الجمعة، 29 مايو 2020

والأُذْنُ تَعْشَقُ قبل العَين أَحْيانا



إلى كل من أخطأ الطريق إلى آذاننا فأنكرته قُلوبُنا.





ياقومِ أُذْنِي لِبْعضِ الحيِّ عاشقة ٌ     والأُذْنُ تَعْشَقُ قبل العَين أَحْيانا
                                                                                                                                (بشار بن برد)

أن تكون شاعراً وتكتب الشعر فأنت محظوظ فعلاً. ولكن أن تكون شاعراً ولا تكتب الشعر فأنت شخصٌ تعيسٌ حقاً. أنت مثل الإناء يمتلئ لحافته فيضيق بما فيه ولا يستطيع إستيعاب المزيد فيفيض وينساب ما بداخله إنسياباً لا يمكنك أن تحكمه طالما لم تتوقف عن السكب فيه.
أو كالبالون يظل حجمه يكبر كلما دفعت في داخله المزيد من الهواء حتى يصل نسيجه مهما كان قوياً إلى مرحلة من التمدد والشد لجميع مكوناته عندها يبدأ في التشقق لينفس عما حل به من شدة الإمتلاء ولا يعلم إلا الله من أي شق أو من أي ناحية سوف يبدأ الإنفجار. عندها تتداعى كل مكوناته مخلفة ضجيجاً تدركه الآذان فضلاً عن صدمة مفاجأة الإنفجار ثم يخلف بعد ذلك كومة من الرماد الشعوري المحترق تظل ملتهبة يتصاعد دخانها إلى السماء زمناً طويلاً.

والعلاقة بين الشعر العربي والغناء علاقة أبدية لا يمكن أن ينفصل أحدهما عن الآخر فالشعر العربي شعر غنائي بطبيعة تكوينه . وهذه العلاقة لخصها الشاعر في بيت واحد إذ يقول:

تَغَنَّ في كُلِّ شِعرٍ أَنتَ قائِلُهُ         إِنَّ الغِناءَ لِهَذا الشِعرَ مِضمارُ
                                                                                                                     (حسان بن ثابت)

الكم الهائل من الشجن الذي يكمن في داخل كلمات بعض الأغاني وفي موسيقاها وفي شعور مؤديها يرقى كثيراً بلا أي تكلف إلى مرتبة الحزن العميق الذي يدفع عادة إلى البكاء من شدة التأثر. هذا الشجن الذي يستمر طويلاً لسيطرته القوية على النفس حتى بعد الفراغ من السماع. ويستمر ترديد الكلمات وموسيقاها داخل النفس لا شعورياً أياماً بل قد تمتد أسابيعاً تالية تسترجعها النفس كلما خلا الفكر من ضوضاء الحياة المحيطة بنا.

وخلف كل أغنية شاعر هو بالتأكيد البطل الحقيقي وراء الأغنية إذ أنه هو البادئ بالإحساس والإنفعال ثم بالتعبير الشعري ولولاه لما تفاعل الملحن مع الكلمات فألف موسيقاه ولم ينفعل المؤدي بالكلمات واللحن معاً. فإذا وافق اللحن وناسب الكلمات وتطابق والحالة الشعورية التي كتب فيها الشاعر كلماته صارت الأغنية وحدة فنية واحدة متكاملة ومؤثرة بجميع عناصرها إذا غاب عنها أحدها لم يُتعرف عليها. ويكمل تلك اللوحة الفنية المؤدي الذي يتمثل الحالة النفسية للشاعر وكلماته. وكم من قصائد وكلمات حلقت بنا بعيداً في دنيا الخيال والجمال عندما سمعناها تُغنى لكنك إذا قرأتها في كتابها الأصلي لم يكن لها أي صدىً في نفسك ولا أي إحساس يذكر.

عندما تفاجئني إحدى هذه الأغنيات  أتوقف تماما عن الكلام والحركة وتأسرني الكلمات داخل غيمة من الإحساس الرقيق العميق أتوه بداخلها عن كل ما هو خارجها أضع قلمي وأصغي بكل شعوري وتخضع لها كل حواسي.  

أتوقف عن الحياة لأختلي لدقائق بهذه البهجة  وبهذا الجمال الذي يسلبني إرادتي وأصير بعدها غير ما كنت قبلها من سكون ورقة حال وهذا هو بعض من السبب في إفتتاني بهذه الأغاني والبعض الآخر منه هوغيرة صريحة من ناحيتي لأنني قد قصرت بي موهبتي الشعرية الضئيلة فلا أستطيع أن أكتب مثله أو حتى ما يقاربه. وأنا لست فريداً في هذا الشعور فكم من شاعر مشهود له في شعره قد فتن ببيت شعر أو أبيات لشاعر آخر وتمنى أن يكون هو قائلها.

