الاثنين، 22 يونيو 2020

لامية العرب




لا أستطيع أن أخفي إعجابي الشديد ببعض الشخصيات التاريخية الذي يصل بي في بعض الأحيان إلى درجة الإنبهار الشديد بها. 

ومن هذه الشخصيات شخصية تتعدد صفاتها تعدداً مذهلاً وتتناقض أيضاً تناقضاً مذهلاً. ومن  صفات هذه الشخصية أنه كان فتاكاً وكان عداءاً وكان صعلوكاً وكان شاعراً وكان من الخلعاء.



هذه الشخصية هي ثابت بن أوس الأزدي الملقب بـ "الشنفري" المتوفى سنة 70  ق. هـ.  والذي تعد سيرته من أكثر السير غرابة وتشويقاً فيما تداوله المؤرخين ورواة الأخبار ممن يهتمون بتاريخ العرب الجاهلي وسير مشاهيرهم وشعرائهم.

وقد عاش الشنفري بين بني سلامان من بني فَهم الذين أسروه وهو طفل صغير . ولما شبّ وعرف بقصة أسره حلف أن يقتل من بني فهم مائة رجل.

عاش الشنفرى في البراري والجبال مع إخوانه تارة ومنفرداً تارة أخرى يغزو على قدميه وعلى فرسه ويهاجم الناس ويسلبهم . مات مقتولاً على يد أحد أفراد القبيلة التي انتقم منها وقتل تسعة وتسعين من رجالها . أما القتيل المائة فقد قيل إنه بعد أن مات الشنفري رفسه القاتل على جمجمته فدخلت شظية في قدمه وقتلته.

وكان ممن قتلهم رجل قتله في منى في موسم الحج. إذ قيل له هذا الرجل هناك هو قاتل أبيك فمشى إليه وقتله.

وعلى الرغم من أن عدداً من قصائد العرب الجيدة قد جمعت في مجموعات مميزة  كالمعلقات و الأصمعيات و المفضليات  إلا أن قصيدة واحدة لم تنفــرد باسم خاص بها كما حدث لـ "لاميّة العرب" التي نظمها الشنفري مما يميزها عن غيرها من القصائد مما يثير التساؤل عن سبب تفردها بهذه الميزة.



 و"لاميّة العرب" هي القصيدة التي أولها :

أقـيـمــوا بـني أمـي صدور مـطيـكـم             فـإنـي إلى قــوم ســواكـم لأَمْـيــل
فـقد حـمت الحـاجـاتُ، والـلـيـلُ مقمرٌ     وشُـدت، لِطـياتٍ، مـطـايا وأرحُلُ
وفي الأرض مَـنْأيً للكريم عن الأذى           وفـيهـا لـمـن خـاف القِـلى مُتعزَّلُ
لَعَمْرُكَ ما بالأرض ضيقٌ على أمرئٍ     سَـرَى راغـباً أو راهباً وهو يعقلُ

و لا شك أن للنقاد الذين أطلقوا عليها اسـم " لاميّة العرب " أسبابهم المقبولة. ويصفها النقاد بأنها " صدرت عن طبيعة صافية و فطرة ساذجة لا تكلف فيها و لا تصنع و لا رياء لذلك جاءت معانيها مواكبة لآلام الشاعر و آماله و طباعه و أحداث حياته. و اشتملت على فضائل إنسانية و محامد خلقية لم نجدها في كثير من قصائد معاصرية مثل الصبر و العفة و سمو النفس و علو الهمة و إباء الذل و الضيم ".

كما أُعجب المستشرقون أيضاً باللامية ، فترجمت إلى الإنجليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية واليونانية.

و يشير النقاد أيضاً: " حسب هذه القصيدة فخراً أن الرواة نسبوا للنبيّ ( ص ) قولاً جاء فيه { علموا أولادكم لاميـّـة العرب فإنها تعلمهم مكارم الأخلاق }  فإذا صحت هذه الرواية تكون هذه القصيدة و صاحبها قد بلغــا درجة رفيعة لم يبلغها أصحاب المعلقات على عظمة قدرهم الشعري و نفاسة قصائدهم و ذيوع صيتهم في الآفـاق ".

و يضيف النقاد أن من الملاحظات المهمة التي تميزت بها اللامية بعكس كثير من قصائد الشعراء الفحول "كعنترة"  و "عمرو بن كلثوم"  أنها قد خلت من حديث  الخمر و المباهاة بشربها و الإنفاق عليها. ولم تتضمن ذكر النساء و التهالك على التلذذ بهنّ و سمت أبياتها عن الإقرار بالفحش كما في بعض شعر "إمرئ القيس".

وكان ما أثار إهتمامي بهذا الشاعر قصيدة جميلة أخرى له والتي يقول فيها:

أَلا أَمُّ عَـمـرو أَجـمَـعَت فَاِستَقَلَّتِ         وَمـا وَدَّعَـت جـيـرانَها إِذ تَوَلَّتِ
وَقَد سَـبَقَـتـنا أُمُّ عَــمرو بِـأَمـرِها         وَكَانَت بِأَعـنـاقِ الـمَـطِيَّ أَظَلَّتِ
بِعَينَيَّ ما أَمسَت فَباتَت فَأَصبحَتَ         فَـقَـضَّت أُموراً فَاِستَقَـلَّت فَوَلَّتِ
فَــوَا كَـبِـدا عَـلى أُمَـيمَـةَ بَـعـدَمـا         طَمِعتُ فَهَبها نِعمَةَ العَيشِ زَلَّتِ

وينتمي الشنفري  إلى الفئة التي عرفت بـ " صـعــاليك العــرب " وهي فئة انتفضت من قلب طبقة الفقــراء و المظلومين ثارت على أعراف القبيلة و ظلم أغنيائها وحاولت بطريقتها الخاصة إرساء قواعد لمجتمع يسوده العدل و التكافل. و يقال أن أفراد هذه الفئـة قد امتازوا بالشجاعة و الأنفة و الإقدام و أنهم لم يخرجوا على قبائلهم لسفه أو دناءة خلق  لكن من أجل تغيير الأعراف الجـائرة. ولأنهم كانوا يؤمنون بعدالة قضيتهم ،  فقد كان الصعاليك يفتخرون بأعمالهم وغــاراتهم و إن كان يتخللها بعض من نهب و سبي و قتل . ولا ينسى هؤلاء الصعاليك و هم  يغيرون و يقتلون أن يحافظوا على فضائلهم و قيمهم الخلقية.

