الخميس، 31 مارس 2016

لم لا أحيا .. ترنيمة صوفية



 




"الحزن ربيب الشعراء"



لو لم يكتب غير هذه القصيدة
لو لم يلحن غير هذه الكلمات
لو لم تغنِ غير تلك الأغنية



لو لم يحدث إلا ذلك لظل لزاماً علينا تبجيل هذا العمل الفني الراقي الذي يضاهي في الروعة وعمق المعنى نفائس الشعر العربي المغناة.



إن الوجود القوي لله في كل حرف من حروف هذه القصيدة وفي معانيها يجعلها ترقى إلى مراتب الرقائق التي يتغنى بها الصوفيون في حضراتهم وخلواتهم وفي إفاقتهم وذهولهم. 



لمَ لا أحيا وظل الورد يحيا فى الشفاه
ونشيد البلبل الشادى حياة لهواهْ
لمَ لا أحيا وفى قلبى وفى عينى الحياه 
سوف أحيا .. سوف أحيا

تندرج هذه القصيدة تحت تصنيف لا أجد غيره لوصفها "التفاؤل الحزين" فعلى الرغم من الكلمات المتفائلة جداً التي تنتشر في أرجاء هذه القصيدة إلا أنها حزينة جداً تكاد تبكيني كلما إستمعت إليها.

الكلمات توحي بأن قائلها مشرف على الموت بعد أيام قليلة ويخاطب بها أقرب الناس إليه لعلها تعينه على إحتمال آلآم الفراق والإنفصال الأبدي. 

مازال في العمر بقية. سوف أحيا مابقيت حمرة الورد في شفتاي. سوف أحيا ما دام البلبل يشدو بحبه لمن يهواه. سوف أحيا ما بقي في قلبي وفي عيني حياة. هذه مشيئة الله أنني لابد راحلٌ ولكنني لازلت أحيا.

يارفيقى نحن من نور إلى نور مضينا
ومع النجم ذهبنا ... ومع الشمس أتينا
أين ما يدعى ظلاماً يا رفيق الليل أين..
إنّ نور الله فى القلب وهذا ما أراهْ
سوف أحيا .. سوف أحيا

إن الحياة ليست سوداوية مظلمة حتى وإن دنا وقت فراق الأحباب. إن النور موجود دائماً ولكننا نحن الذين نغفل عن ملاحظته ورؤيته لضعف اليقين لدينا فالليل الحالك الظلمة يهدينا الله فيه بنور النجوم التي تظل ترعانا حتى تطلع الشمس لتهدينا.

إبحث في داخلك تجد النور الذي طالما إنتظرت أن يأتيك من خارج نفسك وسيكون هو دليل خطواتك إلى عالم الحقيقة المطلقة. إنني أرى هذا النور أمامي الآن وأنت أيضاً إبحث عنه وسوف تراه.

و الحقيقة أنه لا يوجد ظلام أبداً في هذا الوجود طالما أن القلب مضيئ بنور الله.





ليس سراً يا رفيقى أنّ أيامي قليلة
ليس سراً إنما الأيام بسمات طويلة
إن أردتَ السر فاسأل عنه أزهار الخميلة
عمرها يومٌ ... وتحيا اليومَ حتى منتهاهْ
سوف أحيا.. سوف أحيا

لو أنك تراني أهل للخلود. لو أنك تراني أجمل من أن أموت. لو أنك ترى في موتي خسارة للوجود.

لو أنك ترى في فقدك لي لغز محير يستعصيك على الفهم والإدراك. فانظر في هذا الوجود حولك ترى أن الله قد خلق ماهو أجدر وأحق مني بالخلود والأبدية. وعمري هذا الذي تراه أياماً قليلة فإنني قد قضيته سعيداً بقربي من الله.

أنظر حولك أنا لست الأجمل. أزهار الخميلة أجمل مني تبهج كل من يراها وتسعد الكثيرين بلا مقابل وعمرها لا يتجاوز اليوم الواحد ولكنها تحيا هذا اليوم كله وهي تعلم أن نهايتها في آخره ممتـثـلة لأمر الله ومشيئته. وهي تبعث في هذا اليوم كل هذا الإشراق وكل هذا الأمل في كل من يقترب منها.  

إذا كنت تبحث عن سر الوجود فهو أكبر وأعظم من حياتي أو موتي. إن سر الوجود يكمن في كل ما خلقه الله في هذا الكون.

من لا يغشاه هذا الشجن المفعم بالتفاؤل عند سماعه هذه الأغنية !!
من لا يعد نظرته للحياة والموت عند سماعه لهذه الكلمات !!
من لا يسع قلبه كل مخلوقات الله حباً عند إدراكه لهذه المعاني !!

لو لم يكتب "مرسي جميل عزيز" غير هذه الترنيمة الصوفية.
لو لم يلحن "الأخوين رحباني" غير هذه الكلمات التي صبغوها بصبغة دينية حزينة.
لو لم تغنِ "فيروز" غير تلك الأغنية بصوتها الملائكي الرقراق.

لظل لزاماً علينا توقير هؤلاء جميعاً على هذا العمل الفني الرائع الذي يبعث فينا الشجن والحنين و يجعلنا أقرب إلى الله وأكثر حباً له والتصاقاً بجنابه ولواذاً برحمته.













الأحد، 27 مارس 2016

كلام في الواقع



في المنطقة الواقعة بين المُتوقَع والواقع تقع جميع مشكلات الإنسان.





كتبت أحلام مستغانمي "من الأسهل علينا تقبل موت من نحب على تقبل فكرة فقدانه واكتشاف أنه بإمكانه مواصلة الحياة بكل تفاصيلها  بدوننا ...!!"


