الأربعاء، 24 مارس 2021

ديـانـات ورســل - الـقـرابـيـن الـبـشـريــة


أعود مرة أخرى إلى مقدمة كتاب " جدل التنزيل " للكاتب العراقي " رشيد الخيون ".

وهوكما ذكرت سابقاً من هذه الكتب التي استمتعت جداً بقراءة مقدمتها لما جاء في فقراتها من أفكار جديدة ومثيرة ارتبطت سريعاً في مخيلتي بقراءات أخرى سابقة مما جعلني أعيد قراءتها عدة مرات مستغرقاً بشدة في كل ما جاء فيها وأرجع إليها مستشرفاً قراءاتي التالية مؤملاً الإجابة على تساؤلات عديدة أثارتها أفكار تلك المقدمة.

وأعيد هنا تلك الفقرات التي ذكرتها سابقاً ولها علاقة بالموضوع الذي أكتب فيه هذه المقالات. 

يقول د. رشيد : "قبل تفشي الظلمة بحلول العصور الوسطى وتشددها الديني الرهيب في الشرق والغرب على السواء كان المؤرخون يرون أن لا قيود على كشف الماضي". اهـ

ويقول رشيد: "كان الخلاف بين المسلمين حول أمور كثيرة ومنها خلافهم بشأن الله تعالى فما بال اختلافهم حول كتابه وأن هذا الإختلاف لم يؤثر على موقفهم منه". اهـ

ويقول أيضاً وهذا هو موضوعنا في هذه المقالات: " الكتب السماوية التي وصلتنا على ألواح طينية وقطع صخرية من عهد سومر وبابل ومصر القديمة استوعبنا بسهولة تسميتها بالأساطير رغم ما فيها من كلام مقدس ورد في الكتب الحالية ". اهـ

وقد يخلط الكثيرون بين مفهوم الأسطورة ومفهوم الخرافة فيعتقد أنهما مترادفان يدل كل من اللفظين عند استعماله على نفس المعنى الذي يدل عليه الآخر. ولكن هناك فرق هام جداً بين اللفظين في المعنى المقصود منهما. يقول الدكتور "عبد الحميد يونس": إن الأسطورة لها أصل تاريخي أما الخرافة فهي كلها محض خيال وليس لها أصل تنتسب إليه"

وأذكر هنا مثالاً آخر لديانات لم نعلمها أتى بها رسلاً لم نعلمهم ولكن بقي منها بعض طقوسها.  وكنت قد ذكرت في المقال السابق أول مثال لهذه الديانات وهو حدث "المعراج في الديانات الأخرى". وأنا أحرص على أن أتجنب الإساءة بأي وصف قد يتسبب في إهانة هذه الديانات أو الإنتقاص من قدرها وإنما موقفنا منها موقف الذي لا يعلم. فإنه وبنص صريح من القرآن كان هناك رسلاً لم يخبرنا الله عنهم ومن المؤكد أنه كانت لهم تعاليم وطقوس خاصة بدينهم السماوي أمرهم الله بها يعملون ويتقربون بها إليه  لم يطلعنا الله عليها.

المثال الثاني الذي نذكره هنا الآن هو قصة ذبح سيدنا إبراهيم الخليل لولده إسماعيل  التي هي ليست ببعيدة أبداً عن معتقدات بعض الديانات التي كانت موجودة في شمال الجزيرة العربية وخاصة في منطقة  "بطرا" و"دومة الجندل" والتي كان أصحابها يضحون أو يقدمون لآلهتها قرابيناً بشرية وليست بعيدة أيضاً عما كان يفعله قدماء المصريين كل عام من تقديم فتاة شابة جميلة كقربان بشري إلى  "حابي" إله النيل  كي يرضى ويفيض ماؤه. وليست بعيدة أيضاً عن الأساطير الإغريقية التي تقدم فيها القرابين البشرية لإرضاء الآلهة أو الوحوش الأسطورية.

عرب الجزيرة العربية



أما عرب شمال الجزيرة فكانوا يعبدون كوكب الزهرة ويضحون لها وهي المعروفة عند الديانات الأخرى باسم "فينوس" و"عشتروت" وأسماء أخرى متنوعة في بقاع أخرى من العالم وكان يعرف هذا الكوكب عند العرب باسم " العزى". 

ونلاحظ  هنا أن عبادة هذا الكوكب بالذات قد انتشرت في أماكن كثيرة في العالم لسبب ما لا أعلمه حتى الآن.

وكانت العرب تتقرب لآلهتها "العزى"  بقرابين بشرية وكانوا يضحون له بأجود أسراهم الذين أخذوهم في الغزوات ويفضلون لذلك الشباب منهم.

وكذلك عبدت "العزى" في الحيرة وكان ملكها المنذر يضحي لها أيضاً بأسراه وكان منهم أسيره ابن ملك "غسان" وكذلك ضحى لها عدداً كبيراً من راهبات العراق يروى أن عددهم كان أربعمائة راهبة وقعن في الأسر.

وكان العرب يريقون دم القربان الحار ويصبونه على رؤوس الأنصاب والأصنام تسكيناً لغضب الإله وطلباً لرضائه. والنصب هو الحجر الذي تذبح فوقه القرابين ويسمى أيضاً المذبح في بعض الديانات الأخرى.

ولقد امتدت عادة الذبح أو شعيرة إراقة الدماء في "منى" أيام الحج إلى ما بعد الإسلام.