و قد مثل الشنفري حركة الصعلكة  بقيمها و مظاهرها  أدق تمثيل و كان مثالاً للصعلوك المتسلح بالصلابة و الشجاعة و الجرأة فمن حيث القوة البدنية كان يسابق الخيل حتى ضرب به المثل في سرعة الجري فقيل " أعدى من الشنفري " وقد ذرع خطوه ليلة قتل فوجد أن أول نزوة نزاها كانت إحدى وعشرين خطوة، ثم الثانية سبع عشرة خطوة.

هذا إلى جانب تحليه بالفضائل و القيم الخلقية و السلوكية و كان يقيم أطيب العلاقات مع زملائه  الصعاليك من أمثال "تأبط شراً" و "عامر بن الأخنس" و "عمرو بن براق"  وغيرهم .
و حين قتل "الشنفري" أقسم "تأبط شرّا" أن ينتقم له و رثاه بقصيدة  عدد فيها مآثره و سجاياه.

وحين قبض عليه "بني سلامان" ربطوه إلى شجرة، فقالوا: قف أنشدنا، فقال مقولته المشهورة التي أصبحت مثلا: "الإنشاد على حين المسرة".  
أي أنه لا ينشد الشعر إلا إذا كان مسروراً.

ثم أنهم سألوه حين أرادوا قتله - أين نقبرك فقال:


لاتقبروني! إن قبري محرم عليكم ولكن أبشري أم عامر

وأم عامر هي كنية الضبع عند العرب. أي أنه أبى عليهم أن يقبروه وإنما أن يتركوه طعاماً للضواري في العراء.




عاطف شوشه

الجمعة، 19 يونيو 2020

ضرب زيدٌ عمراً





إنما كان ضرب زيـد لعمرو    في كـلام النحاة نـثراً ونـظما
إن داود قـال يــا زيـد عمرو    أخذ الواو من حـروفي ظـلما
فاجتهد في خلاص حقي منه    واضربنه على التمادي حتما




لماذا يقول النحاة دائما ضرب زيدٌ عمراً لا العكس ؟


ذكر الشيخ محمد بن إبراهيم الحمد في شرح متن كتاب "قطر الندى و بل الصدى" قصة لطيفة وقعت بين أحد الأمراء وكان اسمه داود وبين أئمة النحو في عصره فكل من كلمه منهم أدخله السجن.


وكان سبب ذلك هوعدم تمكنهم من إجابته جواباً مقنعاً على سؤاله المتمثل في قول النحاة: 

"لماذا يضرب زيدٌ عمراً دائماً ؟". 

 فكل النحويين الذين سألهم الأمير هذا السؤال قالوا: "تمثيلاً فقط و جرياً على ما اعتدناه من مشايخنا".

 فلما دخل عليه آخرهم و كان شديد الذكاء و علم بأن مراد الأمير سجن الأئمة لا غير و إنما أورد عليهم ذلك السؤال تعجيزاً لهم. 

قال الإمام النحوي: "انا أجيبك ولكن بشرط". 

فقال الأمير: "شروطك منفذة بعد الجواب". 

فقال له الإمام النحوي: "إننا نجعل عمراً مضروباً دائماً لأنه سرق حق غيره".

 فتعجب الأمير و قال: "وما الذي سرقه  عمرو؟"

فقال الامام: "لقد سرق الواو من داود فإن داود حقه أن يكتب بواوين لأنها تنطق عند ذكره خلافاً لعمرو فإنه ينطق بدون الواو و لكن يكتب بها. وقد طلب داود من زيد أن يأخذ له حقه من عمرو فلما أبى أن يرد الواو وتمادى في رفضه ضربه زيد". 

فتعجب الأمير و قال له : "ما طللبك ؟ ".

قال الإمام : " أن تطلق سراح أئمة النحو اللذين في سجنك".  

فأطلق الأمير سرا حهم.



ولهذا يقال بأن النحوي لا يُخطئ لأنه يجد دائماً مخرجاً بتأويلاته.






عاطف شوشه

الأحد، 14 يونيو 2020

مثلث قطرب






عندما نذكر المثلثات يتجه تفكير الكثير منا وخاصة دارسي العلوم الرياضية والهندسية إلى علم حساب المثلثات الذي يحبه الكثير منا إما لبساطة منطقه أو لأنه علم ابتكرناه نحن لأن قدماء المصريين هم أول من عمل بقواعده إذ استخدموها إستخداماً عملياً مبهراً في بناء الأهرامات وكذلك في بناء معابدهم. 



ويتجه تفكير البعض الآخر إلى مثلثات أخرى من أنواع مختلفة.

فالمتدينون سيذكرون على الفور مثلث أوعقيدة الثالوث في المسيحية والتي تذكر أن الله هو إله واحد لكن في ثلاثة أشخاص أو أقانيم مختلفة هي الآب والإبن (يسوع) والروح القدس. أي أن "الله واحد في ثلاثة أقانيم إلهية". 





أما الذين يميلون إلى الغموض والأسرار سيذكرون على الفور "مثلث برمودا" والمعروف بإسمه الاخر وهو مثلث الشيطان. وهو منطقة جغرافية على شكل مثلث متساوي الاضلاع رؤوس هذه الاضلاع تقع بين جزر برمودا وفلوريدا وبورتيريكو. وهي منطقة يلفها الكثير من الغموض وبنيت عليها الكثير من الأساطير وحوادث الإختفاء الغامضة لطائرات وسفن ضخمة.