وهذا التعبير القاسي يسهل فعلاً تصوره فمن المتوقع لمن فقد حبيبه أن لا تنتظم حياته وأن يشوبها النقصان والإرتباك وألا تكتمل وتعتدل مرة أخرى إلا إذا حدث اللقاء والوصال. وإن لم يتحقق هذا وكانت الحياة بالحبيب وبدونه لا فارق فيها فإن الحبيب يكون لا قيمة له على الإطلاق. 


 وتكون فكرة تقبل الموت أهون من تقبل فكرة أن المتوقع لم يحدث في الواقع.


وكلما زادت مشاعرالحب أو الصداقة أو القرابة زادت التوقعات الغير معلنة والتي ينتظر كل طرف من الآخر في هذه العلاقة أن يقدمها بلا طلب مسبق وفي موعدها المحدد بمنتهى الدقة وإلا كان الموت أفضل. 


ولماذا الموت؟ لأنه الوحيد الذي يقع خارج دائرة إختياراتنا لذلك يمكن أن نسامح فقط من مات لأنه لم يلبي توقعاتنا غير المعلنة. أما الأحياء فليست أعذارهم مقبولة لدينا حتى يموتوا.


وينسحب هذا المعنى على جميع العلاقات الإنسانية بدرجات متفاوتة حسب قوة العلاقة والحرص عليها من الناحية العاطفية. 


ومن لايعي هذه الحقيقة سيبقى على قدر كبير من المعاناة في حياته في جميع علاقاته الإنسانية وسيظل يعالج مشاكل فرعية تتوالى عليه وكلما عالج مشكلة نبت له أخرى. وهو كالطبيب يعالج أعراضاً مختلفة ظناً منه أنها المرض ولكن مريضه لا يشفى و يوشك على الموت حتى يهديه الله وينتقل من الفروع إلى الأصل أي إلى السبب الحقيقي للمرض فيعالجه وتنتهي معاناة المريض والطبيب معاً.


وكلما زادت المسافة بين المتوقع منا وبين الواقع الذي نقدمه في علاقاتنا زادت مشاكلنا وتكدرت حياتنا بشكل مزر.



قال مولانا جلال الدين الرومي: هناك شيئ واحد في هذا العالم لا ينبغي أن يُنسى. إذا نسيت الأشياء كلها ولم تنس ذلك الشيئ فلا داعي للخوف. ولو أنك أنجزت الأشياء كلها وتذكرتها ولم تنسها ونسيت ذلك الشيئ فكأنك ما فعلت شيئاً البته.

وهذا تماماً مثلما إذا أرسلك مَلِك إلى قرية من أجل عمل معين فذهبت وأديت مئة عمل آخر فعندما لا تكون أديت ذلك العمل الذي كنت ذهبت من أجل تأديته فكأنك ما أديت شيئاً البته.

وهكذا فإن الإنسان جاء إلى هذا العالم من أجل عمل معين وذلك مقصوده وهدفه فإذا لم يؤد هذا الذي جاء من أجله فإنه لا يكون قد فعل شيئاً.

"وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون". وكلما إبتعد الإنسان عن عبادة ربه زادت المسافة الواقعة بين ماهو متوقع منه أن يفعله وما خلق من أجله وبين واقعه فيكون بذلك قد وقع في أكبر مشكلة يمكن أن يقع فيها وهي مشكلة خلقه.





انْظُرْ أَلا يَرَاكَ اللَّهُ حَيْثُ نَهَاكَ وَأَلا يَفْقِدَكَ حَيْثُ أَمَرَكَ واسْتَحِ فِي قُرْبِهِ مِنْكَ , وَقُدْرَتِهِ عَلَيْكَ " .



كتب المقال وحرره: عاطف أبو شوشه





الجمعة، 18 مارس 2016

الإسكندرية .. يعني الشاطبي



موسم الإمتحانات يقارب على نهايته ويبشر بدخول الإجازة الصيفية الطويلة.

يتزامن مع هذا الموسم الإعداد الحثيث لرحلة المصيف التي تبدأ مباشرة بعد نهاية الإمتحانات بأقل من أسبوع. كانت أمي أطال الله في عمرها تتحمل كل هذا العبء وحدها.

كانت عائلتنا إحدى ثلاث عائلات في الحي كله تذهب إلى المصيف كانت إحداها عائلة زوجتي الحبيبة وكنا نتفوق عليهم جميعاً في طول الفترة التي نغيب فيها عن الحي.

 يوم السفر هو أسعد يوم في حياتنا. لم نعرف سفراً إلا إلى الإسكندرية في الصيف. 

في الصباح الباكر نحمل أشياءنا ونتجه إلى محطة القطار. شمسية البحر في جرابها القماشي وكراسي البحر بمقاساتها المختلفة والجرادل البلاستيكية والترموس وشنطتان للملابس لونهما بني يغطي كلاً منهما غطاءاً قماشياً أبيض اللون لحمايتهما. تحتوي الشنطتان على كل ملابسنا التي نحتاجها لمدة ثلاثة أشهر كاملة قامت أمي بتفصيل معظمها بنفسها بما في ذلك ملابس البحر.  

الرحلة بالقطار مع العائلة ممتعة جداً. نبدأ باللعب في محطة مصر المترامية الأطراف ذات السقف العالي جداً. طالما بهرني عظمة هذا البناء الواسع الرحب.
"قطر الثوره ماشي بينا .. حايفرجنا ويورينا" أغنية من زمن الثورة كانت أغنيتنا المفضلة والتي تتناسب مع هذا المكان نغنيها ونحن نلف وندق الأرض بأقدامنا مقلدين حركة القطار الذي سيدخل المحطة بعد قليل. 

