هو أمر يشغلني منذ حين وتتكرر معه حيرتي كلما صادفت من يقوم بإرشاد الناس ووعظهم وفُتياهم بدون أن يعلم أحد ما هي خلفيته الثقافية أو السياسية فضلاً عن ماهية خلفيته الدينية أو الطائفية وما إذا كان هو نفسه على دين وخلق أم لا.
وكثير من هؤلاء يعتبرون أنفسهم ممن يطلق عليهم لقب "أهل الذكر" الذين يجب على الناس أن يلجأوا إليهم إذا استشكل عليهم أمر ما من أمور دينهم بل وأيضاً من أمور دنياهم.
ويستشهدون على الناس من القرآن: "فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ"
وهم سيذكرون لك دائماً هذا المثال السقيم "لو تعطلت سيارتك هل ستذهب بها إلى الطبيب كي يصلحها لك؟ والعكس صحيح "هل إذا مرضت فإنك ستلجأ إلى الميكانيكي كي يعالجك؟" بالطبع لا ستلجأ إلى كلٍ في تخصصه ولكن ما بالك إذا كان الأمر يتعلق بالدين فلماذا ترفض أن تلجأ في إصلاح دينك إلى "رجال الدين" أو "العلماء أو " أهل الذكر".
هذه هي الخدعة "فرضية المساواة بين العلوم الدينية والدنيوية" وهم لا يصرحون لك بهذه الفرضية مسبقاً كي لا تنقضها لهم ولكنهم يبنون عليها هذا المثال السابق.
وهنا أيضاً نقر أن في هذه التسوية إنحطاطاً بالدين السماوي إلى مستوى مهين لا يرضى به أصحابه.
كما أنه لا يوجد في الدين الإسلامي مفهوم "رجل الدين " وهذا مفهوم دخيل علينا من الديانات الأخرى وخاصة المسيحية.
والعلوم الدنيوية التي يساوون بينها وبين العلوم الدينية ليست واجبة على الجميع أن يتعلمها بل هي إختيارية لا يحاسب الله عليها العبد إذا تركها ولم يتعلمها على عكس العلوم الدينية التي هي واجبة على الجميع أن يتعلمها لأننا سوف نحاسب عليها.
وليس التبحر في العلم الذي يتباهى به هؤلاء على غيرهم أمر واجب على أية حال إذ أن التبحر ناتج عن كثرة السؤال وتنوعه في القضية الواحدة وكذلك ناتج عن فرض السؤال ثم البحث له عن إجابة مرضية وأنا أشبه كثرة الأسئلة في الموضوع الواحد بمثل بني إسرائيل حين أكثروا من السؤال عن البقرة فقد شقوا على أنفسهم فشق الله عليهم.
إن التبحر في المسائل الدينية قد أنتج لنا كثيراً من الأحكام المختلفة للمشكلة الواحدة وقد أقر كل الأئمة أنه "إذا عم البلاء يؤخذ بأيسر الأحكام" فإذا كان الأمر كذلك فما جدوى التمسك بوجود الأحكام الأخرى الغير ميسرة إذا كانت الميسرة منها تجزئ من يعمل بها.
فمن هم إذن "أهل الذكر" ؟
وتعبير أهل الذكر قد تكرر بنصه في موضعين من كتاب الله تعالى:
الموضع الأول في سورة النحل، يقول تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (44).
والموضع الثاني في سورة الأنبياء، يقول تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (7).
وكلا الآيتين جاء في سياق إرشاد الكفار ـ المعاندين والمكذبين ـ إلى سؤال من سبقهم من أهل الكتاب، وفي هذا الإرشاد إيماء واضح إلى أن أولئك المشركين المعاندين لا يعلمون، وإلا لما كان في إرشادهم إلى السؤال فائدة.
وعلى الرغم من أن الآيتين تشيران إشارة واضحة إلى العالِمين من أهل الكتاب فقط بأمر الرسل السابقين وأنهم كانوا رجالاً من البشر ولم يشترط حتى أن يكون أهل الكتاب هؤلاء من الصالحين.
إلا أن الذين قد تعلموا من الدين الإسلامي علومه المختلفة أحبوا لسبب ما أن يسلبوا ويستأثروا بهذا اللقب مفسرين ذلك بقولهم : "أن أفضل أهل الذكر أهلُ هذا القرآن العظيم، فإنهم أهل الذكر على الحقيقة، وأولى من غيرهم بهذا الاسم" كما جاء حرفياً في تفسير السعدي.
ولفظ "أولى" في كلام السعدي يوحي إلينا بعدم رضائه عما نص الله عليه صراحة في القرآن من إسباغ هذا اللقب على أهل الكتاب فقط دون غيرهم وأنه يقوم بالتعديل على الله سبحانه وتعالى في قرآنه المنزل.
هذا على الرغم من أن الآيتين لم تشيرا إلى أهل القرآن من قريب أو بعيد. فلماذا يحاولون أن يجدوا لهم موضع قدم عنوة في هذا المقام الذي لم يخصهم الله تعالى منه في شيء. ثم كيف يطلب من الكفار الإستشهاد بالقرآن أو بأهله وهم قد كفروا بمحمد كنبي مرسل وبما أنزل به.
أما وقد قلدوا أنفسهم هذا اللقب فقد أفاضوا في فضل أهل الذكر ولسان حالهم يشير إلى أنفسهم دائماً بأنهم هم أهل الذكر المعنيين. فقد ذكر السعدي في تفسيره وهو يفيض في تبيين مفهوم الآية :"وفي ضمنه تعديل لأهل العلم وتزكية لهم حيث أمر بسؤالهم". فهم يصفون أنفسهم بالعدل ويزكون أنفسهم على بقية خلق الله. وقد وضعوا أيضاً آداباً قواعد للعامة يجب عليهم أن يتبعوها عندما يتعاملون مع "أهل الذكر".
