الجمعة، 26 فبراير 2021

الـذكـر وأهـلـه

 





هو أمر يشغلني منذ حين وتتكرر معه حيرتي كلما صادفت من يقوم بإرشاد الناس ووعظهم وفُتياهم بدون أن يعلم أحد ما هي خلفيته الثقافية أو السياسية فضلاً عن ماهية خلفيته الدينية أو الطائفية وما إذا كان هو نفسه على دين وخلق أم لا. 


وكثير من هؤلاء يعتبرون أنفسهم ممن يطلق عليهم لقب "أهل الذكر" الذين يجب على الناس أن يلجأوا إليهم إذا استشكل عليهم أمر ما من أمور دينهم بل وأيضاً من أمور دنياهم.  


ويستشهدون على الناس من القرآن: "فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ"


وهم سيذكرون لك دائماً هذا المثال السقيم "لو تعطلت سيارتك هل ستذهب بها إلى الطبيب كي يصلحها لك؟ والعكس صحيح "هل إذا مرضت فإنك ستلجأ إلى الميكانيكي كي يعالجك؟"  بالطبع لا ستلجأ إلى كلٍ في تخصصه ولكن ما بالك إذا كان الأمر يتعلق بالدين فلماذا ترفض أن تلجأ في إصلاح دينك إلى "رجال الدين" أو "العلماء أو " أهل الذكر".


 هذه هي الخدعة "فرضية المساواة بين العلوم الدينية والدنيوية" وهم لا يصرحون لك بهذه الفرضية مسبقاً كي لا تنقضها لهم ولكنهم يبنون عليها هذا المثال السابق. 

وهنا أيضاً نقر أن في هذه التسوية إنحطاطاً بالدين السماوي إلى مستوى مهين لا يرضى به أصحابه.

كما أنه لا يوجد في الدين الإسلامي مفهوم "رجل الدين " وهذا مفهوم دخيل علينا من الديانات الأخرى وخاصة المسيحية.


والعلوم الدنيوية التي يساوون بينها وبين العلوم الدينية ليست واجبة على الجميع أن يتعلمها بل هي إختيارية لا يحاسب الله عليها العبد إذا تركها ولم يتعلمها على عكس العلوم الدينية التي هي واجبة على الجميع أن يتعلمها لأننا سوف نحاسب عليها. 


وليس التبحر في العلم الذي يتباهى به هؤلاء على غيرهم أمر واجب على أية حال إذ أن التبحر ناتج عن كثرة السؤال وتنوعه في القضية الواحدة وكذلك ناتج عن فرض السؤال ثم البحث له عن إجابة مرضية وأنا أشبه كثرة الأسئلة في الموضوع الواحد بمثل بني إسرائيل حين أكثروا من السؤال عن البقرة فقد شقوا على أنفسهم فشق الله عليهم.


إن التبحر في المسائل الدينية قد أنتج لنا كثيراً من الأحكام المختلفة للمشكلة الواحدة وقد أقر كل الأئمة أنه "إذا عم البلاء يؤخذ بأيسر الأحكام" فإذا كان الأمر كذلك فما جدوى التمسك بوجود الأحكام الأخرى الغير ميسرة إذا كانت الميسرة منها تجزئ من يعمل بها.


فمن هم إذن "أهل الذكر" ؟


وتعبير أهل الذكر قد تكرر بنصه في موضعين من كتاب الله تعالى:

الموضع الأول في سورة النحل، يقول تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (44).

والموضع الثاني في سورة الأنبياء، يقول تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (7).


وكلا الآيتين جاء في سياق إرشاد الكفار ـ المعاندين والمكذبين ـ إلى سؤال من سبقهم من أهل الكتاب، وفي هذا الإرشاد إيماء واضح إلى أن أولئك المشركين المعاندين لا يعلمون، وإلا لما كان في إرشادهم إلى السؤال فائدة.


وعلى الرغم من أن الآيتين تشيران إشارة واضحة إلى العالِمين من أهل الكتاب فقط بأمر الرسل السابقين وأنهم كانوا رجالاً من البشر ولم يشترط حتى أن يكون أهل الكتاب هؤلاء  من الصالحين. 