القطار يقف في محطات كثيرة. ينزل الركاب ويصعدون عند كل محطة. كل محافظة يقف عندها القطار يذكر لنا أبي أسم هذه المحافظة مرتبطاً بما تشتهر به مثل بنها العسل حيث يعد عسل النحل البنهاوى من أجود الأنواع. وكان يبهرني إمتداد الحقول على مرمى البصر  يكسوها اللون الأخضر الذي نشاهده من نافذة القطار على طول الطريق.   




إنتقل معظم أفراد عائلة والدي من قريتهم الصغيرة والتي تسمى "منية المرشد" وهي قرية في مركز مطوبس (فوة سابقاً) محافظة كفر الشيخ وكان اسمها " بنى مرشد " نسبة إلى الشيخ العارف بالله محمد بن عبد الله المرشدى ثم تغير بعد ذلك إلى ميناء المرشد ثم إلى منية المرشد. إنتقل معظم أفراد عائلة "أبو شوشه" إلى الإسكندرية بغرض التعليم والعمل. وكان عمي "محمود" و زوجته "أبله محاسن" من بين الذين انتقلوا وعاشوا في الإسكندرية. 


نتجه مباشرة من محطة مصر في الإسكندرية إالى منزل عمي محمود في شارع بوالينو في حي محرم بك حيث ننزل ضيوفاً عنده لفترة الصيف.

لم نكن وحدنا الذين ننزل ضيوفاً على بيت عمي بل كل من يفد من العائلة إلى الإسكندرية من القرية كان يجد في بيت عمي ترحاباً وملاذاً. لم تشتكي أبدا زوجة عمي من كثرة الزوار والمقيمين في بيتها. أحبت الجميع فزرع الله محبتها في قلوبنا جميعاً.

لا زلت أذكر محل عم فاروق البقال في الجهة المقابلة لبيت عمي حيث كنت أشتري من عنده الحلاوة الطحينية. 

أذكر جيران بيت عمي, "هويدا" التي تسكن مع أمها في الدور الأول. بائع العرقسوس الذي كان يسكن غرفة صغيرة أول السلم. عدة فتيات في مقتبل العمر يسكن الدور العلوي أذكر أن إحداهن كانت تسمى "أشجان" كن صديقات لأخواتي.

نستقل الأوتوبيس كل يوم في الصباح إلى شاطئ الشاطبي نمر على عم عثمان النوبي بواب العمارة الكبيرة المقابلة للشاطئ. نحتفظ عنده بالشمسية والكراسي والطائرة الورقية طوال فترة الصيف. في آخر كل يوم نودعهم عنده مرة أخرى.




من أهم معالم هذا الشاطئ "كازينو الشاطبي" و"الكازينو الخشب" وبين الإثنين كنا نقضي فترة الصيف حيث المصور "بشير" الذي إحتكر تصويرنا على مدى سنين طويلة. وبائع الآيس كريم أمام الكازينو الخشب.

الطائرة الورقية التي نصنعها أنا وأخي الأكبر من البوص والورق الملون تكون أكبر طائرة على الشاطئ كله.

أحرص على البرطمان المغطى فوهته بالقماش إلا من فتحة صغيرة أضع من خلالها بعض الخبز وأربطه بحبل ثم أرخيه في الماء لأصطاد السمك الذي يحاول الوصول إلى الخبز في الداخل.

تظل أختي الكبيرة تتجول على الشاطئ طوال اليوم لتجمع مايلقي البحر من أصداف.

ينقضي يومنا بالإستحمام في البحر واللعب على الرمال نبني بيوتاً ونحفر حفراً نملأها بالماء. 

أمي تراقبنا بحرص وقلق في كل تحركاتنا وهي جالسة تحت الشمسية. إذا نزلنا البحر وحدنا من دون أبي تظل واقفة على الشاطئ حتى نخرج من الماء.



لا نترك الشاطئ إلا عند الغروب وتكون رحلة عودتنا لمنزل عمي دائما سيراً على الأقدام. نمر على مقابر المسيحيين بما يكتنفها من سكينة وغموض وهي أشبه بحديقة كبيرة جميلة خلف الأسوار. أنجح دائماً في الإمساك بإحدى الضفادع الصغيرة المنتشرة في حديقتها. ونشتري في طريقنا الذرة المشوية والبطاطا والبسبوسة الساخنة ونرفع أصواتنا ونحن نمر من الكوبري "أبو عين واحده" والكوبري "أبو عنتين" لنستمتع برجع صدى صوتنا.

"باكوس" هو إله الخمر عند الرومان القدماء. عندما نذهب لزيارة عمي "سعد" الذي يسكن في منطقة "باكوس" والتي ينطقها أهل الإسكندرية بلهجتهم الجميلة "بكوس" كنا نذهب إلى شاطئ "جليم" القريب من بيت عمي. لم أكن أحب هذا الشاطئ كثيراً. بالنسبة لي الإسكندرية هي الشاطبي.

في يوم الجمعة لا نذهب إلى الشاطئ تجنباً للزحام. نحرص على قضاء يوم في حديقة "أنطونيادس" بخضرتها وزهورها الجميلة وتماثيلها الرومانية التي تملأ ممراتها . وكنا نزور أقاربنا الذين يقيمون في الإسكندرية الذين لا نراهم طوال العام.

في الصيف كان أبي يحرص على أن يسافر إلى منية المرشد مسقط رأسه لقربها من الإسكندرية لزيارة والدته جدتي ذات العينين الزرقاوتين وأخيه الذي كان يزرع أرض العائلة وأخته الوحيدة عمتي الحبيبة وباقي أفراد العائلة الذين يسكنون القرية ولم يغادروها وكنا نذهب أحيانا مع أبي ونقوم بصيد السمك مع زوج عمتي.