ويروى أن الزهرة هي المرأة التي فتنت الملكان هاروت وماروت بعد أن أذعنا لها ووافقاها على شرب الخمر فسمحت لهما بمواقعتها فرآهما رجل فقتلاه خشية الفضيحة. فبذلك ارتكبا كل الكبائر التي كانت الملائكة تلوم ابن آدم على ارتكابها. حينئذ كشف الله الغطاء فرآهما جميع الملائكة وأقرا بذنبهما وخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة فاختارا عذاب الدنيا لأنه ينقطع أما عذاب الآخرة فهو خالد.

وكانت الزهرة قد تعلمت منهما الكلمات التي يصعدان بها إلى السماء فلما عرجت للسماء نسيت الكلمات التي يمكنها أن تعود بها للأرض فبقيت في مكانها وجعلها الله ذلك الكوكب الجميل.

ويروى عن عبد الله بن عمر أنه كان يلعنها كلما رآها ويقول هذه التي فتنت هاروت وماروت.

قدماء المصريين



أما قدماء المصريين فنعرف عنهم أكثر عاداتهم وطقوسهم الدينية مما دونوه محفوراً على الحجارة ولكننا نجهل مصدرها الأصلي ذلك لأن العلم عندهم كان من الأسرار التي لا يسمح بتداولها للعامة وكان مقصوراً على الكهنة فقط في داخل المعابد وكان العلم يلقن شفهياً أو عملياً ولم يكن أغلبه مدوناً خشية تسربه إلى الخارج. وهذا ما يبدو لنا حتى الآن من شأنهم. 

ومما هو مؤكد أن الحضارة المصرية لم تعرف القرابين البشرية في أي عصر من عصورها لأي إله مهما علا شأنه. ولو كان هذا من طقوسهم الدينية لوجدناه محفوراً على الأعمدة أو منقوشاً على حوائط معابدهم.

وعيد وفاء النيل الذي يتحدث عنه المؤرخين كان موجوداً بالفعل وتقدم للنيل فيه قرابيناً غير بشرية فضلاً عن الفواكه والخضروات والزهور. 

الأساطير الإغريقية



وقريباً من مصر أبصر "بروسيوس"  وهو في السماء مرتدياً الحذاء المجنح الذي أهداه له الإله "هرميس" ليتم به رحلته المخيفة للقضاء على "ميدوسا" . أبصر من الأعلى "أندروميدا" الجميلة ابنة "كاثيوبيا"  وهي مقيدة على صخرة على شاطئ البحر كقربان تنتظر وحشاً بحرياً ضخماً  ليلتهمها.

تروي الأسطورة أن "بروسيوس" كلفته الآلهة بمهمة خرافية تعجيزية وهي أن يقطع رأس "ميدوسا" التي كانت نظراتها تحول كل من ينظر في عينيها إلى حجارة وكانت تعيش هي وأخواتها (الجورجون) على حافة العالم حيث لا شمس ولا قمر. 

عطف عليه "هرميس" رسول الآلهة فأعاره حذاءه المجنح كي يطير به ويصل إلى حيث مكان "ميدوسا". ورقت له "أثينا" فأعطته درعها الذي يلمع كالمرآه ليرى فيه صورة "ميدوسا" فيقتلها دون أن ينظر في عينيها.

وفي مملكة اثيوبيا كانت الملكة "كاسيوبيا" تتفاخر بأنها أجمل من الحوريات بنات "بوسيدون" إله البحر. فغضب "بوسيدون" كثيراً لجرأتها وتكبرها فأرسل تنيناً بحرياً ضخماً يهدد المملكة كلها ولا يهدأ أو يتراجع حتى تقدم "كاسيوبيا"  ابنتها الوحيدة  الجميلة "أندروميدا" كقربان له . 





رأى "بروسيوس" في رحلة عودته وهو في السماء "اندروميدا" وهي مقيدة إلى صخور البحر وكان يحمل رأس "ميدوسا" فرفعها في وجه التنين فتحول إلى حجارة وتحطم في الحال وأنقذ "اندروميدا". ويلقب "بروسيوس" في الأساطير الإغريقية بأنه " قاطع رأس ميدوسا ومنقذ المرأة المسلسلة".

الذبيحين إسماعيل وعبد الله

نحن نستهجن تماماً أذ نعلم أن بعض الديانات القديمة أو الوثنية كما نسميها والتي عرضنا بعضها قد أقرت بتقديم قرابين بشرية لآلهتها ولا نستهجن فعل  سيدنا إبراهيم من شروعه في ذبح إبنه  ووحيده إرضاءاًً لربه ولم يكن  سيدنا إبراهيم يعلم وهو يجري السكين على عنق إسماعيل عدة مرات أن الرب سيتدخل في اللحظات الأخيرة بل كان ماضياً بكل همته ليتم الذبح امتثالاً لأمر ربه.

وقد نزعم أن تقبل إسماعيل لطلب  سيدنا  سيدنا إبراهيم بذبحه إذعاناً لطلب الرب وإرضاءاً له كان  لسابق علمه ومعرفته  بطقوس ديانات أخرى من أهمها تقديم قرابين بشرية لآلهتها.



وفضلاً عن تقبل إسماعيل الأمر فقد تقبلته أمه هاجر كذلك بإيمان ويقين وهي تعلم أنها سوف تفقد إبنها الوحيد ولكن إرضاء الرب عندها والإيمان به كانا أعلى مرتبة من فقدان الولد.

فإذا كانت هناك خلفية دينية موروثة سببا ً في تقبل هاجر و إسماعيل فكرة الذبح فإننا نقر أيضاً أن الأنبياء قد وهبهم الله علماً خاصاً من لدنه ومنهم  سيدنا إبراهيم وإسماعيل وبهذا العلم  قد تقبلوا عقيدة القرابين البشرية.  

