السبت، 15 يناير 2022

مقام المراقبة

 




عندما توفي الحاج رؤوف ترحمت عليه كثيراً ومازلت أفعل كلما تذكرته.

هو رجل بسيط يعمل في إصلاح هياكل السيارات. وحيداً في ورشته الصغيرة التي تقع في المنطقة الصناعية قريباً من حيث نقيم.

اعتقد جيرانه من أصحاب الحرف المماثلة في بادئ الأمر أنه مسيحي لأن معظم زبائنه الذين كانوا يترددون عليه عندما انتقل إلى جوارهم كانوا من المسيحيين الذين عرفوه عندما كان في ورشته السابقة. حتى أن كان منهم القساوسة الذين يأتون إليه مرتدين مسوحهم السوداء.

ويعلق الحاج رؤوف على ذلك وهو يبتسم :" أنا أعامل كل زبائني بأمانة ولا آخذ منهم إلا الأجر الذي استحقه مقابل ما أديت لهم من عمل لذلك يأتون إلي وقد تبعني الكثيرون منهم عندما انتقلت إلى هنا".

واحتار جيرانه كثيراً وهم مازالت ليست لديهم الجرأة أن يسألوه لأنهم لم يكونوا قد تعرفوا إليه بعد تعجبوا عندما رأوه يرتاد المسجد الصغير في نهاية الشارع ويذهب إليه عندما يسمع الآذان مباشرة تاركاً خلفه ورشته مفتوحة بكل أدواتها و السيارات التي يعمل على إصلاحها ولا يخشى فقدان أي شئ منها وكأنه قد أقام عليها رقيباً خفياً قبل أن يمشي نحو المسجد.

وكان الشاب الذي عرفنا على الحاج رؤوف صديقاً مقرباً من إبني "محمد" وكان الشاب يعتبر الحاج رؤوف والداً روحياً له ومعلماً مخلصاً تفضل عليه بتعليمه كل ما يتعلق بإصلاح السيارات التي هي هوايته المفضلة وكان يحبه كثيراً ويذهب سعيداً للعمل معه في ورشته أيام الإجازات ولم يبخل عليه الحاج رؤوف بالعلم الذي يعلمه. وكان هذا الشاب صديق إبني المقرب له مسيحياً.

كنت أزور الحاج رؤوف في ورشته المتواضعة من حين لآخر فأجده جالساً في صدر ورشته يقرأ القرآن واضعاً مصحفه الكبير فوق حاملٍ حديدي عالٍ يبدو من هيئته أنه صنعه بنفسه من بقايا حديدية توفرت له.

وذات مرة تبادلت معه الحديث حول آية من آيات القرآن فوجدته يحفظ كلماتها بطريقة خاطئة فلم أشأ أن أسبب له الحرج بأن أعدل عليه تلاوته فقلت له أنني لا أتذكر هذه الآية جيداً فأحضر مصحفه ووضعه على الحامل المخصص له وفتحه بيده الخشنة فإذا هو ينفتح أمامه على السورة التي فيها الآية التي ظهرت أمامه عينيه مباشرة بغير بحث ولا عناء وكأن الآية هي التي كانت تبحث عنه ووجدته. هنا عرفت أنه من قارئي القرآن المخلصين الذين يداومون على قراءته بشغف وحب صادقين. إذ أن هذا سر من أسرار القرآن وفتوحاته يُفتح به على أهله ولا يرزقه إلا القليلون.

وحكى لي مرة أن المسجد في الحي حيث يقيم كان في احتياجٍ إلى قفلٍ جديد لبابه فتطوع هو واشتراه على نفقته الخاصة. يومها شكره إمام المسجد ولكنه لامه لأنه اشترى قفلاً غالي الثمن وهو يعرف ضيق حاله في حين أن الرخيص منه كان سيؤدي نفس الغرض لكنه أجابه بأنه لا يبخل على بيت الله بمال الله. ويبتسم الحاج رؤوف مرة أخرى ابتسامته الطيبة وهو يقول: " كان ثمن القفل ثلاثون جنيهاً وفى نفس اليوم رزقني الله بعمل كسبت منه ثلاثمائة جنيهاً. والحسنة بعشر أمثالها".

عرفت وقتها كيف أن هذا الرجل البسيط في مظهره وعمله ومعيشته كان يراقب الله فيما يفعله وكيف يربط أحداث حياته وصلاحها بما يقدمه لنفسه من عمل صالح. وتعلمت منه كيف أراقب الله في كل أفعالي ومعاملاتي وأن أقيم نفسي في مقام المراقبة وأن ما يصيبني ليس إلا نتيجة أعمالي".

وتذكرت قول الفضيل بن عياضٍ رحمه الله تعالى :" أعصي الله فأجد ذلك في خلق دابتي وخلق زوجتي وخادمي".

وتذكرت قول بن عطاء الله السكندري وهو يناجي ربه :" إلـهي إنْ أظهرتَ المحاسنَ مني فَبِفَضْلِكَ ولك المِنَّةُ عليَّ ، وإنْ ظَهَرَتْ المساوئ مني فَبِعَدْلِكَ ولكَ الحجةُ عليَّ ".

رحم الله الحاج رؤوف رحمة واسعة.

عاطف شوشه

زهرة الرضا


 


كنت أشكو كثيراً من جيراننا في الطابق العلوي. 

كنت أجد قشور " بذور دوار الشمس " المتطايرة من شرفتهم تملأ شرفتي كل صباح. 