أوصى أبي أن يدفن في بلدته وكانت وجهة نظره في هذا الخصوص أن أهل القرية وهم يغادرون في الصباح الباكر إلى حقولهم يمرون بمقابر القرية وكذلك يفعلون عند رجوعهم عند غروب الشمس فيقرأون الفاتحة ويترحمون على موتاهم عند مرورهم أما في القاهرة فلا أحد يذهب لزيارة الموتى.

في هذا العام كان الكازينو الخشب على جهة اليمين من الشاطئ يذيع أحدث أغاني أم كلثوم "إنت عمري" على مدار ساعات النهار كله.






رجعوني عنيك لأيامي اللي راحوا

علموني أندم على الماضي وجراحه
اللي شفته قبل ما تشوفك عنيه عمر
ضايع يحسبوه إزاي عليّ
انت عمري اللي ابتدي بنورك صباحه


كان هذا العام آخر عام لنا على شاطئ الشاطبي حيث منعنا مرض أبي ووفاته من السفر إلى الإسكندرية بعد ذلك سنيناً طويلة ولم يبق لنا من هذه الأيام الجميلة سوى الذكريات السعيدة.







كتب المقال وحرره: عاطف أبو شوشه







الأربعاء، 16 مارس 2016

أمي .. قمر يطل على حياتي



من شباكها العالي تطل علينا دائماً.

إذا غادرنا تطل من شباكها تودعنا تدعو لنا حتى نغيب عن ناظريها. 

في موعد عودتنا تطل من شباكها تنتظرنا تدعو لنا حتى ترانا نعود في أمان.




شباكها العالى ترى منه جزءاً كبيراً من عمرنا فكم غادرنا صغاراً إلى مدارسنا ثم عدنا كهولاً نحمل أطفالنا.

ترى من شباكها هذا القطار الذي يمرعن بعد وتسمع صوته رحيله مسرعاً في قلب ليالي الشتاء الطويلة الباردة.

تستيقظ أمي قبل الجميع وتبدأ في إعداد وجبة الإفطار. الراديو يستقبل الصباح بأغنيات حفرت في وجداننا. لن يجئ الصباح إذا لم تكن هناك تلك الأغنيات. توقظنا أمي كل حسب ميعاده. تطل علي كل منا من شباكها حين نغادر المنزل. 
بعد أن ترفع بقايا طعام الإفطار تشرع أمي بعد ذلك في تنظيف البيت وترتيب الحجرات والأسرة . تنزل من البيت إلى السوق لتشتري ما ستعده لنا كوجبة الغداء. تعود للمنزل وتعد الطعام ثم تطل من شباكها مرة أخرى في انتظار طويل قلق حتى نعود.

كم أضاعت أمي سنيناً طويلة من عمر شبابها تنتظر عودتنا من ترحالاتنا في أرض الله الواسعة.


أشجار البنسيان بأوراقها الداكنة الخضراء وأزهارها البرتقالية الكثيفة تحجب الشارع المقابل للبيت من أوله وحتى آخره وتظلل بحنو دافئ على ثنائيات شابة فتية متأججة المشاعر تستند عند غروب الشمس إلى جذوعها العريضة. 


نحن عندما نغادر المنزل  وقبل أن نخطو إلى الشارع نلتفت إلى أعلى نلوح لها ونمضي. عندما نعود لابد أن نرفع رأسنا إلى الأعلى لنجدها في انتظارنا في شباكها. المرات القليلة التي عدت فيها للمنزل ولم أجدها شعرت بانقباض شديد على الرغم من علمي أنها تزور جدتي أو خالتي التي تسكن قريباً منا. يظل هذا الشعور بالفقد والوحدة يصاحبني حتى ترجع أمي إلى المنزل.



وكما تطل أمي علينا من شباكها العالي هي قمر كان ولايزال يطل على حياتي. لم تتدخل أبداً في أي قرار اتخذته ولم تلمني مطلقاً على خطأ ما ارتكبته أو سلوك ما انتهجته. كانت تعرف أنني سأصلح مساري وأعود كما تريدني هي. كانت تطل علي ولا تطل في داخلي.

من شباكها ترى هذه القبة الضخمة تملأ الفراغ المقابل. في شباك القبة العلوي المستدير تقطن عائلة من طائر الحدأة الضخم تنشغل في النهار بإطعام صغارها الذين نسمع صوتهم قريبا جداً منا  ونراها تحوم حائرة في السماء عند وقت الغروب في دوائر كبيرة تصغر شيئا فشيئاً حتى تهبط لتبيت في عشها.

تتحسس أمي كلماتها وهي تخاطبني حتى لا تجرح مشاعري وهي حريصة جداً على ذلك أكثر من حرصي أنا تجاهها. وكأن الله أمرها هي أن تبرنا وتحسن إلينا وتكرمنا كلما طال بها العمر. 

كنت طفلاً في العاشرة من عمري عندما أرسلت ناظرة المدرسة "أبله عائشة" في طلبي إلى مكتبها. كانت غرفتها الواسعة تمتلئ بالكثير من مدرسات المدرسة. عدلت من وضع نظارتها الطبية وسألتني عن حالة والدي الصحية. سمعت بكاء المدرسات ونحيبهن المكتوم من حولي وأنا أحكي لها كيف أن أمي أخذت أبي الذي طال مرضه إلى بلدتنا في الريف حيث يوجد طبيب ماهر هناك سوف يقوم بعلاجه ويعود إلينا صحيحاً معافياً وكيف أنها  عادت من دون أبي متشحة بالسواد.