أما محبي تاريخ مصرالفرعوني فسيذكرون "ثالوث أبيدوس" الذي يتكون من "أوزوريس" و"إيزيس" وابنهم "حورس" والأسطورة الفرعونية الشهيرة بكل تفاصيلها المثيرة. 
وكذلك "ثالوث منف" الذي يتألف من "بتاح" و " سخمت" و "نفرتم"  و"ثالوث طيبه" المكون من "آمون" و"موت" و"خنسو".




أما الرومانسيون فلن يخطر ببالهم إلا مثلث العشق الذي يتلخص في رجل وامرأة وشخص ثالث والذي لخصه الشاعر العربي القديم في بيت واحد من الشعر وهو:


"جننا بليلى وهي جنت بغيرنا وأخرى بنا مجنونة لا نريدها"


وعن هذا البيت بالتحديد قال "غازي القصيبي" الشاعر السعودي الشهير: " نصف المشاكل العاطفية يلخصها هذا البيت. ولو قاله فرويد في مؤتمرات علم النفس لاعتبر نظرية علمية أمّا وقد قاله أعرابي كحيّان فقد ظل مجرد بيت شعر."


أما المثلث الذي لا يعرفه الكثيرون والذي نحن بصدد الكلام عنه الآن فهو مثلث من نوع آخر مختلف هو "مثلث لغوي". 


وضع هذا المثلث أو الكتاب اللطيف في موضوعه الخفيف في حجمه الشيق في عرضه "أبو علي محمد بن المستنير بن أحمد البصري" المتوفى سنة 206 هـ وهو أحد من تتلمذوا على سيبويه العالم النحوي المعروف وتعلم منه، وكان يدلج إليه، وإذا خرج رآه على بابه غدوة وعشية، فقال له: ما أنت إلا قطرب ليل فاشتهر بهذا اللقب واشتهر كتابه هذا بـمثلثات قطرب. والقطرب هو كائن صغير كان معروفاً على عهدهم وكان دائم الحركة يسعى على رزقه منذ الصباح الباكر حتى آخر الليل.



ومثلثات قطرب هي دراسة لغوية دلالية للمفردات التي تتفق في البناء الصرفي من حيث ترتيب الحروف، وتختلف حركاتها. وسميت مثلثات لأنها تجمع كل ثلاث كلمات في مجموعة، تتغير معانيها حسب حركاتها. واشتملت الدراسة على اثنتين وثلاثين مفردة مثلّثة حيث بدأ بمجموعة (الغَمْرُ، الغِمْرُ، الغُمْرُ)، وانتهى بمجموعة (الصَّلُّ، الصِّلُّ، الصُّلُّ).

وكان قطرب قد كتب المثلثات منثورة فلما وصلت إلى "أبي بكر الوراق" بمدينة "بهنسا" استحسنها ونظمها شعراً. ثم جاء من بعده عدة أشخاص آخرين نظموها أيضا شعراً مثل ابن زريق وعبد العزيز المكناسي.

وقد كان قطرب أول من ألف في هذا المجال، وتبعه غيره كالبطليوسي والخطيب والبلنسي بمؤلفات فاقته من حيث عدد الكلمات المدروسة وتنوعها، وقد عرضها بطريقته الخاصة، إذ رتبها ترتيبا تصاعديا بدءًا من أخفّ الحركات، وهي الفتحة وانتهاء بأثقلها وهي الضمة، ثم يستشهد على المفردة بأحد الشواهد من القرآن والحديث والأشعار.




ونعرض هنا بعض النماذج المختصرة من كتاب "مثلث قطرب" .


الكَلام ، الكِلام ، الكُلام:
تـــيـم قلــبـي بالكَـــلام     وفي الحشا منه كِلام
فسرت في أرض كُلام     لـكــي أنـال مطـلبـي

الكَلام بـفـتح الكاف: هو الحديث المتداول بين الناس
الكِلام بكسر الكاف:  الجراح في الجسم
الكُلام بـضم الكاف: الأرض اليابسة الصلبة

الحَرة ، الحِرة ، الحُرة:
ثـبت بأرض حَـرة   مـعــروفة بـالحِــرة
فقلت يـابـن الحُـرة   إرث لما قد حل بي

الحَرة بـفتح الحاء: الحرارة
الحِرة بكسر الحاء: العطش
الحُرة بضم الحاء: هي الحرة من النساء

الصَرة ، الصِرة ، الصُرة:
صاحبني في صَرة   في ليلة ذي صِرة
وما بـقـي في صُرة   خـردلة من ذهـب

الصَرة بفـتـح الصاد: جماعة من الناس وقيل أيضاً هي الضجة والصيحة
الصِرة بكسر الصاد: الليلة الباردة 
الصُرة بضم الصاد: الخرقة يصر فيها الدراهم

القَسط ، القِسط ، القُسط:
طــارحني بـالقَسط   ولم يزن بالقِسط
في فيه طعم القُسط   والعنبر المطيب

القَسط بفتح القاف: الجور والإعتداء (وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا)
القِسط بكسر القاف: العدل (ونضع الموازين القسط)
القُسط بضم القاف: طيب الرائحة

ولقد اشتريت هذا الكتاب من معرض الكتاب الأخير من دار "كشيدة" المعروفة بميولها الشيعية.

وكلمة "كشيدة" في اللغة العربية تعني الأداة المستعملة لإطالة الحرف المكتوب ليتحقق تساوي المقاطع " ـ ". والمثال على هذا:

باستخدام الكشيدة : طــارحـني بـالـقَـسـط 
بدون الكشيدة :     طارحني بـالقَسط



اللهم انفعنا بما علمتنا وعلمنا ما ينفعنا.