ولما لم أجد استجابة من الجيران للكف عن هذا الأمر قررت أن  أكف أنا عن الشكوى وأخذت أجمع هذه القشور في صمتٍ كل يوم وبدون تذمر وبنفسٍ راضيةٍ سمحه. 


وفي أحد الأيام وأنا أجمع القشور وجدت بذرة كاملة قد سقطت من الطابق العلوي في الماء الذي نضعه في الشرفة لتشرب منه طيور السماء وقد بدأت هذه البذرة فعلاً في الإنبات. تعجبت كيف أنني لم ألحظ هذه البذرة في الأيام السابقة قبل إنباتها. 


أخذت البذرة وغرستها بغير اكتراثٍ وحيدةً في أصيصٍ صغير وأنا لا آمل كثيراً في أنها سوف تستمر طويلاً في الحياة. 


وبعد أيام قليلة بدأت البذرة الصغيرة تشق التربة السوداء وتخرج من ظلام الأرض إلى نور الله. وأخذت أراقبها كل يوم وأنا أرويها وهى  تكبر بسرعة غير عادية . وسرعان ما ظهرت لها أوراق خضراء نضرة. وطال ساقها يوماً بعد يوم واشتد وزادت أوراقها. 


وتفاجأت ذات يومٍ إذ وجدتها وقد بدأت في الإزهار غير عابئةٍ ببرودة الطقس من حولها وفي غير موسم الإزهار. وبعد عدة أيام تفتحت منها زهرةٌ صفراء جميلة كنت أتمنى دائما أن أحصل يوماً على مثلها بين نباتاتي.

 

الزهرة الجميلة التي تدور مع الشمس المشرقة ما زالت ببهائها تدخل البهجة  والسرور على قلبي كلما نظرت إليها. 


عندما نكف عن الشكوى ونرضى بالقضاء يفاجئنا الله دائماً وعلى غير انتظارٍ بكل ما هو جميلٌ. و يُزهر الرضا غضاً في أرضنا. 



عاطف شوشه


الاثنين، 10 يناير 2022

الطريق إلى الله




 الطريق إلى الله عز وجل طريقان: طريق الإجتباء وطريق الهداية والإنابة. 

والطريقان يبينهما الجزء الأخير من الآية الثالثة عشرة من سورة الشورى. يقول الله :  (الله يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ )

أما طريق الإجتباء فبدايته من عند الله ونهايته عند العبد. والإجتباء لا دخل للعبد به ولا يد له فيه وليس هناك من عمل يمكنه أن يعمله يوصله إلى أن يجتبيه الله جل جلاله فهو وحده الذي يختار من بين خلقه من ينبأه فيصير نبياً من أنبيائه ومن يرسله فيصير رسولاً من رسله ومن يوليه فيصير ولياً من أوليائه.

كان "الجنيد البغدادي" هو وأصحابه في مسجد الشوينزيه في بغداد إذ دخل شيخ من باب المسجد عليه مرقعة فصلى ركعتين ثم أشار إلى الجنيد ليأتي إليه ليكلمه. فلما آتاه قال له: "إن الأجل قد حان فإذا فرغت من أمري فخذ أشيائي هذه وأبقها عندك حتى يأتيك شاب مغني فسلمها له". فسأله الجنيد متعجباً: "ولماذا مغني؟" قال الشيخ: "إن الله قد اختاره لخدمته".

ثم أن الشيخ توفي من وقته فقام الجنيد وأصحابه بأمره حتى واروه التراب. وبعد قليل دخل شاب إلى المسجد وسأل عن الجنيد فأتاه وقال له : " أين أشيائي " فسأله الجنيد : "كيف هذا؟"

قال : "كنت أغني في مكان كذا فجاءني هاتف فقال لي اذهب إلى الجنيد وخذ أشيائك منه". ثم أن الشاب اغتسل ولبس الخرقة وأخذ أشياء الشيخ وخرج من المسجد في اتجاه الشام.

أما طريق " الهدي والإنابة " فبدايته عند العبد بالإنابة ونهايته عند الله بالهدى.

وفي معنى الإنابة قال ابن القيِّم رحمه الله: "الإنابة: الإسراع في مرضاة الله مع الرجوع إليه في كل وقت، وإخلاص العمل له، وقال أيضًا: الإنابة إلى الله إنابتان: الأولى: إنابة إلى ربوبيته وهي إنابة المخلوقات كلها، المؤمن، والكافر، والبر، والفاجر، قَالَ تَعَالَى: ﴿ وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُم مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ ﴾ [الروم: 33]. والثانية: إنابة أوليائه، وهي: إنابة لألوهيته، إنابة عبودية ومحبة، وهي تتضمن أربعة أمور: محبته، والخضوع له، والإقبال عليه، والإعراض عما سواه".

والإنابة بالمعنى القرآني السابق عند بعض الصوفية هي إنابة العوام. أما الإنابة في اصطلاح الصوفية، فهي على معنى  الرجوع  من  مخالفة  الأمر إلى موافقته، فلا يجدك الله تعالى حيث نهاك، ولا يفتقدك حيث أمرك، وقد أورد أحدهم في معناها بعض الأقوال التي تتوافق مع المعنى العام للأصول القرآنية  وأهمها إخراج القلب من ظلمات الشبهات والرجوع من الكل إلى من له الكل والرجوع من الغفلة إلى الذكر، ومن الوحشة إلى الأنس.


فمن أخلص الإنابة إلى الله هداه الله إلى طريقه.


عاطف شوشه