وسأكتفي هنا بذكر بعض الأغنيات من هذا النوع المؤثر الذي لا ينطفأ تأثيره بمرور الوقت والسنين والذي طالما أشجاني ورفعني من فوق الأرض إلى فوق السحاب. والقائمة طويلة جداً وحتى يمكنكم سماعها والإحساس بها قبل أن ننتقل إلى غيرها في مقال آخر إن شاء الله.

فات الميعاد - أم كلثوم
غالي عليا - جلال حسني
قد إيه حبيتك إنت - مها صبري
أمانه يابكره أمانه - شريفه فاضل 
لعبة الأيام - ورده 
لا تودعني حبيبي - ورده
بحبك فوق ماتتصور - ورده
حبك الجبار - نجاة



عاطف شوشه

السبت، 2 مايو 2020

الترادف في القرآن




كنت دائماً أعتقد ومازلت أنه لا يوجد ولا يجب أن يوجد في أي لغة لفظين مختلفين لهما نفس الدلالة المعنوية. فإذا كان هناك كلمة ما تعبر تعبيراً دقيقاً عن معنى معين لم تكن هناك في الأصل أي حاجة إلى ابتكار كلمة أخرى تؤدي نفس الوظيفة. 

إذن فالترادف اللغوي عندي هو أمر ليس فقط غير مقبول ولكنه أيضاً غير مفهوم. وكان هذا المنطق البسيط  يؤيد ما اعتقدته تأييداً تاماً.

لم أكن أعلم إلا منذ فترة وجيزة جداً أن هناك قضية خلافية هامة تندرج تحت معتقدي هذا الذي يسميه المتناجزون فيه :" إنكار الترادف " وبما أن هناك إختلاف في الرأي فلابد وأن يكون هناك فريق ثاني هم من يقولون بخلاف ذلك أي " إثبات الترادف ".

وكنت أظن أيضاً أن هذه قضية تخص النحويون وعلماء اللغة فقط دون غيرهم حتى أدى بي بحث غير عميق بنتائج مفاجئة وهي أن هذه القضية تمس من قريب جداً فهمنا للقرآن الكريم أي أنها تمس المكون الأساسي من ديننا الإسلامي.


ومادام الحال هكذا فقد صار المشتغلون بعلوم الدين طرفاً هاماً جداً في هذه القضية الخطيرة وصار كل منهم يدلي برأيه فيها ويبرهن علي صحته بشتى الطرق بل ويتعصب له أيضاً. فالقضية صار يترتب عليها " دين " بكل ما تحمله هذه الكلمة القصيرة ذات الثلاثة أحرف من علوم سود فيها الآلاف من الفقهاء والعلماء والمتصوفون ملايين الكتب على مر قرون طويلة. وبكل ماتسعه هذه الكلمة من ملايين التابعين للإسلام بل والمناوئين له أيضاً الذين يعكفون على دراسته والخوض في قضاياه الدقيقة بغرض إسقاطه ومحاربته.


وتجمع أدلة المنكرين للترادف في أنهم يلتمسون فروقا بين الألفاظ التي قيل بترادفها لأن في كل لفظة زيادة معنى ليس في الأخرى ، ففي اللفظة " قعد " مثلا معنى لا نجده في " جلس " حيث القعود يكون بعد وقوف و الجلوس يكون بعد اتكاء. كما أنه لا يجوز أن يختلف اللفظ و المعنى واحد، وأن الأسماء واحدة وما دون ذلك مجرد ألقاب و صفات.


وهذا هو رأي ابن فارس و أبو علي الفارسي الذي كان يقول : لا أحفظ للسيف إلا إسماً واحداً هو السيف و حين سئل : فأين المهند واليماني والصارم و كذا...وكذا... قال : هذه صفات. فهذا سبب من أسباب الإعتقاد بوجود المترادفات وهو تحول صفة الشئ لتكون إسماً له. فالمهند هو في الأصل صفة للسيف الذي يصنع في الهند وكذلك اليماني للذي يصنع في اليمن. 

ومثل ذلك يقال أيضاً في أسماء الأسد: " الأسد " هذا هو اسمه، وله عدة صفات منها: الضيغم وهو مأخوذ من الضغم ، وهو العض الشديد, والضرغام وهو الضاري الشديد، والغضنفر وهو الغليظ الخلق الكثير الشعر. إلى غير ذالك من الصفات التي أصبحت تطلق كأسماء للأسد لا كصفات له . 


