغباته وذكرياته المؤلمة. وقرب نهاية المسرحية، يطلب الرجل الخروج من الغرفة لكي يستريح من هذا العذاب ويُفتح الباب ولكن لا أحد يستطيع الخروج بسبب الحرارة العالية ولكن هذه مجرد حجة نفسية وخوف من غير المعروف.


قد تكون العلاقة بين مسرحية سارتر والمشهد الإفتتاحي لفيلم فيلليني غير واضحة تماماً ولكننا إذا تأملنا قليلاً نلاحظ أن شعورنا بالإحتجاز رهينة لدى الآخرين بغض النظر عما إذا كنا نحبهم أونتقبلهم في سياق حياتنا اليومية أم لا وإعاقتهم لحركتنا وتعذيبهم المستمر لنا بسبب تدخلهم في شئوننا الشخصية وإعطاؤهم الحق لأنفسهم في الحكم على أفعالنا وعقيدتنا وإسداء النصح الدائم لنا هو نفس شعور الرجل  المحتجز  في سيارته المتوقفة عن السير والذي يكاد أن يختنق فيها ولا يستطيع الخروج منها سواءاً كانت الأبواب مفتوحة أم مغلقة.

كلما شعرت بالسجن في رغبات الآخرين وعجزي عن الخروج من قوالب الحياة التي فرضت علينا على الرغم من أن كل أبواب النجاة مفتوحة أمامنا لا أملك إلا أن أتذكر مقولة سارتر"العذاب هو الآخرين" يصحبها مشهد "فيلليني" والرجل الذي يكاد أن يختنق وحيداً في أحد القوالب التي إختارها طواعية ليعيش فيها حياته.

نحن لسنا بحاجة إلى الموت أو إلى جحيم ذو أسوارعالية يتضمن في داخله كل أنواع الشرور كي نشعر بالعذاب. 

يكفينا أن نحيا محتجزين مع الآخرين يعذب كل منا الآخر.