أعود مرة أخرى إلى مقدمة كتاب " جدل التنزيل " للكاتب العراقي " رشيد الخيون ".
وهوكما ذكرت سابقاً من هذه الكتب التي استمتعت جداً بقراءة مقدمتها لما جاء في فقراتها من أفكار جديدة ومثيرة ارتبطت سريعاً في مخيلتي بقراءات أخرى سابقة مما جعلني أعيد قراءتها عدة مرات مستغرقاً بشدة في كل ما جاء فيها وأرجع إليها مستشرفاً قراءاتي التالية مؤملاً الإجابة على تساؤلات عديدة أثارتها أفكار تلك المقدمة.
وأعيد هنا تلك الفقرات التي ذكرتها سابقاً ولها علاقة بالموضوع الذي أكتب فيه هذه المقالات.
يقول د. رشيد : "قبل تفشي الظلمة بحلول العصور الوسطى وتشددها الديني الرهيب في الشرق والغرب على السواء كان المؤرخون يرون أن لا قيود على كشف الماضي". اهـ
ويقول رشيد: "كان الخلاف بين المسلمين حول أمور كثيرة ومنها خلافهم بشأن الله تعالى فما بال اختلافهم حول كتابه وأن هذا الإختلاف لم يؤثر على موقفهم منه". اهـ
ويقول أيضاً وهذا هو موضوعنا في هذه المقالات: " الكتب السماوية التي وصلتنا على ألواح طينية وقطع صخرية من عهد سومر وبابل ومصر القديمة استوعبنا بسهولة تسميتها بالأساطير رغم ما فيها من كلام مقدس ورد في الكتب الحالية ". اهـ
وقد يخلط الكثيرون بين مفهوم الأسطورة ومفهوم الخرافة فيعتقد أنهما مترادفان يدل كل من اللفظين عند استعماله على نفس المعنى الذي يدل عليه الآخر. ولكن هناك فرق هام جداً بين اللفظين في المعنى المقصود منهما. يقول الدكتور "عبد الحميد يونس": إن الأسطورة لها أصل تاريخي أما الخرافة فهي كلها محض خيال وليس لها أصل تنتسب إليه"
وأذكر هنا مثالاً آخر لديانات لم نعلمها أتى بها رسلاً لم نعلمهم ولكن بقي منها بعض طقوسها. وكنت قد ذكرت في المقال السابق أول مثال لهذه الديانات وهو حدث "المعراج في الديانات الأخرى". وأنا أحرص على أن أتجنب الإساءة بأي وصف قد يتسبب في إهانة هذه الديانات أو الإنتقاص من قدرها وإنما موقفنا منها موقف الذي لا يعلم. فإنه وبنص صريح من القرآن كان هناك رسلاً لم يخبرنا الله عنهم ومن المؤكد أنه كانت لهم تعاليم وطقوس خاصة بدينهم السماوي أمرهم الله بها يعملون ويتقربون بها إليه لم يطلعنا الله عليها.
المثال الثاني الذي نذكره هنا الآن هو قصة ذبح سيدنا إبراهيم الخليل لولده إسماعيل التي هي ليست ببعيدة أبداً عن معتقدات بعض الديانات التي كانت موجودة في شمال الجزيرة العربية وخاصة في منطقة "بطرا" و"دومة الجندل" والتي كان أصحابها يضحون أو يقدمون لآلهتها قرابيناً بشرية وليست بعيدة أيضاً عما كان يفعله قدماء المصريين كل عام من تقديم فتاة شابة جميلة كقربان بشري إلى "حابي" إله النيل كي يرضى ويفيض ماؤه. وليست بعيدة أيضاً عن الأساطير الإغريقية التي تقدم فيها القرابين البشرية لإرضاء الآلهة أو الوحوش الأسطورية.
عرب الجزيرة العربية
أما عرب شمال الجزيرة فكانوا يعبدون كوكب الزهرة ويضحون لها وهي المعروفة عند الديانات الأخرى باسم "فينوس" و"عشتروت" وأسماء أخرى متنوعة في بقاع أخرى من العالم وكان يعرف هذا الكوكب عند العرب باسم " العزى".
ونلاحظ هنا أن عبادة هذا الكوكب بالذات قد انتشرت في أماكن كثيرة في العالم لسبب ما لا أعلمه حتى الآن.
وكانت العرب تتقرب لآلهتها "العزى" بقرابين بشرية وكانوا يضحون له بأجود أسراهم الذين أخذوهم في الغزوات ويفضلون لذلك الشباب منهم.
