السبت، 20 أغسطس 2016

القاهرة وشوارعها


عندما توقف بسيارته السوداء أمامي مباشرة تحت الكوبري نظر إلي نظرة حادة ثاقبة وأشار إلي فركبت معه على الفور دون أدنى مقاومة.

كنت فقط أحاول أن أصل ما انقطع منذ زمن بعيد. شوارع القاهرة وحواريها ودكاكينها وقاطنيها. عندما كنت أعود لقضاء إجازاتي في القاهرة كنت دائما أستعمل السيارة ولا أمشي كثيراً على قدمي ولا أركب المواصلات العامة مما أفقدني الكثير من الإحساس بالموجودات. 


عندما تمشي ترى وتسمع وتشم وتحس ما لا يمكنك أن تراه أوتسمعه أوتشمه أوتحسه وأنت راكب. 
تشم رائحة الحدائق المروية منذ وقت قليل. تشم رائحة الأشجار وأنت تمر من تحت أغصانها وخاصة أشجار الكافور الشاهقة التي تملأ شوارع القاهرة ولا يلتفت إليها أحد. أتحسس اللحاء الذي يغطي الجذوع الضخمة لهذه الأشجار أعتذر إليها وأواسيها على هذا الإهمال الغير متعمد ممن يمر بها من سكان القاهرة الغاضبين دوماً والمشحوذين دائماً بلا سبب واضح. أحن كثيراً إلى رائحة أوراقها المدببة الجافة وهي تحترق عندما كنا نلقي بها في النار التي كنا نشعلها للسمر الليلي في معسكرات الكشافة. 

أشجار البنسيان أيضاً تملأ شوارع القاهرة بخضرة أوراقها الصغيرة الداكنة والتي تورق و تزهر في الربيع  بسرعة ملحوظة وتتساقط زهورها البرتقالية والحمراء الجميلة لتكسو الأرض تحتها بلون بديع. 


أسمع أصوات العصافير واليمام  فوق الأغصان أبطئ قليلاً من خطواتي حتى أرى هذا المغرد الصغير يقفز من غصن إلى غصن جزلاً لايعكر صفو غنائه شئ. 


أشجار التين البنغالي لازالت موجودة في أماكن كثيرة من أحياء القاهرة ويمتد لحاؤها من فروعها إلى الأرض في حنين دائم حتى تلامسها وتتجذر فيها.



أشجار الفيكس والنخيل و الزنزلخت من الأشجار المتواجدة بكثرة أيضاً في شوارع القاهرة.

عندما تمشي تقترب من كل الأشياء تراها على حقيقتها. الفراغات بين بلاط الأرصفة. التشققات في أسفلت الشارع. أسوار البنايات العالية والمنخفضة وما كتب عليها من تعليقات كتبها أناس مجهولون. الأبوب بأنواعها وأشكالها المختلفة المتباينة. الزهور الصغيرة التي تنمو وسط الحشائش في الحدائق بألوانها الزاهية. أسراب النمل تسعى من جحورها طالبة رزقها الذي قدره الله لها.الخنافس السوداء البطيئة الحركة تسعى أيضاً في طريق لا يعلم وجهته أحد. حشرات أبو العيد بأجنحتها البرتقالية ذات البقع السوداء. بعض السحالي الملونة تمر من أمامك بسرعة في الحدائق قبل أن تلحظها. إبن عرس يظهر أمامك فجأة يقفز من ناحية في الطريق ليختفي بسرعة في الناحية الأخرى. خطواته السريعة المتقاربة ونظراته المترقبة الخائفة من المارة تبعث دائما على الإبتسام.



أتذكر عندما كنت  أسير من بيتنا في العباسية حتى أصل إلى ميدان الأوبرا ماراً بمنطقة الضاهر وباب الشعرية. ومن ميدان الأوبرا إلى قلب القاهرة. حديقة الأزبكية وسورها الملئ بأكشاك خشبية تبيع كل أنواع الكتب. 



شارع فؤاد وممر الكونتيننتال. هاجوبيان الأرمني بائع الطوابع التذكارية. سينما مترو وأفلام الكرتون التي كانت تعرضها صباح أيام الجمعة. سينما ريفولي وحفلات أم كلثوم التي كانت تبث منها. محلات البن البرازيلي وجروبي والأمريكين وإكسلسيور. دار المعارف ودار الشروق ومكتبة مدبولي.





أتذكر أيضا عندما كنت أسير في الإتجاه الآخر قاصداً ميدان روكسي. أمر من نفق العباسية إلى شارع الخليفة المأمون. إسم الشارع يعود بي إلى تاريخ عريق. مباني جامعة عين شمس وقصر الزعفران. كوبري القبة حيث مدفن الرئيس جمال. ومن منشية البكري إلى روكسي. مصر الجديدة ينساب فيها المترو طولاً وعرضاً. لها طابع خاص بشوارعها ومبانيها والمحال تحت الأرشات (الأركادز) التي تحمي المارة من الشمس والمطر تذكرني بمدينة "برن" السويسرية.



كنا نخرج من مبنى نقابة المهندسين نمشي إلى قهوة أم كلثوم في أول شارع عماد الدين يتلقانا عم محسن خازن القهوة متهللاً ويهيئ لنا مكاناً متميزاً للجلوس وشرب الشاي والشيشه ولعب الدومينو والطاوله ونحن نستمتع بعذوبة أغاني أم كلثوم التي شكلت معظم وجداننا العاطفي. تغلق القهوة بعد منتصف الليل. نحن دائماً آخر المغادرين. البرد قارس جداً في الخارج. يفترق الأصحاب إلا واحداً نسير معاً حتى نصل إلى الكاتدرائية المرقسية بجوار مستشفى الدمرداش. 

المسافة الواقعة بين أم الغلام وقصر الشوق مليئة بالبنايات الأثرية والحواري الضيقة جداً والعطوف ذات الأسماء المثيرة للبحث عن أصولها التاريخية. حارة درب الطبلاوي التي احتضنت المسافرخانة منذ بنائها. حارة الوطاويط التي لم تكن تتسع لأكثر من شخصين. جامع سيدي مرزوق في شارع "حبس الرحبة". باب الفتوح وباب المتولي. حي الخرنفش وصديقنا محسن الذي كان يحرص دائماً على دعوتنا للإفطار في رمضان في بيته المطل على شارع المعز.

خرج من السيارة وأغلق الباب خلفه إنتبهت من ذكرياتي في شوارع القاهرة. سألني معاتباً لم سرت كل هذه المسافة الطويلة على قدميك؟ لماذا لم تتصل بي كي أقلك بالسيارة
إلى البيت أو حتى تركب سيارة أجرة؟

كنا قد وصلنا إلى باب المنزل وكان الوقت أضيق بكثير من أن أحكي لإبني ما أردت أن أستعيده من ذكرياتي مع شوارع القاهرة.



كتب هذا المقال وحرره/ عاطف شوشه


مسجد الشيخ مرزوق الأحمدى بالجمالية
http://arabi.ahram.org.eg/NewsQ/85113.aspx