إلا أن الذين قد تعلموا من الدين الإسلامي علومه المختلفة أحبوا لسبب ما أن يسلبوا ويستأثروا بهذا اللقب مفسرين ذلك بقولهم : "أن أفضل أهل الذكر أهلُ هذا القرآن العظيم، فإنهم أهل الذكر على الحقيقة، وأولى من غيرهم بهذا الاسم" كما جاء حرفياً في تفسير السعدي. 


ولفظ "أولى" في كلام السعدي يوحي إلينا بعدم رضائه عما نص الله عليه صراحة في القرآن من إسباغ هذا اللقب على أهل الكتاب فقط دون غيرهم وأنه يقوم بالتعديل على الله سبحانه وتعالى في قرآنه المنزل.


هذا على الرغم من أن الآيتين لم تشيرا إلى أهل القرآن من قريب أو بعيد. فلماذا يحاولون أن يجدوا لهم موضع قدم عنوة في هذا المقام الذي لم يخصهم الله تعالى منه في شيء. ثم كيف يطلب من الكفار الإستشهاد بالقرآن أو بأهله وهم قد كفروا بمحمد كنبي مرسل وبما أنزل به.


أما وقد قلدوا أنفسهم هذا اللقب فقد أفاضوا في فضل أهل الذكر ولسان حالهم يشير إلى أنفسهم دائماً بأنهم هم أهل الذكر المعنيين. فقد ذكر السعدي في تفسيره وهو يفيض في تبيين مفهوم الآية :"وفي ضمنه تعديل لأهل العلم وتزكية لهم حيث أمر بسؤالهم". فهم يصفون أنفسهم بالعدل ويزكون أنفسهم على بقية خلق الله. وقد وضعوا أيضاً آداباً قواعد للعامة يجب عليهم أن يتبعوها عندما يتعاملون مع "أهل الذكر".


وهم بذلك قد أوجدوا لأنفسهم "وظيفة" لقبها "أهل الذكر". وهم بعد ذلك يخلقون عند الناس ما نسميه "الإحتياج" إلى هذه الوظيفة. ويحببونها إليهم بشتى الطرق فهم يعدون الناس بجائزة هامة جداً بل وخطيرة أيضاً إذ يدخلون في روع الناس مايلي :

" أن السائل والجاهل يخرج من التبعة بمجرد السؤال، وفي ضمن هذا: أن الله ائتمنهم على وحيه وتنزيله، وأنهم مأمورون بتزكية أنفسهم، والاتصاف بصفات الكمال." 

وهذا النص منقول من موقع المسلم - د. عمر المقبل. القاعدة التاسعة والأربعون.

وأنا لم أعلم شيئاً من القرآن أو السنة يدل على أن أحداً سوف يحمل وزر أحد آخر يوم القيامة وإنما "ستجزون بما كنتم تعملون" و "يا فاطمة إعملي فلن أغني عنك من الله شيئاً"


وأنا أقر هنا بوجوب السؤال لمن لا يعلم ولكنني لا أقر بلزوم العمل بالإجابة فهذا من شأن السائل أن يختار أن يعمل بما سمع أو لا يعمل لأنه سوف يحاسب على اختياره وحيداً ولن يفيده في الآخرة أن يقول "فعلت كذا لأن فلاناً من الناس في الدنيا قد قال لي إفعله"

ومن شأن السائل أيضا أن يسأل من يشاء ممن يعتقد أنه أعلم منه في موضوع السؤال حتى ولو لم يكن من "أهل الذكر".


إذن ما هي القاعدة التي استند إليها هؤلاء في إلقاء هذا اللقب على أنفسهم.