عاطف شوشه






الاثنين، 8 يونيو 2020

لا أستطيع أن أتنفس - مالكوم إكس






"أعلم تماماً أنك تختنق. الهواء هنا لا يناسبك بأي حال من الأحوال. الهواء هنا ملئ بالخبث والدمامة والتشويه." 

"أعلم أنهم أتوا بك إلى هنا من مكان بعيد جداً رغماً عن إرادتك. أتوا بك من هناك حيث هواء الغابات الرائق المحمل برائحة العشب الأخضر والبحيرات الشاسعة والأنهار العذبة مازال يتجول بصحبة الطيور بلا قيود بين الأشجار العالية التي تصل السماء الزرقاء الصافية بالأرض الخضراء الممتدة". 

"هناك كنت تتنفس بعمق وطمأنينة ملأ صدرك وتنمو سوياً بلا أية مكدرات أو تعقيدات نفسية." 

"إذا أردت أن تتنفس بحرية مطلقة عد إلى هناك ولا ترجع إلى هنا مرة أخرى."

إذا أردت ألا تختنق ثانية عد إلى هناك."  


"أيها الرجل الأسود."


"لم أشهد في حياتي أصدق من هذا الإخاء بين أناس من جميع الألوان والأجناس، أمريكا في حاجة إلى فهم الإسلام لأنه الدين الوحيد الذي يملك حل مشكلة العنصرية." 

بهذه الكلمات الصادقة النابعة من أعماق داعية إسلامي أمريكي أسود قضى تسعة وعشرون عاماً يدعو إلى الإسلام بدون أن يعرف كيف يؤدي الصلاة كما يجب أن تكون وصف "مالكوم إكس" رحلته للحج التي قابل أثناءها الملك "فيصل" ومستشاره "عبد الرحمن عزام". 

وهذا المشهد الذي انبهر به مالكوم في الحج هو مشهد نعتبره عادي جداً بالنسبة لنا منذ زمن بعيد اعتدنا عليه في بلادنا كما اعتدنا عليه في كل أماكننا المقدسة.

و في القاهرة التي بدأ منها رحلته إلى مكه قابل الرئيس "جمال عبد الناصر" وقابل كل من شيخ الأزهر ومفتي مصر الشيخ "حسنين مخلوف" الذين شرحا له أن ممارسات جماعة "أمة الإسلام" التى ينتمي إليها تنافي تعاليم الإسلام. وهكذا بعد أن تعرف على الإسلام الصحيح أعلن مالكوم إسلامه من جديد وتهيأ لمرحلة خطيرة في حياته ستقابله عند العودة إلى موطنه أمريكا.

مالكوم يصلي في مسجد قلعة صلاح الدين بالقاهرة

مالكوم في القاهرة
مالكوم مع الملك فيصل




كان والد مالكوم قساً معمدانياً وناشطاً سياسياً في أكبر منظمة للسود آنذاك وهي "الجمعية العالمية لتقدم الزنوج". 

كانت حياة عائلة مالكوم سلسلة من النكبات فقد شهد الأب مقتل أربعة من إخوانه الستة على يد العنصريين البيض، وتعرض لمضايقات وتهديدات بسبب نشاطاته السياسية، فرحل إلى مدينة لانسنغ في ولاية ميتشيغان في العام 1928م. 

وبعد عدة شهور أحرقت منظمة كوكلوكس كلان العنصرية منزل العائلة فرحلت العائلة من جديد إلى ضواحي مدينة لانسنغ، وفي العام 1931 قُتل والد مالكوم بصورة وحشية على يد العنصريين البيض ولكن السلطات ادعت أنه مات دهساً. 

فقامت أمه بتربية أطفالها الثمانية دون مورد للرزق لا سيما أن السلطات حجبت عنها كل الإعانات و الحقوق المالية، وفي عام 1939 أصيبت أمه بانهيار عصبي فأدخلت مصحة للأمراض العقلية.

مالكوم ليتل أو مالكوم إكس - لاحقاً - في طفولته


تردت أخلاق مالكوم وعاش حياة التسكع والتطفل والسرقة فتم طرده من المدرسة وهو في السادسة عشرة من العمر وأودع سجن الأحداث، واستكمل تعليمه الثانوي وهو في السجن.

كان مالكوم إكس ذكياً نابهاً تفوق على جميع أقرانه فشعر أساتذته بالخوف منه مما حدا بهم إلى تحطيمه نفسياً ومعنوياً والسخرية منه. فقد تخرج من الثانوية بتفوق وحصل على أعلى الدرجات بين زملائه وكان يطمح أن يصبح محامياً غير أنه لم يكمل تعليمه وترك الدراسة بعد أن أخبره أحد المدرسين أن حلمه بالذهاب إلى كلية الحقوق بعيد كل البعد عن الواقع كونه زنجياً.

إنتهى الأمر بمالكوم في السجن بعد أن مارس جميع أنواع الإجرام في بوسطن ونيويورك. وفي السجن وصلته عدة رسائل من إخوانه يبلغونه فيها اعتناقهم لدين جديد دين للسود قادر على إنقاذهم وعلى إنهاء عصر سيطرة الشيطان الأبيض، لم يكن هذا الدين سوى أجزاء مبعثرة من دين الإسلام.

وكانت حركة "أمة الإسلام" قد ظهرت في أوائل القرن العشرين  بين السود في أمريكا وتبنت الإسلام بمفاهيم خاصة غلبت عليها الروح العنصرية على يد رجل أسود غامض الأصل اسمه "والاس فارد" ظهر فجأة في ولاية "ديترويت" داعياً إلى مذهبه بين السود، واختفى بصورة غامضة بعد ذلك بأربع سنوات، فحمل لواء الدعوة بعده "إليجا محمد" وصار رئيسًا لأمة الإسلام.

علم حركة أمة الإسلام المأخوذ من إرث الثقافة العثمانية بالهلال الأبيض والخلفية الحمراء.