ثم تأتي بعد ذلك بسنين طويلة قصة نذر "عبد المطلب" ذبح ابنه "عبد الله" والد سيدنا" محمد" عندما نازعته قريش على  ماء بئر زمزم  ليؤكد هذا النذر بقاء هذا المعتقد أو هذه الديانة التي تحل القرابين البشرية كوسيلة لإرضاء الرب. 

وكان أن نذر عبد المطلب ذبح أحد أبنائه عند الكعبة عندما نازعته قريش على الكنوز التي ظهرت له عند حفره بئر زمزم عند الكعبة وكانت غزالتين من ذهب اللتين كانت جرهم قد دفنتهم حين أجلت عن مكة حين أغار عليها أعداءها، ووجد فيها أيضاً أسيافاً قلعية وأدرعاً  فنذر لإن رزقه الله بعشرة أبناء يؤازرونه ويحمونه ويدفعون عنه إجحاف الآخرين مثل ما فعلت قريش ليذبحن أحدهم عند الكعبة. 

ولقد هم عبد المطلب وفاءاً لنذره وبعد أن رزق بعشرة أبناء أن يذبح ابنه عبد الله عند الكعبة بعد أن خرجت عليه القداح دون بقية أبنائه عدة مرات ولكن قريشاً منعته حتى لا يستن سنة يتبعها من بعده. واقترحوا عليه أن يستشير في الأمر أحد الكهان الذي أشار عليه أن يفدي عبد الله بذبائح من الإبل. ضرب عبد المطلب القداح عند الكعبة عدة مرات فكانت كلما خرجت على عبد الله زاد في عدد الإبل بمقدار دية قتيل حتى بلغ عددها مائة فافتدي عبد الله بهذا العدد من الأبل.

خاتمة

أليس من الممكن إذاً أن تكون هذه الأديان التي كانت تقدم قرابيناً بشرية كانت أدياناً سماوية ونحن لم نعلم زمانها ولم نعلمها ولم نعلم رسلها مما لم يخبرنا الله تعالى بها. يقول جل جلاله : "وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ"؟

أو أن " الكتب السماوية التي وصلتنا على ألواح طينية وقطع صخرية من عهد سومر وبابل ومصر القديمة استوعبنا بسهولة تسميتها بالأساطير رغم ما فيها من كلام مقدس ورد في الكتب الحالية "

وأنا أرى أنه من المنطقي تماماً ألا نحاول أن نجد ربطاً زمانياً بين رسل وديانات قديمة لا نعلم عنها شيئا مما لم يقصه الله عز وجل علينا وبين ما هو معروف لنا من ديانات أخرى قص الله علينا بعضها في كتبه المقدسة.

والله أعلم.


عاطف شوشه





الخميس، 11 مارس 2021

ديانات ورسل - المعراج في الديانات الأخرى

 



أستمتع كثيرا بقراءة مقدمات الكتب إذ هي تفصح على وجه السرعة عما انتوى الكاتب أو المحقق  أن يقدم لنا ولماذا بذل هذا الجهد في إخراج كتابه وما يريد منا أن نفهمه وما يريد أن يبقى في أذهاننا بعد الفراغ من قراءته. 

وكثيراً ما أعود إلى المقدمة بعد أن أكون قد قطعت شوطاً طويلاً في قراءة الكتاب لأتأكد من أنني أفهم جيدا ما أراده الكاتب من كتابه وأنه لايزال على نفس النهج  أو الهدف الذي من أجله كتب كتابه والذي أعلن عنه في المقدمة ثم أقرر حينها أن أكمل القراءة أو أتوقف وأنحي الكتاب جانباً.

وأنا أحاذر جيداً أن أتأثر بمقدمة الكاتب التي يحاول فيها أن يجعلني منحازاً لآرائه وأفكاره وأن يستحوذ على فكري فلا أقارن أو أنتقد ما كتبه واعتبره من المسلمات.

وأذكر هنا كتاباً من هذه الكتب التي استمتعت جداً بقراءة مقدمتها لما جاء في فقراتها من أفكار جديدة ومثيرة ارتبطت سريعاً في مخيلتي بقراءات أخرى سابقة مما جعلني أعيد قراءتها عدة مرات مستغرقاً بشدة في كل ما جاء فيها وأرجع إليها مستشرفاً قراءاتي التالية مؤملاً الإجابة على تساؤلات عديدة أثارتها لدي أفكار تلك المقدمة.

هذا الكتاب هو " جدل التنزيل " للكاتب العراقي " رشيد الخيون ". 

وأنا هنا سأذكر فقط تلك الفقرات التي لها علاقة بالموضوع الذي أكتب فيه هذه المقالة. يقول د. رشيد : 

قبل تفشي الظلمة بحلول العصور الوسطى وتشددها الديني الرهيب في الشرق والغرب على السواء كان المؤرخون يرون أن لا قيود على كشف الماضي". ويقول رشيد: 

"كان الخلاف بين المسلمين حول أمور كثيرة ومنها خلافهم بشأن الله تعالى فما بال اختلافهم حول كتابه وأن هذا الإختلاف لم يؤثر على موقفهم منه"

ويقول أيضاً وهذا هو موضوعنا في هذه المقالة:

" الكتب السماوية التي وصلتنا على ألواح طينية وقطع صخرية من عهد سومر وبابل ومصر القديمة استوعبنا بسهولة تسميتها بالأساطير رغم ما فيها من كلام مقدس ورد في الكتب الحالية ".