نص الأصوليون والفقهاء على قاعدة هامة ، وهي أن " العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب " وهذه القاعدة متفق عليها عند جماهير أهل العلم ولم يخالف فيها إلا القليل .
جاء في " المحصول " للرازي (3/125) :
" فالحق أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب , خلافاً للمزني وأبي ثور ؛ فإنهما زعما أن خصوص السبب يكون مخصصا لعموم اللفظ " انتهى .
(منقول من موقع الإسلام سؤال وجواب - الشيخ محمد صالح المنجد - سؤال رقم 224767)


يقول د. عمر عبد الله المقبل وهو أستاذ، دكتور في الشريعة (جامعة القصيم):

"أن المقرر في علم أصول التفسير: أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وهذه القاعدة التي نحن بصدد الحديث عنها مثال لذلك، فهذه الآية أي آية الذكر وإن كان سببها خاصاً بأمر المعاندين أن يسألوا عن حالة الرسل المتقدمين لأهل الذكر ـ وهم أهل العلم ـ فإنها عامة في كل مسألة من مسائل الدين: أصوله وفروعه، إذا لم يكن عند الإنسان علمٌ منها وبها، فعليه أن يسأل من يعلمها."

وأنا أقول أنه إذا كانت هذه القاعدة تنطبق على آية من آيات القرآن فإنها لا يصح ومن غير المنطقي أن تنطبق على جزء من آية كما هو الحال هنا في آيتي أهل الذكر.


وإذا كان تفسير أي آية من القرآن لا يستقيم إلا بعد ربطها بالآية التي قبلها والتي بعدها حتى لا نفقد القرآن موضوعيته. فكيف والحال كذلك أن يستقيم تفسير جزء من آية منفصلاً عن بقية الآية من قبله أو من بعده؟  فنصير كمن يقرأ "ولا تقربوا الصلاة" فاستشهد بالقرآن في الإمتناع عن الصلاة تطبيقاً لقاعدة المفسرين الأصوليين " إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب " وتغافل عن تكملة الآية التي هي "وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون".


وإذا عجزنا أو استشكل علينا تفسير آية ما في القرآن بعد ربطها بالآيات التي قبلها أو بعدها أي أننا لم نجد لها علاقة تفسيرية تتناسب مع ما قبلها وما بعدها من الآيات فيجب علينا الإعتراف بعدم قدرتنا على تفسيرها على الوجه الصحيح الذي أراده الله عز وجل لها. وهذا ليس مما ينقص من قدر القرآن في شيء ولكننا نخاف من أن ذلك سوف ينقص من قدرنا ونحن "أهل الذكر".

ويجب علينا ألا ننسى أن تفسير القرآن كله ظني وليس توقيفي وليس على قارئ القرآن أي ذنب إن لم يعرف تفسير الآيات التي يقرأها سواءاً لم يكن هناك تفسير لها أو كان هناك تفسير ما وجهله هو.


وأنا أكاد أن أجزم أنه باستخدام المنطق البسيط أن كل الآيات التي قام المفسرون باجتزائها والإستشهاد بجزء منها دون بقيتها قد جانبهم الصواب في تفسيرها بل أزعم أيضاً أن هناك سببٌ ما قد دفعهم أو أجبرهم على فعل ذلك أو أن هناك منفعة ما يرجونها أو مكاسب يخشون خسارتها إذا فعلوا غير ذلك.


وعندما نتحدث عن تفسير القرآن فنحن لا نتحدث عن ناقلي التفسير أو حفظته وإنما نقصد من قد نقل عنهم أشهر التفسيرات المعروفة إذ يجب علينا ربط هذا التفسير أو ذاك بالحالة الإجتماعية والسياسية للمفسر ذاته والمجتمع الذي عاش فيه والعادات السائدة في عهده والتأثيرات القبلية والطائفية وأيضاً ننظر بعين الإعتبار للثقافة التراكمية لذلك العصر وما كان متاحاً منها للمفسرين في الأماكن التي عاشوا فيها أو تيسر لهم الإرتحال إليها.

 

ورحم الله الإمام أحمد حين قال "ثلاثة كتب لا أصل لها المغازي والملاحم والتفسير".


عاطف شوشه


الثلاثاء، 23 فبراير 2021

رمضان جانا

 


في مثل هذه الأيام أي قبل دخول شهر رمضان بفترة وجيزة خرج علينا أحد الشيوخ جزاه الله خيراً يحدثنا بحديث يحثنا فيه على الإستعداد للشهر الفضيل كما اعتدنا أن نسميه. 

وكان مما قال تحفيزاً للمسلمين ما معناه أن كل الناس في هذه الفترة على اختلاف وظائفهم "كلٌ يعد العدة لاستقبال شهر رمضان". 


