السبت، 26 مارس 2022

يحدث في المساء



ما الذي يحدث كل مساء عندما يحل الظلام وتنتشر العتمة في كل مكان ويهبط السواد فيغطي جميع مخلوقات الله ؟

يستيقظ في داخلي كائن غريب. ضخمٌ ضخامة أيامي وسنين حياتي. يضيق المكان من حولي من فرط ضخامته وأصير أنا من فرط ضآلتي ظلاً زاوياً لا يكاد يبين تحت سفح جبل شاهق يناطح السماء وقطرة ماء تائهة وسط بحر محيط لا يحد شطآنه حد. 

يتذكر الكائن كل التفصيلات الدقيقة التي مرت بي في حياتي لا يغادر منها صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها وكأنه ملك حساب تم استدعاؤه من الآخرة.

يتذكر جميع زلاتي وسقطاتي ويذكرني بها ويشرع في تعذيبي على كل ما اقترفته عن قصد أو عن غير قصد. 

يبدأ من نظراتي كم نظرة نظرتها 

ولم أبصرت ؟

يمر بعقلي ويسألني كم فكرة فكرتها 

ولم فكرت ؟

كم من نبرة صوت بأذنيك سمعتها 

ولم أصغيت ؟

كم كلمة تحركت شفتاك و تكلمتها  

ولم تحدثت ؟

كم يداً نحو الآخرين بسطتها

ولم مددت ؟

كم خطوة بلا دليل سرتها 

ولم مشيت ؟

كم مرة عن فعل الخير تكاسلت 

ولم تقاعست ؟

كم مرة عن الجوار تغاضيت 

ولم جبنت ؟

* * * * *

أو لم ننهك عن العالمين

فما انتهيت

قد كنت عطراً نائماً في وردته

لم انسكبت؟

و درّةً مكنونةً في بحرها

لمَ انكشفت ؟

وهل يساوي العالم الذي وهبته دمك

هذا الذي وهبت ؟

* * * * *

تعجزني أسألته حتى يفوت الوقت. 

ولا أجد له جواباً غير الصمت. 

غير أنني كنت أحاول أن أحيا 

كما يحيا البشر ولكنني عجزت.

ولم أعرف في يومٍ من الأيام

لم عجزت.


عاطف شوشه

السبت، 15 يناير 2022

مقام المراقبة

 




عندما توفي الحاج رؤوف ترحمت عليه كثيراً ومازلت أفعل كلما تذكرته.

هو رجل بسيط يعمل في إصلاح هياكل السيارات. وحيداً في ورشته الصغيرة التي تقع في المنطقة الصناعية قريباً من حيث نقيم.

اعتقد جيرانه من أصحاب الحرف المماثلة في بادئ الأمر أنه مسيحي لأن معظم زبائنه الذين كانوا يترددون عليه عندما انتقل إلى جوارهم كانوا من المسيحيين الذين عرفوه عندما كان في ورشته السابقة. حتى أن كان منهم القساوسة الذين يأتون إليه مرتدين مسوحهم السوداء.

ويعلق الحاج رؤوف على ذلك وهو يبتسم :" أنا أعامل كل زبائني بأمانة ولا آخذ منهم إلا الأجر الذي استحقه مقابل ما أديت لهم من عمل لذلك يأتون إلي وقد تبعني الكثيرون منهم عندما انتقلت إلى هنا".

واحتار جيرانه كثيراً وهم مازالت ليست لديهم الجرأة أن يسألوه لأنهم لم يكونوا قد تعرفوا إليه بعد تعجبوا عندما رأوه يرتاد المسجد الصغير في نهاية الشارع ويذهب إليه عندما يسمع الآذان مباشرة تاركاً خلفه ورشته مفتوحة بكل أدواتها و السيارات التي يعمل على إصلاحها ولا يخشى فقدان أي شئ منها وكأنه قد أقام عليها رقيباً خفياً قبل أن يمشي نحو المسجد.

وكان الشاب الذي عرفنا على الحاج رؤوف صديقاً مقرباً من إبني "محمد" وكان الشاب يعتبر الحاج رؤوف والداً روحياً له ومعلماً مخلصاً تفضل عليه بتعليمه كل ما يتعلق بإصلاح السيارات التي هي هوايته المفضلة وكان يحبه كثيراً ويذهب سعيداً للعمل معه في ورشته أيام الإجازات ولم يبخل عليه الحاج رؤوف بالعلم الذي يعلمه. وكان هذا الشاب صديق إبني المقرب له مسيحياً.