أحسست بصدمة معرفية مثيرة بعد قراءة هذه الفقرات وخاصة الفقرة الأخيرة وتداعت أمثلة كثيرة في مخيلتي من سابق قراءاتي تنطبق عليها تماما هذه الفكرة الجدلية.

هي أمثلة مما جاء في الديانات القديمة التي أطلقنا عليها صفات تهينها وتنتقص من قدرها نظن أننا بذلك نرفع من قدر الإسلام رغم ما دعت إليه هذه الأديان من فضائل الأخلاق وعبادة الرب الواحد وحب الآخرين واحترامهم والرحمة بكل مخلوقات الله على أرضه. 

فإذا كان هناك فرضية ما بأن هذه الأديان سماوية ولكننا لم نعلمها فإننا قطعاً نأثم بالإساءة إليها وبما ننسبه لها مما هو ليس منها متعمدين توجيه الإتهامات المخزية لها. 

ولا ننسى أو نتناسى أن الله قد جمع بعض هذه الأديان  التي لا نعترف بسماويتها مع السماوية منها في آية واحدة وقال لنا أنه هو وحده المختص بالفصل بينها. يقول الله عز وجل "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَىٰ وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ" (17)(الحج). أي أنه عز وجل منعنا من الحكم على هذه الأديان أو على متبعيها لأن هذا من اختصاصه وحده وما هذا إلا لقلة علمنا مقارنة بعلم الله وكذلك لعجزنا عن الإحاطة بالأمور كلها قديمها وحديثها قريبها وبعيدها. 

على الرغم أيضاً من علمنا وبنص صريح من القرآن أن هناك رسلاً لم يخبرنا الله عنهم ومن المؤكد أنه كانت لهم تعاليم وطقوس خاصة بدينهم السماوي أمرهم الله بها يعملون ويتقربون بها إليه  ولم يطلعنا الله عليها.


ومن هذه الأمثلة التي قد نراها بطريقة مختلفة إذا فكرنا فيها بمنطق مختلف متكئين على هذه الفكرة  قصة الإسراء والمعراج. فقد ذكرت أديان أخرى روايات تفيد بأن أنبيائها صعدوا أيضاً إلى  السماء.

وإذا كنا نعرض هنا ما ترويه الأديان الأخرى من صعود أنبيائها إلى السماء لمقابلة ربها لسبب قد قرره الرب إما للتأكيد على وجوده أم لأخذ التعاليم الدينية عنه أو للرؤية والمشاهدة والتمتع بالقرب من الخالق كجائزة إلهية يمنحها الخالق للصادقين في عبادته أو لكل هذه الأسباب مجتمعة.

 ونحن بالطبع لا نستطيع الجزم بحدوث هذا الصعود في مثل هذه الأديان من عدمه. ولكن إذا كنا نصدقه على نبينا محمد فهو من الأمور الممكن حدوثها بفضل الله عز وجل وقدرته ومشيئته. 

وإذا كنا لا نعلم علم اليقين إذا كانت هذه الديانات سماوية أم لا إستناداً لقول الله عز وجل "ومنهم من لم نقصص عليك" فهناك الإحتمال القائم أن تكون سماوية وأن يكون صعود أنبيائها مماثل لصعود نبينا. 

وإذا وضعنا هذا الإحتمال قيد الإعتبار منطبقاً على دين مشكوك في سماويته فإنه بالنسبة إلى دين مؤكدة سماويته لا يكون إحتمالاً بل حقيقة مؤكدة.



الصعود إلى السماء عند " الشامانية " : سيبيريا ووسط آىسيا

 الشامانية  هي أقرب لكونها ظاهرة دينية من كونها ديناً، كما هي تقنية الوَجْد ، بين قبائل سيبيريا ووسط آسيا . تقوم الشامانية على الاعتقاد بانفصال الروح عن الجسد ، في حالة حدوث الوجد الكامل ، أي الغيبوبة ، وطيران الروح إلى السماء ، من خلال ثقب يساعدها عبوره على الانتقال من سماء لأخرى ، وصولا للسماء العليا ، فلقاء الإله وجها لوجه .

طقوس تنصيب الشامان أي رجل الدين، ، تعتمد إعادة تمثيل صعود الروح إلى السماء بعد الوصول لحالة الوجد العميق ، بالحركات والإشارات الصعود الصعب من سماء إلى سماء ، حتى السماء التاسعة . وإذا كان قويا فحتى السماء الثانية عشرة ، وحتى للأعلى ، ويخاطب رب العالم العلوي ، بخشوع ، مبتهلا إليه منحه حمايته وبركاته . وكما قلنا يحدث ذلك لحظة الوصول بحالة الوجد إلى الذروة.

الصعود إلى السماء عند السومريين – أرض الرافدين

وتزودنا الآداب السومرية بأسطوريتين من أساطير الصعود إلى السماء ، تعود الأولى منهما إلى العصر السابق على عصر نشوء الممالك في أرض الرافدين ، بينما تنتمي الثانية إلى عصر لاحق .

الأولى: صعود أدابا

تحكي الأسطورة الأولى قصة صعود حكيم اسمه "أدابا" ، من "إريدو" ، إلى السماء ومشاهدته عن قرب لبهاء وتألق الإله "آنو" – كبير الآلهة السومرية - ، هذا البهاء الذي " لا يمكن لبشري أن يتحمله " .