منذ هذا اليوم تحملت أمي مسئوليتنا كاملة وحدها. ومنذ هذا اليوم انكفأت أنا علي ذاتي وتحملت جميع مشاكل حياتي وحيداً. فقد كان يلازمني الإحساس بأن فقدان أبي كان أكبر بكثير من أي مشكلة أخري يمكن أن أمر بها. انكفأت على ذاتي وتعلمت الصمت والكتمان.

وبعد أن كبرت وتزوجت وصرت أباً  مازالت أمي توصيني إذا خرجت من عندها أن أنتبه إلى الطريق. مازالت أمي توصيني ألا أخفف من ملابسي حتى لا أمرض. مازالت أمي  توصيني أن أتناول جميع وجباتي في وقتها. مازالت أمي توصيني بألا أطيل السهر حفاظاً على صحتي. مازالت أمي توصيني أن أذهب إلى الطبيب بسرعة إذا مرضت حتى لا يتأخر علي الشفاء. مازالت أمي توصيني أن أتناول دوائي في ميعاده.

مازالت أمي تبكي وأنا أودعها عند رحيلي الدائم إلى أرض الغربة.






كتب المقال وحرره: عاطف أبو شوشه



السبت، 12 مارس 2016

لا رجم للزانية ... المسكوت عنه


أنا لا أختار المواضيع التي أكتب عنها ولكن المواضيع هي التي تختارني.

قد أعلم السبب الذي أثارني لكتابة موضوع ما وكثيراً لا أعلم. ولكن الأفكار تظل تتواتر في ذهني وتتراكم حتى أنني أخشى علي نفسي منها وأخشى عليها مني أن أضيعها فأسرع بكتابتها في أوراق هامشية أرجع إليها عندما أبدأ في الكتابة.

لا أدري لماذا تتلاحق المواضيع التي أكتبها ولكنها تبدأ بحلقات صغيرة متفرقة بعضها قديم جداً وبعضها قد استجد ولا تلبث أن تتجمع لتكون حلقة واحدة كبيرة تحيط بي وتأسرني في داخلها حتى أنفضها عن نفسي. وهي كالسحب تبدأ متناثرة في السماء ثم تدفعها الرياح تجاه بعضها البعض لتكون غيمة كبيرة تستعد لتهمي أمطارها سريعاً.


مفارقة في صحيح البخاري لها أكثر من معني.


يقول النبي في أكثر من حديث  "خالفوا اليهود والنصارى ... "

ويقول ابن عباس " كان الرسول يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر به ... "

هذه هي المفارقة في البخاري وفيما يلي بعض المعاني التي أود أن أتطرق إليها

  • أن البخاري كما ذكرنا سابقاً كان محققاً للأسانيد فقط وليس لمتون الأحاديث وإلا لما أورد أحاديثاً متناقضة كهذه تضعف من قيمة كتابه.
  • لم يتعمد النبي مخالفة أهل الكتاب على العموم من أجل المخالفة فقط وإنما فقط عندما يكون هناك حكم قرآني مختلف. وليس كما تعمد الكثيرون من أصحاب المذاهب أن يثبتوا لنا أن هذا من أصول الدين.
  • أن النبي  كان يتعامل مع أهل الكتاب على أن دينهم هو دين سماوي لا حرج في إتباع أحكامه فهو من عند الله ربنا وربهم.
  • أننا الآن ننتقي  من شريعة أهل الكتاب ما يوافق هوانا كالنقاب والرجم للزناة عند اليهود ثم أننا بعد ذلك لسنا فقط نختلف معهم فيما لا يحلو لنا بل و نكفرهم فيه أيضاً.

وسبب ذكري لما سبق هو عثوري على مقالة للدكتور مصطفى محمود ينكر فيها حد الرجم في الإسلام ويسوق أدلته من القرآن مباشرة حتى أنني بعد قرائتي للدليل الأول الذي استشهد به على ذلك لم أكن بحاجة إلى بقية الدلائل لأعلن قناعتي ولكنني تعجبت من حالة الجمود والقولبة التي تسيطر على تفكيرنا ونحن نقرأ القرآن ليل نهار وكيف أننا لم نتنبه بأنفسنا إلى هذه الدلائل البينة. 

وسبب نقلي لهذه المقالة أيضاً هي هذه المقاطع المصورة التي تصلنا من "داعش" وفيها توثيق عملي لتطبيق حد الرجم وما تلاقيه هذه المقاطع من عدم إستحسان عند عامة المسلمين.


سوف أنقل فيما يلي مقالة الدكتور كاملة كما وجدتها بلا أي تدخل أو تعديل مني وأحب أن أسمع تعليقاتكم بعد قراءتها.