وقد كانت تلك الحركة تنادي بأفكار عنصرية منها أن الإسلام دين للسود، وأن الشيطان أبيض والملاك أسود، وأن المسيحية هي دين للبيض، وأن الزنجي تعلم من المسيحية أن يكره نفسه لأنه تعلم منها أن يكره كل ما هو أسود. فكان لديها مفاهيم مغلوطة وأسس عنصرية منافية للإسلام رغم اتخاذها له كشعار، فقد كانت تتعصب للعرق الأسود وتجعل الإسلام حكراً عليه فقط دون بقية الأجناس.

وفي السجن تردد مالكوم على المكتبة التي ضمت آلاف الكتب وتعلم اللغة اللاتينية، كما انقطع عن التدخين وأكل لحم الخنزير وعكف على القراءة والإطلاع فقرأ آلاف الكتب في شتى صنوف المعرفة، فأسس لنفسه ثقافة عالية مكنته من استكمال جوانب النقص في شخصيته. ثم حفظ المعجم فتحسنت ثقافته، حيث شرع بنسخ كلمات القاموس كلمة إثر كلمة، فبدا السجن له كأنه مرحلة اعتكاف علمي وانفتحت بصيرته على عالم جديد فكان يقرأ في اليوم خمس عشرة ساعة، وعندما تطفأ أنوار السجن في العاشرة مساء كان يقرأ على ضوء المصباح الذي في الممر حتى الصباح.

السجن الذي حبس فيه مالكوم إكس فترة عقوبته. (ألتقطت الصورة عام 1983)


وقرأ قصة الحضارة وتاريخ العالم، وما كتبه النمساوي مندل في علم الوراثة، وتأثر بكلامه في أن أصل لون الإنسان كان أسود، وقرأ عن معاناة السود والعبيد والهنود الحمر من الرجل الأبيض وتجارة الرقيق، وقرأ أيضاً لمعظم فلاسفة الشرق والغرب فغيرت القراءة مجرى حياته، وكان هدفه منها أن يحيا فكرياً لأنه أدرك أن الأسود في أمريكا يعيش أصم أبكم أعمى بسبب بعده عن القراءة أو التعلم. 

ودخل في السجن في مناظرات أكسبته خبرة في مخاطبة الجماهير والقدرة على الجدل، وبدأ يدعو غيره من السجناء السود إلى حركة أمة الإسلام فاشتهر أمره بين السجناء، فأكسبته هذه المناظرات العديدة قوة الحجة وفصاحة اللسان. حتى استطاع جذب الكثيرين للانضمام إلى هذه الحركة داخل السجن، فصدر بحقه عفو وأطلق سراحه.

إنضم مالكوم بعد خروجه من السجن رسمياً إلى منظمة أمة الإسلام وتحول إلى حياة الزهد والتعلم. 

نظراً لقدرات مالكوم التنظيمية والقيادية والخطابية فقد تدرج مالكوم شيئاً فشيئاً ضمن الجماعة إلى أن أصبح الداعية الأول في أمة الإسلام يدعو إلى الانخراط فيها بخطبه البليغة وشخصيته القوية إلى أن تقلد منصب المتحدث الرسمي للحركة ويرجع إليه الفضل في ازدياد أتباع المنظمة من 500 شخص في عام 1952 إلى 30.000 شخص في عام 1963.

وحدث أن إنفصل مالكوم عن حركة أمة الإسلام نتيجة لاختلافه مع زعيمها وكذلك لعدم رضاه عن أداء المنظمة المتردي في أنحاء البلاد الجنوبية حيث العنصرية ضد السود في أبشع صورها.

بدأ مالكوم طور جديد من حياته عندما قرأ كتاباً في تعاليم الإسلام وعن شعيرة الحج فقرر أن يؤدي هذه الفريضة. فسافر لتأدية الحج في سنة 1379 هـ الموافق عام 1964.

مالكوم يؤدي الصلاة، عام 1964

عاد مالكوم من الحج واعتنق المذهب السني وأنشأ منظمة جديدة تحت إسم "المسجد الإسلامي" يدعو فيها جميع الأعراق والأجناس إلى التعايش بسلام وعاد باسم جديد كذلك هو الحاج "مالك شباز" الذي يشير إلى أصوله الأفريقية بعد أن كان قد غير اسمه من "مالكوم ليتل" إلى "مالكوم إكس" - حرف الإنجليزية X -وكان هذا إجراءاً معهوداً من قبل المنضوين في أمة الإسلام  وهو يرمز إلى الاسم الأخير الذي سلب منهم جراء استعبادهم علي يد البيض إذ أن إكس ترمز  في الرياضيات للمجهول وغير معلوم الأصل.
ويتابع مالك شباز نضاله ضد التمييز العنصري في أمريكا ناشراً فهمه الصحيح للإسلام، فالإسلام كما يذكر مالكوم:

"الدين الوحيد الذي كان له القوة في جعله يقف في وجه مسيحية الرجل الأبيض ويحاربها."

يقصد بذلك المسيحية التي حملها المستعمر في حملاته الصليبية على العالم، لقد أصبحت بذلك دعوة مالكوم عالمية فزار العديد من بلاد العالم وخصوصاً في القارة السمراء مؤسساً بذلك منظمة "الوحدة الأفروأمريكية".

حاول مالكوم تصحيح مفاهيم جماعة أمة الإسلام الضالة، فقوبل بالعداء والكراهية منهم وبدءوا بمضايقته وتهديده فلم يأبه لذلك، وظل يسير في خطى واضحة يدعو إلى الإسلام الصحيح الذي يقضي على جميع أشكال العنصرية.

وبتنامي الخلافات بين مالك ومنظمة أمة الإسلام، قامت المنظمة بإعطاء أوامرها الصريحة بقتله.

وفي الحادي والعشرين من شهر فبراير عام 1965 صعد مالكوم إلى منصة في قاعة مؤتمرات في مدينة نيويورك ليلقي محاضرة يدعو فيها إلى الإسلام فقام ثلاثة من أعضاء  أمة الإسلام باغتياله.