وكذلك عبدت "العزى" في الحيرة وكان ملكها المنذر يضحي لها أيضاً بأسراه وكان منهم أسيره ابن ملك "غسان" وكذلك ضحى لها عدداً كبيراً من راهبات العراق يروى أن عددهم كان أربعمائة راهبة وقعن في الأسر.
وكان العرب يريقون دم القربان الحار ويصبونه على رؤوس الأنصاب والأصنام تسكيناً لغضب الإله وطلباً لرضائه. والنصب هو الحجر الذي تذبح فوقه القرابين ويسمى أيضاً المذبح في بعض الديانات الأخرى.
ولقد امتدت عادة الذبح أو شعيرة إراقة الدماء في "منى" أيام الحج إلى ما بعد الإسلام.
ويروى أن الزهرة هي المرأة التي فتنت الملكان هاروت وماروت بعد أن أذعنا لها ووافقاها على شرب الخمر فسمحت لهما بمواقعتها فرآهما رجل فقتلاه خشية الفضيحة. فبذلك ارتكبا كل الكبائر التي كانت الملائكة تلوم ابن آدم على ارتكابها. حينئذ كشف الله الغطاء فرآهما جميع الملائكة وأقرا بذنبهما وخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة فاختارا عذاب الدنيا لأنه ينقطع أما عذاب الآخرة فهو خالد.
وكانت الزهرة قد تعلمت منهما الكلمات التي يصعدان بها إلى السماء فلما عرجت للسماء نسيت الكلمات التي يمكنها أن تعود بها للأرض فبقيت في مكانها وجعلها الله ذلك الكوكب الجميل.
ويروى عن عبد الله بن عمر أنه كان يلعنها كلما رآها ويقول هذه التي فتنت هاروت وماروت.
قدماء المصريين
أما قدماء المصريين فنعرف عنهم أكثر عاداتهم وطقوسهم الدينية مما دونوه محفوراً على الحجارة ولكننا نجهل مصدرها الأصلي ذلك لأن العلم عندهم كان من الأسرار التي لا يسمح بتداولها للعامة وكان مقصوراً على الكهنة فقط في داخل المعابد وكان العلم يلقن شفهياً أو عملياً ولم يكن أغلبه مدوناً خشية تسربه إلى الخارج. وهذا ما يبدو لنا حتى الآن من شأنهم.
ومما هو مؤكد أن الحضارة المصرية لم تعرف القرابين البشرية في أي عصر من عصورها لأي إله مهما علا شأنه. ولو كان هذا من طقوسهم الدينية لوجدناه محفوراً على الأعمدة أو منقوشاً على حوائط معابدهم.
وعيد وفاء النيل الذي يتحدث عنه المؤرخين كان موجوداً بالفعل وتقدم للنيل فيه قرابيناً غير بشرية فضلاً عن الفواكه والخضروات والزهور.
الأساطير الإغريقية
وقريباً من مصر أبصر "بروسيوس" وهو في السماء مرتدياً الحذاء المجنح الذي أهداه له الإله "هرميس" ليتم به رحلته المخيفة للقضاء على "ميدوسا" . أبصر من الأعلى "أندروميدا" الجميلة ابنة "كاثيوبيا" وهي مقيدة على صخرة على شاطئ البحر كقربان تنتظر وحشاً بحرياً ضخماً ليلتهمها.
تروي الأسطورة أن "بروسيوس" كلفته الآلهة بمهمة خرافية تعجيزية وهي أن يقطع رأس "ميدوسا" التي كانت نظراتها تحول كل من ينظر في عينيها إلى حجارة وكانت تعيش هي وأخواتها (الجورجون) على حافة العالم حيث لا شمس ولا قمر.
عطف عليه "هرميس" رسول الآلهة فأعاره حذاءه المجنح كي يطير به ويصل إلى حيث مكان "ميدوسا". ورقت له "أثينا" فأعطته درعها الذي يلمع كالمرآه ليرى فيه صورة "ميدوسا" فيقتلها دون أن ينظر في عينيها.
وفي مملكة اثيوبيا كانت الملكة "كاسيوبيا" تتفاخر بأنها أجمل من الحوريات بنات "بوسيدون" إله البحر. فغضب "بوسيدون" كثيراً لجرأتها وتكبرها فأرسل تنيناً بحرياً ضخماً يهدد المملكة كلها ولا يهدأ أو يتراجع حتى تقدم "كاسيوبيا" ابنتها الوحيدة الجميلة "أندروميدا" كقربان له .