وهم بذلك قد أوجدوا لأنفسهم "وظيفة" لقبها "أهل الذكر". وهم بعد ذلك يخلقون عند الناس ما نسميه "الإحتياج" إلى هذه الوظيفة. ويحببونها إليهم بشتى الطرق فهم يعدون الناس بجائزة هامة جداً بل وخطيرة أيضاً إذ يدخلون في روع الناس مايلي :
" أن السائل والجاهل يخرج من التبعة بمجرد السؤال، وفي ضمن هذا: أن الله ائتمنهم على وحيه وتنزيله، وأنهم مأمورون بتزكية أنفسهم، والاتصاف بصفات الكمال."
وهذا النص منقول من موقع المسلم - د. عمر المقبل. القاعدة التاسعة والأربعون.
وأنا لم أعلم شيئاً من القرآن أو السنة يدل على أن أحداً سوف يحمل وزر أحد آخر يوم القيامة وإنما "ستجزون بما كنتم تعملون" و "يا فاطمة إعملي فلن أغني عنك من الله شيئاً"
وأنا أقر هنا بوجوب السؤال لمن لا يعلم ولكنني لا أقر بلزوم العمل بالإجابة فهذا من شأن السائل أن يختار أن يعمل بما سمع أو لا يعمل لأنه سوف يحاسب على اختياره وحيداً ولن يفيده في الآخرة أن يقول "فعلت كذا لأن فلاناً من الناس في الدنيا قد قال لي إفعله"
ومن شأن السائل أيضا أن يسأل من يشاء ممن يعتقد أنه أعلم منه في موضوع السؤال حتى ولو لم يكن من "أهل الذكر".
إذن ما هي القاعدة التي استند إليها هؤلاء في إلقاء هذا اللقب على أنفسهم.
يقول د. عمر عبد الله المقبل وهو أستاذ، دكتور في الشريعة (جامعة القصيم):
"أن المقرر في علم أصول التفسير: أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وهذه القاعدة التي نحن بصدد الحديث عنها مثال لذلك، فهذه الآية أي آية الذكر وإن كان سببها خاصاً بأمر المعاندين أن يسألوا عن حالة الرسل المتقدمين لأهل الذكر ـ وهم أهل العلم ـ فإنها عامة في كل مسألة من مسائل الدين: أصوله وفروعه، إذا لم يكن عند الإنسان علمٌ منها وبها، فعليه أن يسأل من يعلمها."
وأنا أقول أنه إذا كانت هذه القاعدة تنطبق على آية من آيات القرآن فإنها لا يصح ومن غير المنطقي أن تنطبق على جزء من آية كما هو الحال هنا في آيتي أهل الذكر.
وإذا كان تفسير أي آية من القرآن لا يستقيم إلا بعد ربطها بالآية التي قبلها والتي بعدها حتى لا نفقد القرآن موضوعيته. فكيف والحال كذلك أن يستقيم تفسير جزء من آية منفصلاً عن بقية الآية من قبله أو من بعده؟ فنصير كمن يقرأ "ولا تقربوا الصلاة" فاستشهد بالقرآن في الإمتناع عن الصلاة تطبيقاً لقاعدة المفسرين الأصوليين " إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب " وتغافل عن تكملة الآية التي هي "وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون".
وإذا عجزنا أو استشكل علينا تفسير آية ما في القرآن بعد ربطها بالآيات التي قبلها أو بعدها أي أننا لم نجد لها علاقة تفسيرية تتناسب مع ما قبلها وما بعدها من الآيات فيجب علينا الإعتراف بعدم قدرتنا على تفسيرها على الوجه الصحيح الذي أراده الله عز وجل لها. وهذا ليس مما ينقص من قدر القرآن في شيء ولكننا نخاف من أن ذلك سوف ينقص من قدرنا ونحن "أهل الذكر".
ويجب علينا ألا ننسى أن تفسير القرآن كله ظني وليس توقيفي وليس على قارئ القرآن أي ذنب إن لم يعرف تفسير الآيات التي يقرأها سواءاً لم يكن هناك تفسير لها أو كان هناك تفسير ما وجهله هو.
وأنا أكاد أن أجزم أنه باستخدام المنطق البسيط أن كل الآيات التي قام المفسرون باجتزائها والإستشهاد بجزء منها دون بقيتها قد جانبهم الصواب في تفسيرها بل أزعم أيضاً أن هناك سببٌ ما قد دفعهم أو أجبرهم على فعل ذلك أو أن هناك منفعة ما يرجونها أو مكاسب يخشون خسارتها إذا فعلوا غير ذلك.
وعندما نتحدث عن تفسير القرآن فنحن لا نتحدث عن ناقلي التفسير أو حفظته وإنما نقصد من قد نقل عنهم أشهر التفسيرات المعروفة إذ يجب علينا ربط هذا التفسير أو ذاك بالحالة الإجتماعية والسياسية للمفسر ذاته والمجتمع الذي عاش فيه والعادات السائدة في عهده والتأثيرات القبلية والطائفية وأيضاً ننظر بعين الإعتبار للثقافة التراكمية لذلك العصر وما كان متاحاً منها للمفسرين في الأماكن التي عاشوا فيها أو تيسر لهم الإرتحال إليها.
ورحم الله الإمام أحمد حين قال "ثلاثة كتب لا أصل لها المغازي والملاحم والتفسير".
عاطف شوشه