مالكوم في الكفن قبل الدفن. ظهرت هذه الابتسامة على وجهه منذ حادثة قتله إلى اليوم الذي دفن فيه. وقبلها رفع إصبع السبابة بعد أن انزرعت الطلقات الستة عشر في جسده.
المنصة التي اغتيل عليها مالكوم إكس، ويظهر في الخلف على الحائط بعض الطلقات التي اخترقت جسده.

تعد مأساة استعباد الأفارقة السود على يد المستوطنين الأمريكيين طوال 400 عام أحد أشد فصول التاريخ عنفاً ووحشيةً وفي المقابل نشأت فصول من المقاومة والنضال قام بها الأفارقة السود منذ الأيام الأولى لاستعبادهم وإلى يومنا هذا.

ويعد الفيلم الذي صور عن حياة مالكوم إكس هو الفيلم الأجنبي الوحيد الذي سمحت الهيئة الشرعية في السعودية بتصويره في مكه. والفيلم مأخوذ عن قصة حياته التي كتبها معه "أليكس هالي" مؤلف مسلسل "جذور الشهير الذي يصور استعباد الزنوج في أمريكا.

ملصق فيلم مالكوم إكس عام 1992، بطولة دنزيل واشنطن.

هناك من يدعي بأن الإسلام لم يقض على العبودية والرق في العالم وإنما من قضى عليه هو الغرب متمثلاً في أبرهام لينكولن ويأتون بالبراهين ويدافعون عن هذا الرأي دفاع المستميت. 

إن ما يحدث الآن في الغرب عامة وعلى الساحة الأمريكية خاصة يبرهن على أن الإجبار على نبذ العبودية باستعمال القوة والقانون لم يؤد إلى أي نتيجة إيجابية وأن الواقع  الذي نراه الآن هو ما رسخ في الوجدان ولم تغيره السنين والأيام وأن القناعات الداخلية لا تغيرها القوانين الوضعية وتظل ثقافات الشعوب هي التي تتحكم في حركته وانفعالاته وانفلاتاته التي يندفع إليها بدون أي وعي أو سابق تدبير.

أما الإسلام الذي ينكرون دوره في القضاء على استعباد الإنسان لأخيه الإنسان فقد غير ثقافة العبودية والرق عند المسلمين بأسلوب جميل ومحبب بالممارسة العملية. حتى أن المسلم اليوم قد يتمنى أن يجد عبداً في أي مكان لا لكي يقوم باسترقاقه وتسخيره وإذلاله ولكن لكي يعتقه ويكسب جراء ذلك الأجر العظيم الذي وعده به ربه. 

فقد جعل الإسلام عتق العبيد يرتبط بحالات من البهجة والفرحة تحبب إليه هذا العمل وترغبه فيه. ففي العتق في كثير من الأحوال كفارة للكبائر والذنوب العظيمة وإذا كفرت الذنوب والكبائر كان أمل العبد المسلم في دخول الجنة أكبر.


وفي العتق أيضاً نجاة من القصاص إذا قتل المسلم إنساناً عن طريق الخطأ. وفيه كذلك كفارة عن عدم الوفاء باليمين. وفيه أيضاً كفارة الظهار. وفيه غير كل ذلك قربة إلى الله فمن عتق رقبة كانت له أمناً من دخول النار.

فنبذ العبودية والرق في الإسلام يرتبط بسعادة المسلم وفرحته. واستمر الحال كذلك منذ ظهور الإسلام حتى لم يبق هناك أي عبيد في الدول الإسلامية. 

أما التمييز بين البشر على خلفية العرق أو لون البشرة أو الخلقة فقد كان لتركيز الإسلام على كراهته في كل صوره أن ترسخت في نفس المسلمين عقيدة قبول الآخرين ليس فقط كإخوة لهم في الدين بل ومرشدين ومعلمين وقواد على أساس واحد فقط وهو مدى تدينهم أو مدى تقواهم.



عاطف شوشه




الجمعة، 5 يونيو 2020

جيفارا العرب



هو عبد الرحمن عزام باشا الذي حلت ذكرى وفاته منذ أيام قليلة وبالتحديد في يوم الثاني من يونيو.






أطلق عليه لقب "جيفارا العرب" لأنه شارك في حروب كثيره إذ حارب ضد الصرب في صفوف العثمانيين وروسيا وحارب الإنجليز مع أحمد الشريف السنوسي و الفرنسيين وحارب ضد الطليان واحتل مع محمد صالح حرب والسيد أحمد الشريف الواحات المصرية. أنشأ الجيش المرابط خلال الحرب العالمية الثانية وساهم في صنع أول جمهورية في العالم العربي الجمهورية الطرابلسية.

ولد في قرية الشوبك الغربى في محافظة الجيزة، ودرس الطب في مصروإنجلترا. قاتل مع العثمانيين في الحرب العالمية الأولى، ثم سافر إلى ليبيا ليشارك في القتال ضد الإيطاليين، حيث أصبح مستشار الجمهورية الطرابلسية. أسس القوات المرابطة وقادها إلى أن أصبح وزير للخارجية المصرية.

في 1923م عاد إلى مصر. في 1924م انتخب في مجلس النواب المصري. في 1936م عينه الملك فاروق الأول وزيرا مفوضا وممثلا فوق العادة للمملكة المصرية. في 1939م أصبح وزير أوقاف في وزارة علي ماهر باشا (18 أغسطس 1939م - 27 يونيو 1940م).

شارك في الوفد المصري لمؤتمر فلسطين في لندن سنة 1939م. في خلال وزارة أحمد ماهر باشا (15 يناير 1945م - 24 فبراير 1945م) ووزارة محمود فهمى النقراشى من (24 فبراير 1945م - 15 فبراير 1946م) كان أحد أعضاء وفد مصر لوضع ميثاق جامعة الدول العربية. من 22 مارس 1945م إلى 1952م أمين عام جامعة الدول العربية. بعد ذلك، سافر إلى السعودية حيث عمل مستشاراً في النزاع المتعلق بواحة البريمي حتى عام 1974م.