كنت أزور الحاج رؤوف في ورشته المتواضعة من حين لآخر فأجده جالساً في صدر ورشته يقرأ القرآن واضعاً مصحفه الكبير فوق حاملٍ حديدي عالٍ يبدو من هيئته أنه صنعه بنفسه من بقايا حديدية توفرت له.

وذات مرة تبادلت معه الحديث حول آية من آيات القرآن فوجدته يحفظ كلماتها بطريقة خاطئة فلم أشأ أن أسبب له الحرج بأن أعدل عليه تلاوته فقلت له أنني لا أتذكر هذه الآية جيداً فأحضر مصحفه ووضعه على الحامل المخصص له وفتحه بيده الخشنة فإذا هو ينفتح أمامه على السورة التي فيها الآية التي ظهرت أمامه عينيه مباشرة بغير بحث ولا عناء وكأن الآية هي التي كانت تبحث عنه ووجدته. هنا عرفت أنه من قارئي القرآن المخلصين الذين يداومون على قراءته بشغف وحب صادقين. إذ أن هذا سر من أسرار القرآن وفتوحاته يُفتح به على أهله ولا يرزقه إلا القليلون.

وحكى لي مرة أن المسجد في الحي حيث يقيم كان في احتياجٍ إلى قفلٍ جديد لبابه فتطوع هو واشتراه على نفقته الخاصة. يومها شكره إمام المسجد ولكنه لامه لأنه اشترى قفلاً غالي الثمن وهو يعرف ضيق حاله في حين أن الرخيص منه كان سيؤدي نفس الغرض لكنه أجابه بأنه لا يبخل على بيت الله بمال الله. ويبتسم الحاج رؤوف مرة أخرى ابتسامته الطيبة وهو يقول: " كان ثمن القفل ثلاثون جنيهاً وفى نفس اليوم رزقني الله بعمل كسبت منه ثلاثمائة جنيهاً. والحسنة بعشر أمثالها".

عرفت وقتها كيف أن هذا الرجل البسيط في مظهره وعمله ومعيشته كان يراقب الله فيما يفعله وكيف يربط أحداث حياته وصلاحها بما يقدمه لنفسه من عمل صالح. وتعلمت منه كيف أراقب الله في كل أفعالي ومعاملاتي وأن أقيم نفسي في مقام المراقبة وأن ما يصيبني ليس إلا نتيجة أعمالي".

وتذكرت قول الفضيل بن عياضٍ رحمه الله تعالى :" أعصي الله فأجد ذلك في خلق دابتي وخلق زوجتي وخادمي".

وتذكرت قول بن عطاء الله السكندري وهو يناجي ربه :" إلـهي إنْ أظهرتَ المحاسنَ مني فَبِفَضْلِكَ ولك المِنَّةُ عليَّ ، وإنْ ظَهَرَتْ المساوئ مني فَبِعَدْلِكَ ولكَ الحجةُ عليَّ ".

رحم الله الحاج رؤوف رحمة واسعة.

عاطف شوشه

زهرة الرضا


 


كنت أشكو كثيراً من جيراننا في الطابق العلوي. 

كنت أجد قشور " بذور دوار الشمس " المتطايرة من شرفتهم تملأ شرفتي كل صباح. 


ولما لم أجد استجابة من الجيران للكف عن هذا الأمر قررت أن  أكف أنا عن الشكوى وأخذت أجمع هذه القشور في صمتٍ كل يوم وبدون تذمر وبنفسٍ راضيةٍ سمحه. 


وفي أحد الأيام وأنا أجمع القشور وجدت بذرة كاملة قد سقطت من الطابق العلوي في الماء الذي نضعه في الشرفة لتشرب منه طيور السماء وقد بدأت هذه البذرة فعلاً في الإنبات. تعجبت كيف أنني لم ألحظ هذه البذرة في الأيام السابقة قبل إنباتها. 


أخذت البذرة وغرستها بغير اكتراثٍ وحيدةً في أصيصٍ صغير وأنا لا آمل كثيراً في أنها سوف تستمر طويلاً في الحياة. 


وبعد أيام قليلة بدأت البذرة الصغيرة تشق التربة السوداء وتخرج من ظلام الأرض إلى نور الله. وأخذت أراقبها كل يوم وأنا أرويها وهى  تكبر بسرعة غير عادية . وسرعان ما ظهرت لها أوراق خضراء نضرة. وطال ساقها يوماً بعد يوم واشتد وزادت أوراقها. 


وتفاجأت ذات يومٍ إذ وجدتها وقد بدأت في الإزهار غير عابئةٍ ببرودة الطقس من حولها وفي غير موسم الإزهار. وبعد عدة أيام تفتحت منها زهرةٌ صفراء جميلة كنت أتمنى دائما أن أحصل يوماً على مثلها بين نباتاتي.