وضرب لنا مثلاً بأصحاب الفن الذين شرعوا في إعداد المسلسلات والسهرات التليفزيونية والفوازير والبرامج المُلهية وما إلى ذلك.


 وأما أهل الدعوة فقد بدأوا بدورهم في الإعداد للندوات الدينية والبرامج التوعوية وحلقات التفسير والدروس الدينية وما إلى ذلك أيضاً. وعلى كل مسلم أن يختار سبيله ويحدد وجهته حتى يصل إلى تحقيق هدفه الذي اختاره لنفسه في هذا الشهر الكريم. 


وعلى الرغم من أنني قد استفدت من الحديث الذي كانت فكرته ملهمة ومحذرة بل ومنبهة  أيضاً. إذ أنه لابد وأن تستفيد من كل حديث بذل فيه صاحبه مثل هذا الجهد البين ما جعلك تلتفت وتنصت إليه سواءاً كانت الإستفادة بالإيجاب أو بالسلب.


ومع كل هذا الإنتباه والإنصات تكون هناك الملاحظات التي قد لا يخلو منها مثل هذا الحديث وكانت الملحوظة الأهم والأجدر بالتعليق في هذا الحديث هي التي قد ختم بها الشيخ كلمته بأن قال حرفياً: 


" وكلٌ يروج لبضاعته".


لم يعجبني كثيراً أن يطلق الشيخ على الدين وصف بضاعة فيسوي بين الدين وغيره من البضائع التي تشترى بالمال بل ويساوم البائع والمشتري على قيمتها. وقد يغش البائع المشتري فيبيعه بضاعة فيها من العيوب ما قد ستره بحيلته وحسن بيانه وقدرته على الإقناع. بل وأحياناً كثيرة يخدع البائع المشتري معتمداً على ما أنعم الله به عليه من حُسن خِلقة وبشاشة وجه مما يبعث الثقة في قلب المشتري فلا يشك أن شخصاً قد حباه الله مثل هذه الصفات يمكن أن يكون أيضاً من صفاته الغش أو الخداع أو التدليس.





إذاً فقد هبط الشيخ بالدين كله بكل جلاله وسموه وبشيوخه أيضاً بكل احترامنا وتقديرنا لهم لعلمهم إلى مثل هذه المرتبة المتدنية من المعاملات الدنيوية حين شبه الدين بالبضاعة فصار رجال الدين بائعين وعامة الناس أي ممن لا يصنفون كرجال دين مشترين لها فجاز على الدين من أنواع المعاملات المذمومة ما يجوز على شتى البضائع مما وصفنا سابقاً.


وأنا لا أتصيد الأخطاء لهذا الشيخ أو لغيره وأكبر دليل على ذلك هو أنني لم أذكر إسمه وذلك لأنني لا أتذكره ولا أقصده بذاته ولكنني أقصد كل من يتعرض للإرشاد وأصبح ممن يخرجون على الناس ويستمعون إليه سواءاً كان هذا في الإذاعة والتليفزيون أو في الصحف والمجلات.


وهناك من هم أخطر من كل هؤلاء ولكنهم لا يعلمون ذلك هم أولئك الذين لم تصبهم الشهرة بدائها إذ أن الناس إلى تصديقهم أميل للإعتقاد بانتفاء المصلحة الدنيوية في إرشادهم وهؤلاء هم الأكثر إنتشاراً على أرض الواقع والأقدر على الوصول إلى من لا تصله وسائل الإعلام باختلاف صورها وهم من يشكلون الوعي الديني العام لهؤلاء الناس ولكن في شيء من السكون.


وأنا هنا أحذو حذو الشيخ وأدعو كل المسلمين ومن الآن إلى اليقظة والإنتباه وإلى إعداد أنفسهم لاغتنام أيام الله بما أودع فيها سبحانه من نفحات يغفل عنها من لا يجِد في طلبها والبحث عنها.


وفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضى.