رأى "بروسيوس" في رحلة عودته وهو في السماء "اندروميدا" وهي مقيدة إلى صخور البحر وكان يحمل رأس "ميدوسا" فرفعها في وجه التنين فتحول إلى حجارة وتحطم في الحال وأنقذ "اندروميدا". ويلقب "بروسيوس" في الأساطير الإغريقية بأنه " قاطع رأس ميدوسا ومنقذ المرأة المسلسلة".
الذبيحين إسماعيل وعبد الله
نحن نستهجن تماماً أذ نعلم أن بعض الديانات القديمة أو الوثنية كما نسميها والتي عرضنا بعضها قد أقرت بتقديم قرابين بشرية لآلهتها ولا نستهجن فعل سيدنا إبراهيم من شروعه في ذبح إبنه ووحيده إرضاءاًً لربه ولم يكن سيدنا إبراهيم يعلم وهو يجري السكين على عنق إسماعيل عدة مرات أن الرب سيتدخل في اللحظات الأخيرة بل كان ماضياً بكل همته ليتم الذبح امتثالاً لأمر ربه.
وقد نزعم أن تقبل إسماعيل لطلب سيدنا سيدنا إبراهيم بذبحه إذعاناً لطلب الرب وإرضاءاً له كان لسابق علمه ومعرفته بطقوس ديانات أخرى من أهمها تقديم قرابين بشرية لآلهتها.
وفضلاً عن تقبل إسماعيل الأمر فقد تقبلته أمه هاجر كذلك بإيمان ويقين وهي تعلم أنها سوف تفقد إبنها الوحيد ولكن إرضاء الرب عندها والإيمان به كانا أعلى مرتبة من فقدان الولد.
فإذا كانت هناك خلفية دينية موروثة سببا ً في تقبل هاجر و إسماعيل فكرة الذبح فإننا نقر أيضاً أن الأنبياء قد وهبهم الله علماً خاصاً من لدنه ومنهم سيدنا إبراهيم وإسماعيل وبهذا العلم قد تقبلوا عقيدة القرابين البشرية.
ثم تأتي بعد ذلك بسنين طويلة قصة نذر "عبد المطلب" ذبح ابنه "عبد الله" والد سيدنا" محمد" عندما نازعته قريش على ماء بئر زمزم ليؤكد هذا النذر بقاء هذا المعتقد أو هذه الديانة التي تحل القرابين البشرية كوسيلة لإرضاء الرب.
وكان أن نذر عبد المطلب ذبح أحد أبنائه عند الكعبة عندما نازعته قريش على الكنوز التي ظهرت له عند حفره بئر زمزم عند الكعبة وكانت غزالتين من ذهب اللتين كانت جرهم قد دفنتهم حين أجلت عن مكة حين أغار عليها أعداءها، ووجد فيها أيضاً أسيافاً قلعية وأدرعاً فنذر لإن رزقه الله بعشرة أبناء يؤازرونه ويحمونه ويدفعون عنه إجحاف الآخرين مثل ما فعلت قريش ليذبحن أحدهم عند الكعبة.
ولقد هم عبد المطلب وفاءاً لنذره وبعد أن رزق بعشرة أبناء أن يذبح ابنه عبد الله عند الكعبة بعد أن خرجت عليه القداح دون بقية أبنائه عدة مرات ولكن قريشاً منعته حتى لا يستن سنة يتبعها من بعده. واقترحوا عليه أن يستشير في الأمر أحد الكهان الذي أشار عليه أن يفدي عبد الله بذبائح من الإبل. ضرب عبد المطلب القداح عند الكعبة عدة مرات فكانت كلما خرجت على عبد الله زاد في عدد الإبل بمقدار دية قتيل حتى بلغ عددها مائة فافتدي عبد الله بهذا العدد من الأبل.
خاتمة
أليس من الممكن إذاً أن تكون هذه الأديان التي كانت تقدم قرابيناً بشرية كانت أدياناً سماوية ونحن لم نعلم زمانها ولم نعلمها ولم نعلم رسلها مما لم يخبرنا الله تعالى بها. يقول جل جلاله : "وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ"؟
أو أن " الكتب السماوية التي وصلتنا على ألواح طينية وقطع صخرية من عهد سومر وبابل ومصر القديمة استوعبنا بسهولة تسميتها بالأساطير رغم ما فيها من كلام مقدس ورد في الكتب الحالية "
وأنا أرى أنه من المنطقي تماماً ألا نحاول أن نجد ربطاً زمانياً بين رسل وديانات قديمة لا نعلم عنها شيئا مما لم يقصه الله عز وجل علينا وبين ما هو معروف لنا من ديانات أخرى قص الله علينا بعضها في كتبه المقدسة.
والله أعلم.
عاطف شوشه