مقال: لا رجم .. للزانية

لا رجم للزانية
لا .. رجم للزانية … للدكتور مصطفى محمود رحمه الله .
هذا الكتاب ( 193 صفحة )  و الصادر عن مكتبة مدبولي الصغير صادره الأزهر بدون إبداء أي أسباب ، حيث ألفه الدكتور مصطفي محمود وظهرت له مقالًا في جريدة الأهرام المصرية بتاريخ 5/8/2000
و وَرد في المقالة تسعة أدلَّة تُثبت من وجهة نظر الدكتور .. عدم وجود عقوبة الرجم في الإسلام  :
– الدليل الأوَّل :
أنَّ الأمَة إذا تزوَّجت وزنت فإنَّها تُعاقب بنصف حدِّ الحُرَّة ، وذلك لقوله تعالى : (( ومن لم يستطع منكم طَولاً أن ينكح المحصنات المؤمنات فمِن ما ملكت أيمانُكُم من فتياتكم المؤمنات والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعضٍ فانكحوهنَّ بإذن أهلهنَّ وآتوهنَّ أجورهنَّ بالمعروف محصناتٍ غير مسافحاتٍ ولا متخذات أخدانٍ فإذا أُحصِنَّ فإن أتين بفاحشةٍ فعليهنَّ نصف ما على المحصنات من العذاب ذلك لمن خشي العنت منكم وأن تصبروا خيرٌ لكم والله غفورٌ رحيم )) .
والرجم لا ينتصف .
وجه الدليل من الآية : قوله : (( فإذا أُحصِنَّ )) أي تزوَّجن (( فعليهنَّ نصف ما على المحصنات )) أي الحرائر . والجلد هو الذي يقبل التنصيف ، مائة جلدة ونصفها خمسون ، أمَّا الرجم فإنَّه لا ينتصف ؛ لأنَّه موت وبعده قبر ، والموت لا ينتصف .
– الدليل الثاني :
أنَّ البخاري روى في صحيحه في باب رجم الحُبلى : (( عن عبد الله بن أبي أوفى أنَّ النبي صلَّى الله عليه وسلم رجم ماعزا والغامديَّة . ولكنَّنا لا ندري أرجم قبل آية الجلد أم بعدها )) .
وجه الدليل : أنَّه شكَّك في الرجم بقوله : كان من النبي رجم . وذلك قبل سورة النور التي فيها : (( الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد مهما مائة جلدة )) . لمَّا نزلت سورة النور بحكم فيه الجلد لعموم الزُناة فهل هذا الحكم القرآني ألغى اجتهاد النبي في الرجم أم أنَّ هذا الحكم باقٍ على المسلمين إلى هذا اليوم ؟ . ومثل ذلك ، اجتهاد النبي في معاملة أسر غزوة بدر وذلك أنَّه حكم بعتقهم بعد فدية منها تعليم الواحد الفقير منهم عشرة من صبيان المسلمين القراءة والكتابة ثمَّ نزل القرآن بإلغاء اجتهاده كما في الكتب في تفسير قوله تعالى : (( ما كان لنبيٍّ أن يكون له أسرى حتَّى يثخن في الأرض )) .
وجه التشكيك : إذا كان النبي قد رجم قبل نزول القرآن بالجلد لعموم الزُناة فإنَّ الرجم يكون منه قبل نزول القرآن وبالتالي يكون القرآن ألغى حكمه ويكون الجلد هو الحكم الجديد بدل حكم التوراة القديم الذي حكم به ـ احتمالاً ـ أمَّا إذا رجم بعد نزول القرآن بالجلد فإنَّه مخالف القرآن لا مفسِّراً له ومبيِّناً لأحكامه ولا موافقاً له ، ولا يصحُّ لعاقلٍ أن ينسب للنبي أنَّه خالف القرآن ؛ لأنَّه هو المُبلِّغ له والقدوة للمسلمين ، ولأنَّه تعالى قال : (( قُل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عُمُراً من قبله أفلا تعقلون )) . والسُنَّة تفسِّر القرآن وتوافقه لا تكمِّله . وقال تعالى : (( وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس )) والألف واللام في ” الناس ” للعموم . وعلى أنَّهم كانوا مكلَّفين بالتوراة يُحتمل أنَّ النبي حكم بالرجم لأنَّه هو الحكم على الزانية والزاني في التوراة ولمَّا نزل القرآن بحكمٍ جديدٍ نسخ الرجم ونقضه .
– الدليل الثالث :
أن الله تعالى بين للرجل في سورة النور أنه إذا رأى رجلاً يزني بامرأته ولم يقدر على إثبات زناها بالشهود فإنه يحلف أربعة أيمان أنه رآها تزني وفي هذه الحالة يُقام عليها حد الزنا ، وإذا هي ردت أيمانه عليه بأن حلفت أربعة أيمان أنه من الكاذبين فلا يُقام عليها الحد لقوله تعالى : (( والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربعة شهادات بالله إنه لمن الصادقين والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين ويدرؤ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين )) .
وجه الدليل : هو أن هذا الحكم لامرأة محصنة . وقد جاء بعد قوله تعالى : (( الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة )) وحيث قد نص على عذاب بأيمان في حال تعذر الشهود فإن هذا العذاب يكون هو المذكور في هذه الجريمة والمذكور هو : (( الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد مهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما )) أي العذاب المقرر عليهما وهو الجلد . وفي آيات اللعان : (( ويدرؤ عنها العذاب )) أي عذاب الجلد . وفي حد نساء النبي : (( يُضاعف لها العذاب )) أي عذاب الجلد ؛ لأنه ليس في القرآن إلا الجلد عذاب على هذا الفعل . وفي حد الإماء : (( فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب )) المذكور في سورة النور وهو الجلد .
– الدليل الرابع :
قوله تعالى في حق نساء النبي : (( يا نساء النبي من يأتِ منكن بفاحشةٍ مبينة يُضاعف لها العذاب ضعفين وكان ذلك على الله يسيراً )) . عقوبة نساء النبي مضاعفة أي مائتي جلدة ، فالرجم الذي هو الموت لا يُضاعف . والعذاب في الآية يكون في الدنيا والدليل الألف واللام وتعني أنه شيء معروف ومعلوم .