أن عبد الرحمن عزام هو صاحب فكرة إنشاء اتحاد عربي يضم جميع الشعوب العربية ومن بينها دولة فلسطين وانه قدم مذكرة بذلك لعدد من ساسة الدول العربية وخاصة المصريين وفعلا تحمست الحكومة المصرية الوفدية برئاسة الزعيم مصطفى النحاس باشا في ذلك الوقت للفكرة وانشئ الاتحاد باسم الجامعة العربية و لهذا السبب اختارته الدول العربية فيما بعد أول أمين عام لها.

إن الارتباط والتكامل بين الجامعة العربية والإسلام لايظهر فقط في كتابات عبد الرحمن عزام بل إنه عنصر بارز في حياته كلها منذ شبابه حتى وفاته. لقد كان طالبا بكلية الطب بجامعة لندن عندما دعا الخليفة للجهاد في حرب البلقان قبيل الحرب العالمية الأولى فلبى الطالب الشاب نداء الجهاد وسارع إلى ميدان القتال تحت الراية الإسلامية في البلقان وعندما ثار شعب ليبيا ضد الاستعمار الإيطالي الذي يهاجمه وضد الإستعمار الإنجليزى الذي يساعده من قواعده في مصر وكانت الدولة العثمانية الإسلامية تمد الثوار وغيرهم بالسلاح والمال والرجال سارع عبد الرحمن عزام بالانضمام إليهم وحمل السلاح معهم ضد الطليان والإنجليز.

لكن عمل عزام بالجامعة العربية لم يكن عملا بيروقراطيا سياسيا دبلوماسيا فقط كما كان يريد بعض الحكام العرب لأنه بقي وفيا للمبادئ التي دفعته للتطوع في ميادين الجهاد في البلقان وفي برقة وطرابلس وأهمها مبدآن: الأول أنه لم يفرق بين العمل للعروبة والعمل للإسلام. والثاني: أنه لم يفرق بين العمل السياسي والجهاد في ميادين القتال.

ففي بداية عمله بالجامعة بدأت أندونيسيا كفاحها ضد الهولنديين فسارع إلى مساعدة الحركة الوطنية في أندونيسيا وبدأ سياسة للتقارب مع الهند التي أدت إلى تكوين كتلة دولية جديدة في الأمم المتحدة تحمل اسم المجموعة العربية الآسيوية كان هدفها الأول هو الدفاع عن أندونيسيا حتى نالت استقلالها ولم يسمع لاحتجاجات بعض الزعماء العرب الذين قالو أن أندونيسيا ليست دولة عربية فلا شأن للجامعة العربية بقضيتها إنه رد عليهم بأنه بحاجة إلى مساعدة جميع الحركات الوطنية وإلى التعاون مع المجموعة الآسيوية لقضية فلسطين وأنهم فعلا تعاونوا معنا في قضية سوريا و لبنان ضد الحكم الفرنسي التي انتهت باعتراف فرنسا باستقلال الجمهوريتين العربيتين ولا يمكن أن نتخلى عن التعاون معهم ومع جميع المدافعين عن الحريات والاستقلال لجميع الشعوب وقد سار في دفاعه عن أندونيسيا حتى استقلت كما استقلت سوريا ولبنان. 

لم تشغله قضية فلسطين ولا قضية سوريا و لبنان ولا أندونيسيا عن حبه الأول لأرض ليبيا وشعب ليبيا المكافح فقد جعل همه الأول عندما أنشئت الجامعة تمويل الحركة الوطنية في ليبيا ومساعدتها ماليا وسياسيا والدفاع عن مطالبتها باستقلال ليبيا ووحدتها حتى استقلت ليبيا كما استقلت سوريا ولبنان و أندونيسيا ودافع عن الحركات الوطنية في أفريقيا الشمالية حتى استقلت المغرب و تونس و الجزائر فيما بعد. 

لم يكن خصوم عبد الرحمن عزام من العرب فقط بل ان أكبر خصومه وأخطرهم كانوا من غير العرب وخاصة الإنجليز والفرنسيين. في باريس عندما زارها لأول مرة عام 1946 م وحضر مؤتمره الصحفي الذي تكلم فيه عن القضايا العربية وسياسة الجامعة العربية إزاءها ولم يقتصر كلامه على قضية فلسطين ولا قضية ليبيا كما كان الفرنسيون يتوقعون وإنما تكلم عن قضايا تونس والمغرب و الجزائر مما أثار الفرنسيين الرسميين وغير الرسميين ولقد علقت الصحف الفرنسية على زيارة عزام وتصريحاته وكانت خلاصتها أن هذا رجل مخرف جاء لباريس ليتكلم عن شعوب خاضعة للسيادة الفرنسية والاتحاد الفرنسي وأن على الحكومة الفرنسية أن تلزم هذا الرجل حده أو تطرده من بلادها. 

بعد خمس سنوات فقط من الزيارة الأولى ذهب إلى باريس في زيارته الثانية في خريف عام 1951 م ليدافع عن قضية المغرب أمام الجمعية العمومية لهيئة الأمم المتحدة وعادت الصحف الفرنسية تهاجمه وحاصرته الحكومة الفرنسية هو ووفد الجامعة العربية (الذي اشتركت فيه) حصار شديدا حتى لا يتصل بأحد من زعماء الحركة الوطنية في أقطار شمال أفريقيا ولكنه لم يأبه لهذا الحصار ولا لهذه الحملات الصحافية وفي حوار بينه وبين أحد العقلاء من الفرنسيين نصحه بان تقنع الجامعة العربية بقضية فلسطين ولا تنشغل بقضايا شمال أفريقيا إلا عندما تنتهي قضية فلسطين ولكن عزام قال له وأنا أنصح فرنسا بأن تنصف شعوب شمال أفريقيا وتكسب ودهم وصداقتهم لأنهم لا يمكن أن يرضوا بالتبعية الفرنسية وإذا لم تنصفوهم سوف يلجأون للسلاح وإذا حملوا السلاح فلن يضعوه حتى ينالوا حقوقهم إنني أعرفهم أكثر منكم وتجربتي معهم تأكد لي ذلك وقد أثبتت الأيام أنه كان صادقا. 