 

الزهرة الجميلة التي تدور مع الشمس المشرقة ما زالت ببهائها تدخل البهجة  والسرور على قلبي كلما نظرت إليها. 


عندما نكف عن الشكوى ونرضى بالقضاء يفاجئنا الله دائماً وعلى غير انتظارٍ بكل ما هو جميلٌ. و يُزهر الرضا غضاً في أرضنا. 



عاطف شوشه


الاثنين، 10 يناير 2022

الطريق إلى الله




 الطريق إلى الله عز وجل طريقان: طريق الإجتباء وطريق الهداية والإنابة. 

والطريقان يبينهما الجزء الأخير من الآية الثالثة عشرة من سورة الشورى. يقول الله :  (الله يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ )

أما طريق الإجتباء فبدايته من عند الله ونهايته عند العبد. والإجتباء لا دخل للعبد به ولا يد له فيه وليس هناك من عمل يمكنه أن يعمله يوصله إلى أن يجتبيه الله جل جلاله فهو وحده الذي يختار من بين خلقه من ينبأه فيصير نبياً من أنبيائه ومن يرسله فيصير رسولاً من رسله ومن يوليه فيصير ولياً من أوليائه.

كان "الجنيد البغدادي" هو وأصحابه في مسجد الشوينزيه في بغداد إذ دخل شيخ من باب المسجد عليه مرقعة فصلى ركعتين ثم أشار إلى الجنيد ليأتي إليه ليكلمه. فلما آتاه قال له: "إن الأجل قد حان فإذا فرغت من أمري فخذ أشيائي هذه وأبقها عندك حتى يأتيك شاب مغني فسلمها له". فسأله الجنيد متعجباً: "ولماذا مغني؟" قال الشيخ: "إن الله قد اختاره لخدمته".

ثم أن الشيخ توفي من وقته فقام الجنيد وأصحابه بأمره حتى واروه التراب. وبعد قليل دخل شاب إلى المسجد وسأل عن الجنيد فأتاه وقال له : " أين أشيائي " فسأله الجنيد : "كيف هذا؟"

قال : "كنت أغني في مكان كذا فجاءني هاتف فقال لي اذهب إلى الجنيد وخذ أشيائك منه". ثم أن الشاب اغتسل ولبس الخرقة وأخذ أشياء الشيخ وخرج من المسجد في اتجاه الشام.

أما طريق " الهدي والإنابة " فبدايته عند العبد بالإنابة ونهايته عند الله بالهدى.

وفي معنى الإنابة قال ابن القيِّم رحمه الله: "الإنابة: الإسراع في مرضاة الله مع الرجوع إليه في كل وقت، وإخلاص العمل له، وقال أيضًا: الإنابة إلى الله إنابتان: الأولى: إنابة إلى ربوبيته وهي إنابة المخلوقات كلها، المؤمن، والكافر، والبر، والفاجر، قَالَ تَعَالَى: ﴿ وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُم مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ ﴾ [الروم: 33]. والثانية: إنابة أوليائه، وهي: إنابة لألوهيته، إنابة عبودية ومحبة، وهي تتضمن أربعة أمور: محبته، والخضوع له، والإقبال عليه، والإعراض عما سواه".

والإنابة بالمعنى القرآني السابق عند بعض الصوفية هي إنابة العوام. أما الإنابة في اصطلاح الصوفية، فهي على معنى  الرجوع  من  مخالفة  الأمر إلى موافقته، فلا يجدك الله تعالى حيث نهاك، ولا يفتقدك حيث أمرك، وقد أورد أحدهم في معناها بعض الأقوال التي تتوافق مع المعنى العام للأصول القرآنية  وأهمها إخراج القلب من ظلمات الشبهات والرجوع من الكل إلى من له الكل والرجوع من الغفلة إلى الذكر، ومن الوحشة إلى الأنس.


فمن أخلص الإنابة إلى الله هداه الله إلى طريقه.


عاطف شوشه




الثلاثاء، 28 ديسمبر 2021

المشهد الأخير




 دائماً ما يكون المشهد الأخير هو الباقي في أذهاننا لأي مكان قد زرناه في فترة سابقة من فترات حياتنا . ويظل اسم هذا المكان لاحقاً مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بهذا المشهد بحيث إذا ذكر الإسم أو حتى طاف بخاطرنا ما يشير إليه يتبادر إلى الذهن تلقائياً هذا المشهد طاغياً على كل ما قد سبقه من مشاهدات كانت قد حدثت في نفس ذات المكان.