– الدليل الخامس :
قوله تعالى : (( الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة )) الألف واللام في (( الزانية والزاني )) نص على عدم التمييز بين الزناة سواءً محصنين أو غير محصنين.
– الدليل السادس :
قوله تعالى : (( والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً وأولئك هم الفاسقون )) . هنا ذكر حد القذف ثمانين جلدة بعد ذكره حد الجلد مائة . يريد أن يقول : إن للفعل حد ولشاهد الزور حد وانتقاله من حد إلى حد يدل على كمال الحد الأول وتمامه ، وذكره الحد الخفيف الثمانون وعدم ذكر الحد الثقيل الرجم يدل على أن الرجم غير مشروع لأنه لو كان كذلك لكان أولى بالذكر في القرآن من حد القذف .
– الدليل السابع :
قال تعالى : (( واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلاً )) . الإمساك في البيوت لا يكون بعد الرجم ويعني الحياة لا الموت ؛ إذن هذا دليل على عدم وجود الرجم . وتفسير قوله تعالى : (( حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلاً )) . هو أن الزانيات يُحبسن في البيوت بعد الجلد إلى الموت أو إلى التوبة من فاحشة الزنا .
– الدليل الثامن :
قوله تعالى : (( الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زانٍ أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين )) . هنا حرم الله الزانية على المؤمن وهذا يدل على بقائها حية من بعد إقامة الحد عليها وهو مائة جلدة ، ولو كان الحد هو الرجم لما كانت قد بقيت من بعده على قيد الحياة . وقوله تعالى : (( واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم )) لا يميز بين بكر وثيب إذ قوله (( من نسائكم )) يدل على عموم المسلمين ، وقوله (( أو يجعل الله لهن سبيلاً )) يؤكد عدم الرجم ويؤكد عدم التمييز بين البكر والثيب في الحد . وإن تابت الزانية أو الزاني فيندرجا تحت قوله : (( فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما )) . فالتوبة تجب ما قبلها .
– الدليل التاسع :
يقول العلماء : إن الخاص مقدم على العام . ثم يقولون : والقرآن عام . ثم يقولون : وفي القرآن آيات تخصص العام . ثم يقولون : وفي الأحاديث النبوية أحاديث تخصص العام . أما قولهم بأن العام في القرآن يخصص بقرآن فهذا هو ما اتفقوا عليه وأما قولهم بأن الأحاديث تخصص عام القرآن فهذا الذي اختلفوا فيه لأن القرآن قطعي الثبوت والحديث ظني الثبوت وراوي الحديث واحد عن واحد عن واحد ولا يصح تخصيص عام القرآن بخبر الواحد .
وعلى ذلك فإن قوله تعالى : (( الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة )) حكم عام يشمل الجميع محصنين أو غير محصنين . فهل يصح تخصيص العام الذي هو الجلد بحديث يرويه واحد عن واحد في الرجم ؟ ! . إن قلنا بالتخصيص والخاص مقدم على العام يلزم تفضيل كلام الراوي على كلام الله أو يلزم مساواة كلام الراوي بكلام الله وهذا لا يقول به عاقل ، وعليه يتوجب أن حكم الرجم ليس تخصيصاً لحكم الجلد .
يقول شيخ الإسلام فخر الدين الرازي عن الخوارج الذين أنكروا الرجم : (( إن قوله تعالى : (( الزانية والزاني فاجلدوا )) يقتضي وجوب الجلد على كل الزناة . وإيجاب الرجم على البعض بخبر الواحد يقتضي تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد وهو غير جائز لأن الكتاب قاطع في متنه بينما خبر الواحد غير قاطع في متنه والمقطوع راجح على المظنون )) .
ولو أن رواة الأحاديث قد اتفقوا على الرجم والنفي ( التغريب ) لأمكن أن يُقال إن إجماعاً من المسلمين موجود عليهما . ولأنهم لم يتفقوا وقع الريب في قلوب المسلمين من جهة الرجم والنفي . وفي الحديث : (( دع ما يريبك إلى ما لا يريبك )) ففي حديث : (( خذوا عثكالاً فيه مائة شمراخ فاضربوه به وخلوا سبيله )) أمر بالجلد ولم يأمر بالتغريب . وفي حديث الأمَة : (( إذا زنت فاجلدوها ثم بيعوها ولو بطفير )) ولو كان النفي ثابتاً لذُكِر هنا مع الجلد . وروى الترمذي أنه عليه السلام جلد وغرّب ، وهذا تناقض .
الرجم عقوبة جاهلية توارثها العرب والمسلمون وما كان لها بالقرآن صلة .
فلقد ذكرت كلمة رجم خمسة مرات في الكتاب المقدس عن شعوب سلفت نزول التحكيم الإسلامي وهو كالآتي:
{قَالُواْ يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ }هود91
{إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً }الكهف20
{قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً }مريم46
{قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ }يس18
{وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَن تَرْجُمُونِ }الدخان20
كل هذه الآيات الكريمة القرآنية تثبت أن الرجم غير مقبول في الإسلام كوسيلة ردع المنحرف عن شريعة الله ومن تكبَّده أو هُدِّد به عبر التاريخ البشري قبل نزول القرآن وبعده كان تسلطا وطغيانا كما تنص الآيات الصريحة !
===
بقلم: د. مصطفى محمود رحمه الله