وهذه أمثلة لآراء من أنكروا الترادف من القدماء:


ويقول ابن تيميه: الترادف في لسان العرب قليل، أما في القرآن فنادر أو معدوم. فإذا وجدت من يفسر قوله تعالى ( ذلك الكتاب لا ريب فيه) بأنه “هذا القرآن لاشك فيه” فاعلم أنه من باب التقريب، لأن ” ذلك” غير “هذا”، و “الكتاب” غير “القرآن” و “الريب” غير “الشك” .

يقول العسكري : “لكل لفظ صورة ترتسم في الذهن، فإذا اختلف اللفظ، تغيرت الصورة، فارتفع الترادف”.

ومن القدماء المنكرين أيضاً ابن الأعرابي و البيضاوي و ابن درستويه وقطرب وأبو هلال العسكري الذي ألف كتابا سماه" الفروق في اللغة ".

ومن المحدثين الذين أنكروا الترادف : الأستاذ/ حفني ناصف، ود. عائشة عبد الرحمن



 ونورد هنا رأي الباحث الإسلامي " د. محمد شحرور " رحمه الله الذي توفي منذ فترة وجيزة حيث قال:

 " وبما أن المعرفة الإنسانية تكتشف الجديد كل يوم ولابد لكل جديد من لفظ يعرف به، لذا فإن للغات كائن قابل للتطور والنمو وخاصة في دلالات الألفاظ. وأكثر ما تنطبق هذه الخاصية على دلالات ألفاظ التنزيل الحكيم نظراً لصلاحيته لمختلف العصور ولمختلف نظم المعرفة، وضمن هذا المنطوق يمكن إعادة صياغة الثقافة العربية الإسلامية برمتها من خلال إعادة النظر في المفاهيم والأدوات.
وقد كان يمكن لمسألة القول بالترادف أو إنكاره أن تبقى مسألة مجمعية أكاديمية بحتة، لولا أن القول بالترادف قاد إلى تجويز رواية الحديث النبوي بالمعنى، وإلى اعتبار القياس في أصول الفقه من مصادر التشريع، وإلى تأليف معاجم تفسر الكذب بالإفك، والإفك بالافتراء، والافتراء بالبهتان، والبهتان بالكذب، فلا يفهم أحد فرق هذا عن ذاك إلا من رحم ربي، وإلى تأطير لقواعد اللغة العربية، كما فعل سيبويه وتابعوه من بعده، انطلاقاً من أن ذهب ومضى وانطلق وبارح وغدا وراح كلها مترادفات بمعنى واحد. وانطلاقاً من الحفاظ على الشكل اللفظي دون الدخول في المحتوى الدلالي وهذه علة العقم في النحو العربي الذي يقود الناس إلى أوهام في فهم التنزيل الحكيم.

من هنا، كان لابد ، ونحن ندعو إلى قراءة معاصرة للتنزيل الحكيم، من أن ننكر الترادف ونبحث عن الفرق مهما كان دقيقاً بين الأب والوالد، والشاهد والشهيد، والعباد والعبيد، والتفسير والتأويل، والحرب والقتال، والشرك والكفر، والذنب والسيئة، والدين والملة، والإسلام والإيمان، علماً بأن البحث عن الدقة في كل شيء هي سمة هذا العصر. فالأولى أن نبحث عنها في قراءة التنزيل الحكيم لأن هذه الدقة بالضرورة ستؤدي إلى تغيير في الأحكام والمفاهيم الفقهية والعقائدية."

أما المثبتون للترادف من القدامى فمنهم: سيبويه والأصمعي الذي ألف كتابا عنوانه " ما اتفق لفظه واختلف معناه " وكان يقول إنه يحفظ للحجر سبعين اسما، وأبو الحسن الرماني و كتابه الألفاظ المترادفة ومن الأمثلة التي ذكر : السرور والحبور والجذل والغبطة والفرح. ومنهم كذلك ابن خالويه الذي جمع من أسماء الأسد ما يقرب خمسمائة اسم وللحية جمع ما يقرب مائتين ، كما كان يفتخر بأنه يحفظ للسيف خمسين اسماً.

