يقول الأستاذ أحمد أمين رحمه الله في كتابه "ضحى الإسلام":
"واجه اليهود كثيراً من المسائل، وبحثوا عنها، واختلفوا فيها؛ فقد بحثوا في النسخ، وقالوا إن الشريعة لا تكون إلا واحدة، وقد بدأت بموسى وتمت به، فلا يجوز النسخ لأن النسخ في الأوامر بَداء ولا يجوز البَداء على الله.
وتكلموا في التشبيه؛ لأنهم وجدوا التوراة مملوءة بألفاظ تشعر بالتشبيه مثل الصورة والمشافهة، والتكلم جهراً، والنزول على طور سيناء، والاستواء على العرش، وجواز الرؤية.
وتعرضوا للرجعة أي رجوع بعض الأفراد إلى الحياة بعد الموت، وجاءهم ذلك من أن عزيراً أماته الله مائة عام ثم بعثه. وقالوا إنه مات وسيرجع، وقال بعضهم غاب وسيرجع.
وهذه الأقوال والخلافات كلها تسربت إلى المسلمين عمن أسلم من اليهود، فرأينا المسلمين يبحثون في جواز النسخ في القرآن، كما بحث اليهود في نسخ التوراة.
ويذهب جمهور المسلمين إلى جواز نسخ الحكم دون النص، وإلى أن ذلك وقع فعلا، ويخالف في وقوعه أبو مسلم الأصفهاني. ونرى المسلمين في كتب أصول الفقه عند الكلام على النسخ يناقشون اليهود في رأيهم، يجادلونهم ويردون عليهم. مما يؤيد وجهة نظرنا في أن اليهود هم السبب في إثارة هذه المسألة، ورأينا بعض الشيعة يرى البَداء الذي أنكره اليهود.
وكان مما فعله المفسرون للقرآن الكريم أنهم أخذوا ما في التوراة وشروحها، والأخبار التي رويت حولها، ووضعوها تفسيرًا لآيات القرآن الكريم. وهكذا فعلوا في كل ما ورد في القرآن من قصص وردت في التوراة.
ولم يكن كل هؤلاء اليهود علماء باليهودية مدققين، بل كان منهم عوام يعرفون كما يقول ابن خلدون ما تعرفه العامة من أهل الكتاب، وتساهل المفسرون في مثل ذلك، وملئوا كتب التفسير بهذه المنقولات.
فترى من هذا أن كثيرا من المسائل الكلامية وغيرها، كان منبعها اليهود، وأنها قيلت على مثال ما قالوا. وحق قول رسول الله: "لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم. قلنا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال فمن."
وما زالت هذه الإسرائيليات تكثر وتنمو، حتى امتلأت بها الكتب؛ أمثال قصص الأنبياء للثعلبي"
إنتهى كلام أحمد أمين.
وهكذا فإن ممن أنكر النَّسخَ اليهودُ ، وحجتهم في هذا الإنكار: أن النَّسخ يفيد أن الله تعالى بدا له حكم جديد لم يكن قد بدا له من قبل فيرفع به حكماً قديماً، وهذا البَداء لا يجوز في حقه، وبالتالي فلا وجود للنسخ، وهذا قول باطل، وحجتهم في هذا الإنكار داحضة؛ للفرق البيِّن والواضح بين النَّسخ والبَداء.
فالبَداء: ظهور الشيء بعد خفائه، ومنه يقال: بدا لنا سور المدينة بعد خفائه، وبدا لنا الأمر الفلاني؛ أي: ظهر بعد خفائه، وإليه الإشارة بقوله تعالى: ﴿ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ ﴾ [الزمر: 47]، ﴿ بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ ﴾ [الأنعام: 28]، ﴿ وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا ﴾ [الجاثية: 33].
أما النَّسخ فهو رفع حكم شرعي متقدم بدليل شرعي متأخر عنه، وهو لا يستلزم البداء، كما يزعمه اليهود، بل الله تعالى علِم ما كان، وما سيكون، وما لم يكن كيف إن كان سيكون، فمن أسمائه سبحانه: العليم، ومن صفاته: العلم؛ كما قال تعالى: ﴿ أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 231] وهذه الآية وردت بصيغة من أقوى صيغ العموم؛ فهو سبحانه كما قال عن نفسه: ﴿ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴾ [يونس: 61].
فالله تعالى علم أن الحكم المنسوخ يصلح للعباد مدة معينة، وأن الحكم الناسخ هو الذي يصلح لهم في مدة معينة، الكل معلوم لديه سبحانه.
والبداء -المستلزم للعلم بعد الجهل والظهور بعد الخفاء - إن جاز في حق المخلوق؛ لقصور علمه، وحجب علم الغيب عنه، فكيف يجوز في حق عالم الغيب والشهادة، الذي كمُل في علمه كما كمُل في ذاته وكل صفاته؟!
والإمام ابن حزم رحمه الله تعالى له كتاب شهير تحت عنوان "الإحكام في أصول الأحكام" وهو كتاب في أصول الفقه يعتبر من أهم مراجع كتب أهل السنة والجماعة في أصول الفقه لما فيه من قوة في الأخذ بالدليل, وكعادة ابن حزم قويُّ الحجة والبرهان، والكتاب من أهم وأثبت كتب أصول الفقة الإسلامي، فهو غني بأدلة الكتاب والسنة، بل إنه كتاب حاول فيه ابن حزم إلزام متطرّفي المذهبية بالرجوع للكتاب والسنة والسلف الصالح.
يقول الإمام ابن حزم رحمه الله تعالى في كتابه الشهير :
"فإن قال قائل: ما الفرق بين البَداء والنَّسخ؟
قيل له - وبالله تعالى التوفيق -: الفرق بينهما لائح، وهو أن البَداء أن يأمر بالأمر، والآمِر لا يدري ما يؤول إليه الحال، والنَّسخ: هو أن يأمر بالأمر والآمِر يدري أنه سيحيله في وقت كذا، ولا بد قد سبق ذلك في علمه وحتمه من قضائه،
فلما كان هذان الوجهان معنيينِ متغايرين مختلفين، وجب ضرورة أن يعلق على كل واحد منها اسمٌ يعبَّر به عنه غيرُ اسم الآخر؛ ليقع التفاهم ويلوح الحق؛
فالبَداء ليس من صفات الباري تعالى، ولسنا نعني الباء والدال والألف، وإنما نعني المعنى الذي ذكرنا من أن يأمر بالأمر لا يدري ما عاقبته، فهذا مبعد من الله عز وجل، وسواء سموه نسخًا أو بَداءً أو ما أحبوا، وأما النَّسخ فمن صفات الله تعالى من جهة أفعاله كلها، وهو القضاء بالأمر قد علم أنه سيحيله بعد مدة معلومة عنده عز وجل، كما سبق في علمه تعالى".
إنتهى كلام إبن حزم.
والله أعلم.
"اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا"
كتب هذا المقال وحرره/ عاطف شوشه