عاطف شوشه

الاثنين، 15 فبراير 2021

الأبواب المغلقة

 


هابطاً وحدي من الجنة

كلما  أهبط  منها طابقاً

أترحم  على  أصحاب 

الأبواب المغلقة


كلما  مررت أمام  باب  مغلق 

يبتسم  لي  أصحابه  من خلفه

أعرف وجوههم رغم  الظلمة

أحتفظ  بملامحهم في وجداني





أظل هابطاً فوق الدرج المعتم

يخيل إلي أن الدرج  بلا نهايه

في نهاية  الدرج فراغ  شاسع

الفراغ  يفضي إلى . . لاشيء


خطر ببالي خاطر فتذكرت أن الخطرات هي دواعي القلوب إلي كل خير وشر وهي إن كانت خاطرة خير فهي تنبيه للعبد من الله عز وجل. وذلك أن الله عز وجل يخطر ببال المؤمن لينبهه ويعظه. وفي الحديث: "من يرد الله به خيرا يجعل له واعظا من قلبه" فثبت بقول النبي أن الله يعظ عبده فيُخطر بباله ذكره ليتعظ بذلك.


وكانت الخاطرة التي خطرت ببالي في هذا اليوم وأنا أخرج من بيت والدتي لقضاء بعض شئوني أن أترحم على جيراننا الذين توفاهم الله وصارت بيوتهم خاوية مغلقة لا يسكنها أحد من بعدهم. وأنا كلما صعدت أو نزلت الدرج أمر على بيوتهم حيث أن والدتي تسكن في الدور العلوي وهو نفس البيت الذي ولدت أنا فيه منذ أكثر من ستون عاماً.


وكنت أحس قبل ذلك اليوم بشيء من الإنقباض والوحشة عندما أمر أمام أبواب بيوتهم. هي وحشة من يذكر من يحبهم بعد أن غابوا عنه كلما مر أمام دورهم. وهي نفس وحشة الشاعر عندما مر بأطلال حبيبته فأنشد يقول: 


"قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل".


 فقد قضيت أجمل أيام حياتي في هذا البيت وكان هؤلاء الجيران جميعهم بمثابة الأهل بعد الأهل والسند إذا احتجت يوما للسند وكان منهم أصدقاء الطفولة التي استمرت صداقتهم على مدى العمر على الرغم من تفرقنا في بلاد الله الواسعة إلا أننا نذكر بعضنا البعض في كل مناسبة ونتبادل التحيات والدعوات.


في هذا اليوم خطر لي أن أترحم على كل من رحل من جيراننا وأنا أنزل الدرج. كلٌ أمام باب بيته المغلق ففعلت ذلك وأنا أنزل ببطء وأتذكر كل الراحلين وتحضرني وجوههم بكامل ملامحها وهم يبتسمون لي وكأنني كنت قد رأيتهم بالأمس القريب.


ونزلت الدرج المعتم ونزلت على قلبي طمأنينة وسكينة لم أعهدهما من نفسي في مثل هذا الموقف من قبل اليوم.


لما قضيت شئوني عدت إلى البيت وأخذت أترحم مرة أخرى في صعودي الدرج على جيراننا الراحلين كلما مررت بأبوابهم المغلقة.


قالت لي أمي أطال الله في عمرها وهي يبدو عليها شعور بالسرور يخالطه شيء من الدهشة: 

" أتعلم من اتصل بي يسأل عني وعن أحوالي وأنت خارج البيت ؟  

إنها ابنة جيراننا النوبيون الذين يسكنون الدور الأرضي رحم الله أباها وأمها كانوا من أعز جيراننا وأشدهم طيبة وأوثقهم صلة بنا.

هي تسكن في مدينة ساحلية بعيدة مع عائلتها وهي أيضاً لم تتصل بي من قبل ولو لمرة واحدة ولكنها

قالت لي أنني قد خطرت ببالها اليوم فسارعت إلى الاتصال بي والإطمئنان علي"


ابتسمت لأمي فسألتني عن سر هذه الإبتسامة فحكيت لها ما كان من شأني عند خروجي من المنزل وعند رجوعي.


قلت في داخلي لعل ترحمي على والديها قد أسعدهما وآنس شيئاً من وحدتهما فأخطر الله ببال إبنتهما أن تؤنس وحدة والدتي في غيبتي.


" الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف". 


لعل هناك بقايا منهم لاتزال خلف هذه الأبواب المغلقة.





عاطف شوشه