كتب المقال وحرره: عاطف أبو شوشه

الخميس، 10 مارس 2016

عذاب القبر ونعيمه



"ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم"




في خطبة الجمعه حكي لنا الخطيب حكاية مؤثرة جداً.

"ذلك أن أماً بعـد أن دفـنـت إبـنـتـها ورجـعت إلى البيت إكتشفت أن كيـس نـقودها قـد وقع منها في مكان الدفن. فذهب إبنها ليـبـحـث عـنه هناك فرجع إلى أمه يـسألها: ماذا كانت تفعل أختي حتى أني لما وضعت يدي في الرمل أبحث عن الكيس وجدت الرمل حاراً جداً كأن هناك ناراً تشتعل تحته مكان قبر أختي. فـقـالت له أمه إن أخـتك لم تكن تصلي."

بعد هذه الجمعة إمتنعنا أنا وإبني عن الصلاة في هذا المسجد. وأخشى أن يكون إبني قد إمتنع عن صلاة الجمعة أو عن الصلاة عموماً بسبب مثل هذا الخطيب الذي ساق لنا حكاية مرسلة بدون أي سند أو دليل أو منطق بديهي واستشهد بها علينا أن من يترك الصلاة سوف يلقى نفس المصير.

انا لا أخاف من الموت أو من القبر وعذابه أو حتى أحلم بنعيمه.

وقبل أن يظن بي أحدٌ سوءاً أو يتهمني "بإنكار ماهو معلوم من الدين بالضرورة" ثم يكفرني ويستحل كل الناس دمي فيقتلني من يستطيع إلى ذلك سبيلاً تقربا إلى الله أو على أقل تقدير أسجن بتهمة "إزدراء الدين الإسلامي" أريد أن اشرح لماذا. 

أنا عندما أموت لن أكون أنا.

فهذا الجسد لن يتمتع بأي مزايا حسية لأنه فانٍ بطبعه وهذا العقل الذي يترجم الأحاسيس ويحدد ردود الأفعال المناسبة تجاهها من بهجة أو خوف سوف يفنى قطعاً هو أيضاً بفناء الجسد لأنه جزء منه. فماذا يبقي منا إذن ؟ لا شك أنها  الروح التي ستبقى.

ولقد قال الله تعالى "ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا"

إذن ما سيبقى منا هي الروح التي لا نعلم من أمرها شيئا. ونحن لا نعلم ماذا تحب الأرواح أو ماذا تكره. ولا نعلم إذا كانت الروح ستضيق بضيق القبر وظلمته أو لا ولكننا نقيس بما نحسه نحن الآن من أننا نضيق إذا وضعنا في مكان ضيق مظلم.

فإذاً أنا لن أكون أنا ولا أعرف ما سأكون عليه فكيف أحكم أنني سأخاف أو أضيق أو أنني سأنعم أو أتلذذ. أنا هنا أكتفي بأن أحيل الأمر كله إلى الله عز وجل فيما أخبرنا به في قرآنه.



وأنا أفكر دائما في أختي التي رحلت منذ سنين عديدة وكانت تخاف جداً حتى من أشياء بسيطة لا يخاف منها أحد وأتسائل كيف احتملت ظلمة القبر ووحشته كما يقولون عنه. هل هربت من شدة خوفها ورجعت إلينا. لم يحدث ذلك منها أو من أي أحد آخر. 

فنحن  بعد الموت نتكلم عن طبيعة أخرى مغايرة تماماً لما نحن عليه الآن ولا ندري عنها شيئا ولن يفيدنا كثيراً أن نتعلل بالخوف أو بالنعيم الذي لا نعلم كيف سيكون موقفنا حياله ونحن في هذه الهيئة المجهولة بعد الموت كي نعمل عملاً صالحاً أو نقلع عن آخر سيئاً ونحن على هيئتنا الحالية قبل الموت.

وكفانا ما أثير في بعض الشباب من غرائز جنسية تتمثل في تشويقهم للحور العين حتى يقتلوا أنفسهم طمعاً في الشهادة ليحظوا بالأعداد الكبيرة منهم واللاتي تنتظرهن في الجنة. ولا زلت أذكر هذا الرسم الكاريكاتوري في أحد الصحف الغربية والذي يمثل خازن الجنة يقف عند بابها ويخاطب انتحارياً مازال دخان التفجير يتصاعد منه وقد صعد لتوه  ليدخل الجنة ويستمتع بالحور العين ولكنه يصاب بالإحباط عندما يخبره خازن الجنة  بأنه لم يبق منهن فائض له. هكذا فطن الغرب إلى أن المسلمين الإنتحاريين يقاتلون من أجل إرضاء غريزتهم واتخذوا دينهم غطاءاً شرعياً لذلك. 

وقد أثارني جداً هذا المقطع المصور الذي وصلنا اليوم وفيه يجلس شخصٌ ما أمام قبر مفتوح ويدعونا إلى حبه وعدم الخوف منه. وكم تمنيت أن أدعوه لينزل بنفسه في القبر ويُغلق عليه ولو حتى ليومٍ واحدٍ ثم يخرج بعد ذلك ليقسم لنا أنه أحبه ولم يخف منه وذلك مع الأخذ في الإعتبار علمه المُسبق بأنه سيُفتح عليه ليخرج منه.

وإذا تأملنا قليلاً نلاحظ أن الشيطان بكل مانتصوره عنه من قبحٍ وسوء منظر  وكل ما يقع في أنفسنا من تخيلاتٍ لصورته وصفاته الكريهة التي  صورها لنا من لم يشاهدوه لم يكن مذموماً عند الله الذي خلقه على هذه الصورة والذي هو جميل يحب الجمال حتى أمره بالسجود فعصى. وينسحب هذا المنطق أيضاً على الملائكة التي نعتقد كلنا في جمالها. فحتى مقاييس القبح والجمال لا نعلم عنها شيئا في العوالم الأخرى. 


ولا أستطيع أن أنكر عذاب القبر ونعيمه أو أثبته فذلك مما اختلف فيه الكثيرون وأنكره كثير من المفكرين مثل د. مصطفى محمود والأستاذ جمال البنا وغيرهما. كما أنكره الشيخ الشعراوي إذ يقول "لا عذاب قبل الحساب والحساب في الآخرة" وهذا هو رابط حديث الشيخ كاملاً https://www.youtube.com/watch?v=dMOZQ5LwKA0

ولكي أخرج أنا من هذا المأزق العميق فإنني أدعو الله " اللهم أجرني من عذاب القبر إن كان حقاً وأستعيذ بك أن أُضل أو أَضل إن لم يكن حقاً ".






كتب المقال وحرره: عاطف أبو شوشه