تبدأ قصة الصعود من أن الإله "إيا" ، إله الحكمة والمعرفة والخلق ومهارة الصنع  الإله القريب من البشر ، اختار "أدابا"  العالم والقديس ذا اليد الطاهرة  الساهر على إقامة الطقوس وتقديم القرابين المختلفة اختاره لتعليمه الحكمة و" ليكون مثالا بين البشر ، حكيم لا يمكن لأحد رفض كلمته " ، وأراد له " أن تصبح كلمته مماثلة لكلمة "آنو" ولذلك فقد " منحه إدراكا واسعا يمكنه من كشف المصائر في البلاد . وهبه الحكمة ولكنه لم يمنحه الحياة الأبدية " .

وصل رسول "آنو" لحمل "أدابا" إلى السماء :" جعله الرسول يأخذ طريق السماوات ، وأُصْعِدَ إليها " . وأخيرا عبر بوابة "آنو" ومَثُلَ أمامه .لكن "أدابا" كان قد "تأمل السموات ، من قاعدتها حتى سمتها ، وأمكنه التمتع برؤية تألق "آنو" الإلهي الذي لا تُحْتَمل رؤيته " . وقرر الإله "آنو" :" كل ما ستسببه ريح الجنوب من شر للبشر ، وأي مرض ستضعه في جسم البشر ، مع "أدابا" ستتمكن "نينكازاك" – إلهة الصحة والشفاء – من تهدئتهما ، وعند ذلك فليتبدد الشر وليبتعد المرض " .

والثانية: صعود "إيتانا"

تقول الأسطورة الثانية ان "إيتانا" ملك "كيش" ، كان رجلا صالحا يخدم الآلهة باستقامة وورع ، ينحر القرابين ويحترم أرواح الموتى ، لكنه لم يرزق بابن يخلفه على عرش كيش . تضرع "إيتانا" للإله "شمش" طالبا مساعدته في الحصول على العشبة التي تساعد زوجته على الحمل . الإله "شمش" دله على نسر ملقى في حفره ، منزوع ريش الجناحين ، يصارع الموت جوعا وعطشا ، عقابا له على خيانة عهد التزم به ، وهو من يعرف مكان العشبة . "إيتانا" وصل إلى الحفرة ، أنقذ النسر ، رعاه شهورا ، حتى عاد ريش جناحيه واستعاد كامل قواه. 

ويشير النسر الذي اعترف بجميل "إيتانا" إلى أن العشبة عند "عشتار" التي تجلس على عرشها في سماء فوق سماء "آنو". يتفق على حمله إلى سماء "آنو". يحمله على ظهره ويصعد به ، وكلما ارتفع يسأل "إيتانا" عما يراه.  ولأن الألواح المكتوب عليها الأسطورة عُثِر عليها مهشمة ومشوهة ، بقيت تفاصيل باقي الرحلة والوصول لسماء "آنو" ومن ثم لسماء "عشتار" فالعودة للأرض غير واضحة ، لكن يفهم منها أن "إيتانا" عاد ، أكمل حكم "كيش" 635 سنة في رواية ، و1500 سنة في رواية أخرى ، وأن ابنه خلفه وحكم "كيش" 400 سنة ".

قصة صعود أخنوخ – إدريس

أخنوخ هو النبي إدريس عند المسلمين . وتُجمع كتب العهد القديم  كما القرآن في سورة مريم الأية 56 ، تجمع هذه الكتب المقدسة على أن أخنوخ رُفع إلى السماء لأنه نال رضى الله .

ويروي سفر أخنوخ – مخطوطات  قمران تفاصيل رحلة الصعود الأولى إلى السماوات ، ومقابلة أخنوخ للرب ، والتعاليم التي كلفه الرب بنقلها إلى الأرض . تلك التعاليم التي أفرغها أخنوخ في 360 كتابا كما قال ، والتي أمهله الرب شهرا واحدا لنقلها لأبنائه ، فإصعاده للسماء بعدها { ورفعناه مكانا عليا } حسب القرآن .

يبدا سفر أخنوخ رواية الصعود الأولى بالقول أن أخنوخ حلم في نومه ، بعد إتمامه من العمر 365 سنة بملكين عظيمين . أيقظه الملاكان ، تحول الحلم إلى حقيقة ،وأبلغاه بأمر الرب إصعاده إلى السماء . أبلغ أبناءه بالأمر. 

حمله الملاكان على أجنحتهما إلى السماء الأولى ، ثم أخذا ينقلانه ، بعد إتمام الجولة فالمشاهدات في كل سماء ، من سماء لأخرى حتى السابعة ، ليجد نفسه أمام عرش الرب ، وحيث يلتقيه وجها لوجه ، بعد أن شجعه الملاك جبرائيل وأزال الرهبة التي تلبسته . 

وكان قد رأى في يمين السماء الثالثة الفردوس التي أعدها الرب لعباده الأبرار ، وفي شمالها شاهد جهنم التي أعدت للظالمين . 

وفي السابعة أمر الرب أحد رؤساء الملائكة ، واسمه "وارويل" ، بإعطاء أخنوخ قصبة من مستودعات الكتب . أمضى "وارويل" ثلاثين يوما وثلاثين ليلة وهو يلقي التعاليم التي أمر الرب بها على أخنوخ دون أن تسكن له شفة ، وحيث أمضى أخنوخ أربعين يوما وأربعين ليلة لهضمها وحفظها . بعدها ،وبأمر الرب ، أعاده الملكان إلى الأرض لينقل كل ما سمع ورأى لأبنائه ، وليفرغها في 360 كتابا . وبعد إكمال المهمة عاد الملاكان ، وحملاه من جديد إلى السماء ، ولتفيض روحه ، بعد وقت ، هناك .