 ومِن المحْدثين كثيرٌمن أمثال: د. أنيس، وكمال بشر


وقد ذكر هؤلاء المثبتون أسباباً تؤكد وجود المترادفات منها:
  • إختلاف واضعي الألفاظ كأن يكونوا من قبيلتين مختلفتين تضع كل قبيلة لفظاً له نفس المدلول ويشتهر اللفظان. ومثال ذلك:
  • السكين : عند أهل مكة و غيرهم. المدية عند بعض الأزد.
  • القمح لغة شامية والحنطة لغة كوفية ، وقيل البر لغة حجازية .
  • الإناء من الفخار عند أهل مكة يدعى برمة وعند أهل البصرة يسمى قدرا 
  • دخول ألفاظ من لغات أخرى لها نفس المدلول ومثال ذلك: 
  • أستاذ بالفارسية أي معلم
  • بيرق بالفارسية أي الراية أو العلم
  • دكان بالفارسية أي حانوت  
  • التساهل في الإستعمال حيث إن عدم مراعاة الدلالة الصحيحة للكلمة يؤدي إلي استعمالها في غير موضعها الذي وضعت من أجله ومثال ذلك: ْ
  • المائدة ففي الأصل لا يقال لها مائدة حتى يكون عليها طعام وإلا فهي خوان.
  • الكأس : تسمى كأسا إذا كان فيها شرابا و إلا فهي قدح.
  • الكوز : يسمى كذلك إذا كان له عروة و إلا فهو كوب.
  •  الثرى : يسمي ثرى إذا كان نديا و إلا فهو تراب . 
  • قلب لغوي بتقديم حرف على آخر ومثال ذلك بضع وبعض 
وبعد فهذا بحث مرهق جداً نظراً لأن مصادره كثيرة جداً لا تكاد تحصى وقد قصدت أن أجعله موجزاً على قدر المستطاع ليسهل على الفهم والإستيعاب. وارجو من الله عز وجل أن أكون قد وفقت في هذا العمل لأن الموضوع على درجة قصوى من الأهمية حيث تتعلق أهميته بفهمنا للدين الإسلامي والمناهج التي انتهجها المفسرين للقرآن الكريم على مدى قرون طويلة مضت.


عاطف شوشه
  •  





الجمعة، 1 مايو 2020

العلم والمعرفة في القرآن




إن معرفة الفرق بين معاني الكلمات المتشابهة أو المترادفة يعمق الإحساس بفهم ما تقرأه ويعطي القدرة على التعبيرالأدق عن المعنى المقصود عند الكتابة. 

كلنا نلاحظ أن اللفظين أعلم و أعرف يتكرران كثيراً في القرآن الكريم بكل إشتقاقاتهما. ونحن نقرأ القرآن الكريم تلاوة أو تجويداً وغالباً ما يغلب على فهمنا أن اللفظين لهما نفس المعنى أو نفس المدلول اللغوي.


ومن المؤكد أنه ليس المقصود بهما واحد في الفهم فإن والله جل وعلا حين يضع كلمة في مكان ما في كتابه فلابد أن تعبر هذه الكلمة عن مراد معنوي محدد ووحيد يقصده الله ولن تعبر عنه أي كلمة أخرى لو وضعت في مكانها.


وللتفصيل المفيد الجميل نذكر رأي بعض كتب التراث في هذا الموضوع ولكننا سوف نقتصر على مصدر واحد أو مصدرين على الأكثر لوفرة المصادر التي تبحث في هذا الأمر وكذلك تنوعها وتباينها وقد تفاجأت  بالفعل للأهمية التي أولاها الكثير من الباحثين على مر القرون السابقة للبحث في هذا الفرق. 


وأيضاً لن نتطرق في هذا الموجز إلى هذه المعاني عند السادة الصوفية إذ أن هذا يتطلب بحثاً منفصلاً لما قد يتضمنه من الكثير من التفاصيل بل وأيضاً المعاني التي قد تكون غريبة على الكثيرين.

* المصدر الأول:

يقول " ابن قيم الجوزية " في كتابه " مدارج السالكين " :

والفرق بين العلم والمعرفة لفظاً ومعنى ، أما اللفظ : ففعل المعرفة يقع على مفعول واحد ، تقول : عرفت الدار ، وعرفت زيدا ، قال تعالى : " فعرفهم وهم له منكرون" ، وقال : " يعرفونه كما يعرفون أبناءهم" .

وفعل العلم يقتضي مفعولين ، كقوله تعالى : " فإن علمتموهن مؤمنات" وإن وقع على مفعول واحد ، كان بمعنى المعرفة ، كقوله : " وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم" وأما الفرق المعنوي فمن وجوه :

الوجه الأول : أن المعرفة تتعلق بذات الشيء ، والعلم يتعلق بأحواله ، فتقول : عرفت أباك ، وعلمته صالحاً عالماً ، ولذلك جاء الأمر في القرآن بالعلم دون المعرفة ، كقوله تعالى : " فاعلم أنه لا إله إلا الله" ، وقوله : " اعلموا أن الله شديد العقاب" ، وقوله : " فاعلموا أنما أنزل بعلم الله ".