بعد بضع سنين من هذا الحوار حملت شعوب أفريقيا الشمالية السلاح في تونس و المغرب و الجزائر وكافحت حتى نالت استقلالها حتى جاء ديجول وأنهى حرب الجزائر. ولم يقصر عبد الرحمن عزام نصائحه على الفرنسيين وإنما كان يسدي نصائحه لزعماء شمال أفريقيا الذين التقى بهم في باريس والقاهرة و كان يقول لهم أن الجامعة العربية لن تحصل لكم على الاستقلال بل عليكم أن تاخذوه بجهادكم وتضحياتكم وكل ما تفعله الجامعة أو الدول العربية هو أن تساعدكم في جهادكم وكان أول المساعدين فعلا وكان زعماء أفريقيا يعلمون بدوره ويقدرونه وكانوا يعلمون أن بعض حكام الدول العربية وزعمائها ووزرائها كانوا يفضلون أن يحتفظوا بصداقة فرنسا ولو أدى ذلك إلى التنكر للحركة الوطنية في شمال أفريقيا وأن هؤلاء كانوا يهاجمون سياسة عزام ويسعون لإبعاده عن الجامعة العربية ونجحوا في ذلك بعد ثورة يوليو 1952 م. 

أكثر من ذلك فإن عزام قبل إنشاء الجامعة العربية وقبل الحرب العالمية الثانية دعا مصر إلى إنشاء قوات مسلحة شعبية وأقنع بذلك علي ماهر باشا عندما كان رئيسا للوزارة وأنشئت هذه القوات تحت اسم "الجيش المرابط" والمصريون الذين عاصروا إنشاء هذا الجيش يعرفون كيف فزع الإنجليز من هذا الاتجاه الخطر عليهم وكيف سعوا إلى إلغائه حتى نجحوا في إقالة علي ماهر وإخراج عبد الرحمن عزام من الوزارة واضطهاده شخصيا في أقسى فترة مرت في حياته.

إن الجيش المرابط الذي كان في نظره إحياء لفكرة الجهاد الشعبي الإسلامي التطوعي ويقينا بأن المصريين لن ينالوا حقوقهم إلا بالجهاد الشعبي ضد الجيوش الاستعمارية لذلك سارع بعد ذلك وهو أمين عام الجامعة بأن سخرها لمساعدة الفدائيين في فلسطين عام 1947-1948 وطلب من الحكومات العربية أن تسمح لضباط جيوشها بالتطوع لقيادة الكتائب الشعبية التي تمولها الجامعة العربية وفعلا صدر قرار بذلك وتطوع كثير من الضباط لقيادة كتائب المقاومة الشعبية التي كان يقودها الشهيد القائد البطل أحمد عبد العزيز. 

بل إن المتطوعين الذين بدأوا العمل الفدائي ضد الإنجليز في منطقة القتال عام 1950 م يعلمون أن عبد الرحمن عزام لم يقصر في تدعيم الحركة الفدائية وتمويلها والدعاية لها حتى اعترفت بها الحكومة المصرية ودعمتها وشاركت فيها بقوات الشرطة كما هو معروف. 

وإذا كان عزام قد أُبعد عن الجامعة العربية فإنه استمر في عزلته يدعوا لفكرتين أساسيتين يعتبرهما أهم خصائص الفكر الإسلامي هما فكرة الجهاد والفداء وفكرة الوحدة الإسلامية جميعا سواء كانوا عربا أو غير عرب ومن كان يريد معرفة مدى عمق الفكرة الإسلامية لدى عزام فعلية أن يقرأ "الرسالة الخالدة" أن رسالة العرب الخالدة في نظره هي الرسالة الإسلامية كما آمن بها وكما رسم خطواتها ودافع عنها في هذا الكتاب وأول أسس هذه الرسالة أنها لا تقر الاعتزاز بعنصر أو جنس وأن قيمة الإنسان في عمله وفي ساحة العمل والجهاد ينعم الجميع بأخوة التضحية ووحدة المصير والتسابق للشهادة.


منحته حكومة الدولة العثمانية قبل انتهائها في 1923 النيشان العثماني المجيدي والهلال الحديدي، وبعد انتهاء عمله في جامعة الدول العربية عمل مستشارا لدى دولة السعودية، وتقلد أرفع الأوسمة من حكومات الدول العربية "العراق وسوريا ولبنان والأردن"، وكذلك من حكومات "أفغانستان وإيران وتركيا ودولة الفاتيكان".

وكان عزام صهراً للملك فيصل إذ تزوج الإبن الثاني للملك والأميرة عفت الأمير محمد الفيصل من منى إبنة عزام. والأمير محمد الفيصل هو مؤسس الإقتصاد الإسلامي ومدارس المنارات الإسلامية الدوليه.

ومن مؤلفات عزام أيضاً كتاب: بطل الأبطال أو أبرز صفات النبي محمد.


توفي عبد الرحمن عزام باشا في مصر في 2 يونيو 1976 عن عمر يناهز إحدى وثمانين سنة، ودفن بمسجد عزام بحلوان. لقد طلب عزام الشهادة ولم يخش الموت في المعارك وساحات القتال لكن الموت جاءه فحمله إلى دار البقاء ليلقى زملائه في الجهاد في البلقان و في أرض برقة وطرابلس فهنيئاً له ولهم جميعاً.



عاطف شوشه

هذه المقالة منقوله بتصرف