الزرادشتية – بلاد فارس ( إيران )

تقول الأسطورة الفارسية أن زرادشت ، قبل بعثته ، رأى ، وهو يقف على رأس جبل ، نورا يسطع فوقه ، وإذا بالنور صادر عن كبير الملائكة الذي جاء ليقوده إلى السماء ، ولكي يلقى الرب ويستمع منه إلى تكليفه بأمر النبوة والرسالة . صعد زرادشت إلى السماء على ظهر حصان طائر . وبعد السماء الأولى رافقه إلى السماء السابعة ملاك عظيم . وفي السماء السابعة وقف بين يدي الرب. وبعد تلقي الرسالة ، والتكليف بالبعثة ، طاف على السماوات ، وشاهد ما فيها. 

بعد العودة إلى الأرض تم توثيق موضوعات الرحلة كتابة ، نقوشا ورسومات على الأعمدة والحجر، وحيث ما زال أكثرها قائما حتى يومنا هذا.

بعد مرور قرون ، وتعاقب أجيال ، طرأ نسيان لتعاليم زرادشت . اختارت السماء واحدا من أهله وقع عليه سبات . انفصلت الروح عن جسده الذي بقي في حالة السبات ، وسافرت الروح إلى السماء . 

وبقيادة رئيس الملائكة ارتقى طبقات السماء ، بدءا من طبقة الكواكب – السماء الأولى - ، مرورا بطبقة القمر – السماء الثانية – ، فطبقة الشمس – السماء الثالثة – ، وحتى وصل السماء السابعة . وبعد مقابلة الرب طاف على الجنة كما شاهد النار. وبعد العودة تم تدوين أحداث الرحلة في كتاب " أرتاويرف نامك ".



صعود النبي إيليا

ويحكي لنا العهد القديم من الكتاب المقدس – التوراة - قصة صعود النبي إيليا – مار الياس – إلى السماء . لكن رحلة الصعود هذه لم تكن لملاقاة الرب وتعلم الحكمة والتزود بتعاليم يعود بها لهداية الناس . كانت نوعا من الإختطاف استهدف حماية إيليا من تهديدات بالقتل لاحقته أينما حل .

ذلك أن النبي إيليا واجه ردة أهل مملكة السامرة إلى دينهم الأصلي ، الكنعاني . شيدوا للبعل معبدا على الكرمل ، أقام كهنة البعل فيه الطقوس وقدموا الأضحيات للبعل. 

استدرج إيليا كهنة البعل إلى مناظرة تفضي نتيجتها إلى اعتراف الخاسر بفساد ديانته وصلاح ديانة الفائز . فاز إيليا . قتل 450 كاهنا . حرق المعبد ودمره . لاحقه أتباع البعل بطلب قتله ، حيث نجح في حرق وقتل سريتين من الجنود لاحقتاه. 

لكن تواصل ملاحقته دفعه لمواصلة الهرب ، جنوبا إلى بئر السبع ثم غربا إلى جبل طور سيناء ، حيث قضى أربعين يوما وليلة مختبئا في مغارة هناك وبعدها استأنف الهرب شرقا هذه المرة ، فعبور نهر الأردن ، بصحبة النبي أليشع ، فالاختطاف والصعود إلى السماء.

وقائع الاختطاف – الصعود - سجلها الإصحاح الثاني من سفر الملوك الثاني وعلى النحو التالي : [ وأخذ إيليا رداءه ولفه وضرب الماء فانفلق إلى هنا وهناك وعبرا كلاهما في اليبس 9 ولما عبرا قال إيليا لأليشع اطلب ماذا أفعل لك قبل أن أؤخذ منك . فقال أليشع ليكن نصيب اثنين من روحك علي 10 فقال صعبت السؤال ، فإن رأيتني أؤخذ منك يكون لك كذلك وإلا فلا يكون 11 وفيما هما يسيران ويتكلمان إذا مركبة من نار وخيل من نار ففصلت بينهما وصعد إيليا في العاصفة إلى السماء 12 وكان أليشع يرى وهو يصرخ يا أبي يا أبي مركبة إسرائيل وفرسانها . ولم يره بعد ذلك . فأمسك ثيابه ومزقها قطعتين 13 ورفع رداء إيليا الذي سقط عنه ورجع ووقف على شاطئ نهرالأردن 14 ] . وضرب أليشع مياه نهر الأردن برداء إيليا فانفلق النهر إلى هنا وهناك.

صعود المسيح إلى السماء

جاء صعود المسيح مقاربا لصعود إيليا في الهدف. لم يكن هدف الصعود ، في الحالتين ، منح الصاعد الحكمة ، أو تكليفه بحمل الرسالة ، أو تعليمه فروض الدين الجديد . كان الهدف إنقاذ إيليا من قبضة أعدائه ، ورفع جسد المسيح من قبره وحفظه من البلاء . صعد إيليا جسدا وروحا بمركبة وبخيل النار ، فيما لم يقل لنا العهد الجديد شيئا عن كيفية صعود جسد المسيح .

صعود النبي محمد نبي الإسلام إلى السماء

وحديث المعراج لم يرد به نص صريح في القرآن ، وتعددت الروايات عنه منسوبة للحديث على لسان النبي نفسه ولأن الفروقات في عرضها واسعة ، فقد اخترت عرضي البخاري ومسلم في الصحيحين . لكن ولأن الحديث المنسوب إلى أنس بن مالك في الصحيحين ؛ 3207 و3887 في البخاري و259 في مسلم ، جاء مختلفا في الصياغات ، ولأنه طويل ، فقد اجتهدت في تلخيصه بحذف التكرار ، معتمدا الجوهر ، وعلى النحو التالي :

انفرد البخاري في الإشارة إلى عملية شق لصدر النبي ، إخراج قلبه وحشوه بالإيمان ، قبل البدء في رحلتي الإسراء والمعراج.