فالمعرفة : حضور صورة الشيء ومثاله العلمي في النفس ، والعلم : حضور أحواله وصفاته ونسبتها إليه ، فالمعرفة : تشبه التصور ، والعلم : يشبه التصديق .

الوجه الثاني: أن المعرفة في الغالب تكون لما غاب عن القلب بعد إدراكه ، فإذا أدركه قيل : عرفه ، أو تكون لما وصف له بصفات قامت في نفسه ، فإذا رآه وعلم أنه الموصوف بها ، قيل : عرفه.

قال تعالى : " وجاء إخوة يوسف فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون"  

وقال تعالى : " الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم" لما كانت صفاته معلومة عندهم ، فرأوه : عرفوه بتلك الصفات.

وقال تعالى : " وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به" فالمعرفة : تشبه الذكر للشيء ، وهو حضور ما كان غائبا عن الذكر ، ولهذا كان ضد المعرفة الإنكار ، وضد العلم الجهل  

وقال تعالى : "يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها" ويقال : عرف الحق فأقر به ، وعرفه فأنكره.

الوجه الثالث: أن المعرفة تفيد تمييز المعروف عن غيره والعلم يفيد تمييز ما يوصف به عن غيره ، وهذا الفرق غير الأول ، فإن ذاك يرجع إلى إدراك الذات وإدراك صفاتها ، وهذا يرجع إلى تخليص الذات من غيرها ، وتخليص صفاتها من صفات غيرها .

الوجه الرابع: أنك إذا قلت: علمت زيداً ، لم يفد المخاطب شيئاً ؛ لأنه ينتظر بعد : أن تخبره على أي حال علمته ؟ فإذا قلت : كريماً أو شجاعاً ، حصلت له الفائدة ، وإذا قلت : عرفت زيداً . استفاد المخاطب ، أنك أثبته وميزته عن غيره ، ولم يبق منتظراً لشيء آخر ، وهذا الفرق في التحقيق إيضاح للفرق الذي قبله .

الوجه الخامس: وهو فرق العسكري في فروقه وفروق غيره : أن المعرفة علم بعين الشيء مفصلا عما سواه ، بخلاف العلم فإنه قد يتعلق بالشيء مجملا ، وهذا يشبه فرق صاحب المنازل ، فإنه قال : المعرفة إحاطة بعين الشيء كما هو ، وعلى هذا الحد : فلا يتصور أن يعرف الله ألبتة ، ويستحيل عليه هذا الباب بالكلية فإن الله سبحانه لا يحاط به علما ، ولا معرفة ولا رؤية ، فهو أكبر من ذلك وأجل وأعظم ، قال تعالى : "يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما" بل حقيقة هذا الحد : انتفاء تعلق المعرفة بأكبر المخلوقات حتى بأظهرها ، وهو الشمس والقمر ، بل لا يصح أن يعرف أحد نفسه وذاته ألبتة .
والعسكري هو " أبو هلال العسكري " واضع كتاب أسمه " الفروق اللغوية".

* المصدر الثاني: 

وقد جاء في كليات أبي البقاء أن :

المعرفة : تقال للإدراك المسبوق بالعدم ، ولثاني الادراكين إذا تخللهما عدم ، ولإدراك الجزئي ، ولإدراك البسيط
والعلم : يقال لحصول صورة الشيء عند العقل ، وللاعتقاد الجازم المطابق الثابت ، ولإدراك الكلي ، ولإدراك المركب 

والمعرفة : قد تقال فيما تدرك آثاره ، وإن لم تدرك ذاته
والعلم : لا يقال إلا فيما أدرك ذاته

والمعرفة : تقال فيما لا يعرف إلا كونه موجوداً فقط
والعلم : أصله أن يقال فيما يعرف وجوده وجنسه وكيفيته وعلته

والمعرفة : تقال فيما يتوصل إليه بتفكر وتدبر 
والعلم : قد يقال في ذلك وفي غيره

 و" الكليات " هو كتاب للقاضي الحنفي " أبي البقاء أيوب " وهو معجم موسوعي فريد من نوعه في المصطلحات والفروق اللغوية.



وإن كان هذا المقال يبحث في الترادف بين كلمتين فقط ففي مقال لاحق سوف نبحث عن الترادف اللغوي بصفة عامة وأثره في فهمنا للدين الإسلامي.


عاطف شوشه