تلا العملية إحضار البراق الذي هو دابة بيضاء بين الحمار والبغل. 

يقول البخاري أن النبي ركب البراق وانطلق به جبريل حتى السماء الأولى ، يقول مسلم أن النبي حين الوصول إلى بيت المقدس ربط البراق بالحلقة التي يربط بها الأنبياء ، 

وبعد الصلاة ركعتين في المسجد جاءه جبريل بإناءين ، واحد من خمر والآخر من لبن فاختار اللبن. فيما يقول البخاري أن العرض شمل ثلاثة أواني ، للخمر واللبن والعسل ، وأن العرض وقع في السماء السابعة وأن جبريل علق على اختيار النبي للبن بالقول : هي الفطرة أنت عليها وأمتك .

وتتفق رواية الشيخين في أن جبريل ظل عند الوصول لبوابات السماوات يستفتح حارس البوابة ، أي يطرق على البوابة مستأذنا تنفتح البوابة ، ويرحب حارسها بالنبي ، ويتكرر المشهد بذات الأسئلة والردود عند البوابات الست التالية .

يلتقي النبي بآدم عند البوابة الأولى وبعيسى المسيح ويحيى بن زكريا عند البوابة الثانية ويوسف الصديق ، والذي أُعطي شَطْر الحُسْن حسب مسلم ، عند الثالثة ،وإدريس عند الرابعة ، وهارون عند البوابة الخامسة ، وموسى عند السادسة ،وإبراهيم عند السابعة ، والذي كان مسندا ظهره للبيت المعمور حسب مسلم . 

وفيما باركه آدم وإبراهيم بالقول :" أهلا بالابن الصالح والنبي الصالح " وباقي الأنبياء بالقول :" أهلا بالأخ الصالح والنبي الصالح " حسب البخاري.

وفي السابعة رُفِع النبي إلى سدرة المنتهى أولا ثم إلى البيت المعمور.

في طريق العودة وفي السماء السادسة سأل موسى وأجاب النبي بفرض خمسين صلاة في اليوم والليلة عليه وعلى أمته . نصحه موسى بالعودة إلى الله وسؤاله التخفيف .  حتى استقر الفرض على خمس صلوات ، قال موسى أنها كثيرة وأن أمتك يا محمد لن تطيق . ويجيب النبي :" لقد رجعت إلى ربي حتى استحييت منه "

تتحدث الروايات الأخرى ، ومنها رواية ابن عباس مثلا ، عن وصف النبي للسماوات ، مادة تكوينها ، واحدة من حديد وثانية من فضة ..الخ وعن المسافات بينها ، سمكها ، مسير خمسمائة سنة ، أعداد الملائكة الغادين والرائحين في كل منها ، كما وتطنب رواية ابن عباس في عرض النبي لمشاهداته في الجنة والنار ، مما لا أظن أن هناك حاجة لعرضه هنا.

 بعض الروايات قد قالت بأن الصعود استمرار للإسراء ، وأنه تم على ظهر البراق ، قالت روايتا البخاري ومسلم أن جبريل هو من تولى تنفيذ عملية الصعود.


والسؤال الذي يطرحه البعض عن قصص الصعود إلى السماء هو:

ما حاجة الإله ، وهو الذي إذا أراد شيئا أن يقول كن فيكون ، إلى استقدام مخلوق هو خلقه ، ليلقنه تعاليم دينه ، وليبعثه إلى قومه يبشرهم بهذه التعاليم وينذرهم بسوء العاقبة إن رفضوها أو خرجوا عليها ؟

والله أعلم.


عاطف شوشه

الاثنين، 1 مارس 2021

أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ۚ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ


سورة المائدة الآية الأولى أثارت عندي تساؤل يرتبط بما كتبته في المقال السابق عن أهل الذكر عن كيفية تفسير الآيات القرآنية ووجوب ربط الآية الواحدة تفسيرياً بالآيات من قبلها وبعدها بل وتفسير الآية الواحدة دون تجزئتها والتعامل معها كأجزاء منفصلة تشريعياً وتفسيرياً.

والسؤال الذي تثيره الآية الأولى في سورة المائدة هو: ماهي العلاقة بين الوفاء بالعقود وبين الأنعام وأحكامها في هذه الآية:  

"يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ۚ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ ۗ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1)"

وقد لجأت إلى التفاسير الشهيرة بحثاً عن إجابة لهذا السؤال. ولنعرض ما قاله كل مفسر في كيفية تفسيره لهذه العلاقة:

تفسير "السعدي":

السعدي ربط بين جزئي الآية بالطريقة التالية:

فكلها داخلة في العقود التي أمر الله بالقيام بها ثم قال ممتنا على عباده: { أُحِلَّتْ لَكُمْ ْ}

ولم يقم بأي محاولة للربط بين العقود والأنعام بأي طريقة.

تفسير "ابن كثير":

أما ابن كثير فقد قام بتفسير الآية على أنها مقطعين منفصلين تماما عن بعضهما. فبعد أن أسهب في شرح "أوفوا بالعقود" وبين أنواع العقود انتقل إلى بقية الآية دون أن يتكلف عناء الربط بين أجزاء الآية الواحدة فقال:

"وقوله تعالى : ( أحلت لكم بهيمة الأنعام ) هي : الإبل والبقر"

تفسير "القرطبي":

أما القرطبي فقد قسم الآية إلى خمسة أجزاء وشرح كل جزء منها على حده. يقول القرطبي:

الآية تضمنت خمسة أحكام :

الأول : الأمر بالوفاء بالعقود.

الثاني : تحليل بهيمة الأنعام.

الثالث : استثناء ما يلي بعد ذلك.

الرابع : استثناء حال الإحرام فيما يصاد.

الخامس : ما تقتضيه الآية من إباحة الصيد لمن ليس بمحرم. 

تفسير "الطبري":

أما الطبري فقد اكتفى بفصل أجزاء الآية عن بعضها كما يلي:

و " الإيفاء بالعهد "، إتمامه على ما عقد عليه من شروطه الجائزة.

* * *

القول في تأويل قوله : أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ . . . 

وشرح كل جزء منفصلاً.

تفسير "البغوي":

يقول البغوي في تفسيره:

هي عهود الإيمان والقرآن ، وقيل : هي العقود التي يتعاقدها الناس بينهم.

( أحلت لكم بهيمة الأنعام ) قال الحسن وقتادة : هي الأنعام كلها

ولم يذكر البغوي أي صلة ما بين العقود والأنعام

تفسير "البيضاوي":

ينص البيضاوي في تفسيره على ما يلي:

ولعل المراد بالعقود ما يعم العقود التي عقدها الله سبحانه وتعالى على عباده وألزمها إياهم من التكاليف، وما يعقدون بينهم من عقود الأمانات والمعاملات ونحوها مما يجب الوفاء به، أو يحسن إن حملنا الأمر على المشترك بين الوجوب والندب. أحلت لكم بهيمة الأنعام تفصيل للعقود.

وهذه أول محاولة أصادفها للربط بين أول الآية وبقيتها بغض النظر عن اتساق المعنى الذي ذكره لهذا الربط. وهو يرجو أن يكون تفسيره صحيحاً ويستعمل لفظ "لعل" وكانه أيضاً يعتذر لأنه لم يصل إلى نتيجة أكثر منطقية من هذه.



تفسير الشعراوي:

 يقول الشيخ كلاماً كثيراً ويرهق نفسه  والمعاني لإثبات وجهة نظره. وما يريد الشيخ إثباته هنا هو أن الإيمان عقد بين الإنسان وربه بموجبه يجب على العبد طاعة الله فيما حرم وما أحل. وأن الله سخر الكون كله للإنسان وأن الأنعام هي أعلى منزلة في التسخير وخدمة الإنسان. إذن بموجب هذا التسخير يجب علينا الوفاء بهذا العقد. الإيماني. يقول الشيخ:

{ أَوْفُواْ بالعقود } أي نفذوا ما أمر الله به حلالاً، وامتنعوا عن الشيء الذي جعله الحق حراماً. ولا داعي - إذن - للاختلاف في معنى " العقود ".

ويقول أيضاً:

وجاء الحق هنا بالإعلان عن أعلى المنزلة في خدمة الإنسان وهو بهيمة الأنعام { أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ ٱلأَنْعَامِ } ويأمرنا بأن نوفي بالعقود، وله سبحانه وتعالى كل الحق فقد قدم لنا الثمن بخلق الكون مسخراً لنا وقمة المخلوقات المسخرة هي الأنعام.

 التفسير "الوسيط" للقرآن الكريم :

لم يهتم المؤلف  محمد سيد طنطاوي بإيجاد العلاقة بين أول الآية وبقيتها شأنه شأن المفسرين القدماء الذين نقل عنهم حرفياً تفسير هذه الآية.

تفسير "أضواء البيان في تفسير القرآن":

بدأ الشنقيطي تفسيره من عند لفظ "أحلت" مهملاً تماما ما قبلها من الآية.

 تفسير "التحرير والتنوير": 

يقوا "ابن عاشور": أشعر كلام بعض المفسّرين بالتَّوقّف في توجيه اتّصال قوله تعالى { أحلت لكم بهيمة الأنعام } بقوله { أوفوا بالعقود }.

وأشكر ابن عاشور الذي لاحظ ما لاحظته أنا. وهو يقول بأن لفظ "العقود" يشير إلى ما بعد لفظ "أحلت" أي أن العقود هي التحريم في "ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وانتم حرم".

وأكتفي هنا بهذه التفاسير العشرة التي أجمع معظمها على تفسير صدر الآية منفصلاً عن بقيتها أو ما أسميه أنا التفسير المُجزأ لآيات القرآن".

وهناك تفسير آخر حديث أتى به الباحث "علي منصور كيالي" يقول:

عقد عنق الدابة أي هيأها للذبح الحلال وليس عقد بين طرفين. وهي طريقة الذبح الإسلامية التي يحل بها للمسلم أكل لحومها. 

وقد تعرض الكيالي للهجوم العنيف بسبب هذا التفسير الذي خالف به حفظة التفاسير العتيقة وشأنه في ذلك شأن كل من حاول أن يجدد أو يخالف كل ما حفظته الذاكرة الإسلامية لقرون طويلة.

وأكرر هنا ما قلته في مقالي السابق : إذا كان تفسير أي آية من القرآن لا يستقيم إلا بعد ربطها بالآية التي قبلها والتي بعدها حتى لا نفقد القرآن موضوعيته. فكيف والحال كذلك أن يستقيم تفسير جزء من آية منفصلاً عن بقية الآية من قبله أو من بعده؟ 

ولا أدري إن كانت هناك قاعدة في علم التفسير تجيز للمفسرين هذا التفسير المجزأ للآية الواحدة أو إن هناك اتفاق ضمني بين علماء التفسير على ذلك عند الضرورة.

عاطف شوشه