وقد لا نتذكر هذا المشهد في كثير من الأحيان ولكنه يكون دائماً حاضراً ومسئولاً مسئولية كاملة عن ردة فعلنا اللاإرادية إذا ذكرنا شيء ما بهذا المكان. إذ يقوم عقلنا اللاواعي باستحضاره دون ترتيب منا لذلك.  فنتفاجأ نحن أنفسنا بما قد يصدر عنا من أقوال أو أفعال قبل أن يتفاجأ بها المحيطون بنا. وتصيبنا الحيرة نحن وهم ونتساءل لماذا تصرفنا بهذه الطريقة المفاجئة السريعة قبل أن نأخذ أي فسحة ممكنة من الوقت للتفكير فيما يجب علينا أن نقوله أو نفعله ويتناسب مع الموقف الآني.

وبالطبع إذا أمكننا أن نتريث قليلاً وأن نأخذ بعض الوقت للتفكير فقد نتذكر بعض المشاهد الأخرى التي حدثت لنا في نفس المكان وتؤثر تأثيراً حتمياً في مشاعرنا فتتحول ردة فعلنا من اللاإرادية إلى الإرادية وتصبح أكثر موضوعية وأقل انفعالية. 

ونحن إذا سلمنا بهذا المنطق في تحليل بعض من ردود أفعالنا فإنه يجب علينا أن نكون أكثر حرصاً وعنايةً واهتماماً بالكيفية التي تتشكل بها هذه المشاهد الأخيرة ويجب علينا كذلك أن نتدخل في تشكيل هذه المشاهد ما أمكننا التدخل حتى يبقى ويستقر في ذاكرة الحاضرين وقبل مغادرتهم  ما نحب فقط أن يتذكروه لاحقاً.

أما إذا لم نستطع التدخل في الوقت المناسب لتشكيل المشهد الأخير حسب إرادتنا فإنه يكون من الصعوبة بمكان أن نغيره في وقت لاحق وهو مع ذلك ليس بالشيء المستحيل. إذ يمكننا أن نرتب للقاءات أخرى تنتهي بمشاهد أكثر ملائمة تمهد لعلاقات مستقبلية أكثر نفعاً وإيجابية بالنسبة لنا. والأمر لا يخلو هنا من المخاطرة فقد يترتب على لقاء تصحيحي مشهد أخير جديد أكثر كارثية عما كنا نأمل أو نود إصلاحه.

وهناك أمثلة كثيرة على تأثير المشهد الأخير على تفكيرنا وأفعالنا. 

نحن دائماً لا نحب أن يغادر أحد عزيز علينا من بيتنا وهو غاضب من أمر ما خشية أن يظل المشهد الأخير له بيننا عالقاً بذهنه فلا يعود لزيارتنا مرة أخرى. والعكس صحيح طبعاً فنحن نتعمد أن نغضب شخصاً ما لا نحبه حتى لا يعود لمقابلتنا مرة ثانية.

وقد تعجبت أنا بيني وبين نفسي عند زرت منزل أحد أقاربنا المتوفين وكنت حاضراً وقت وفاته وكان ذلك بعد عدة شهور من الوفاة ووجدت أهله يتكلمون ويبتسمون ويضحكون بطريقة عادية جداً وكنت أتخيل أنني سأجدهم متجهمين لا يتكلمون إلا قليلاً ولا يبتسمون إلا نادراً ولا يضحكون أبداَ. 

"أهل أبي توقفوا عن زيارتنا بعد وفاته رغم أنهم دائمي الإتصال بنا والإطمئنان على أحوالنا ولكنهم يقولون أنهم لا يستطيعون دخول المنزل وهو ليس موجوداً فيه " هذا ما قالته لي إحدى أقاربنا. قلت لها: " كان يجب عليهم الإكثار من زيارتكم وليس العكس". ولما توفت هي وكنت حاضراً للحظات المؤلمة لخروجها الأخير من منزلها لم أستطع زيارة بيتها حتى الآن.

وفي الدراما يكون المشهد الأخير هاماً جداً لأنه يحدد الإنطباع الذي سوف يخرج به المشاهد في نهاية العمل الدرامي ويجعله يحكم على العمل كله إن كان جيداً أو سيئاً.

المشهد الأخير الوحيد الذي نعلمه مسبقاً قبل وقوعه  هو مشهد القيامة. هذا المشهد الذي وصفه لنا الله عز وجل بكثير من التفاصيل والتشبيهات المجازية ووصفه لنا في معظم آيات القرآن بوضع زمن الأفعال فيه في الزمن الماضي وليس في زمن المستقبل كما هو المتوقع في الإخبار عما هو آت وذلك لنعلم أن الأمر واقع لا محالة وأنه قد تقرر وقوعه من ماضي الزمان وحتى من قبل الزمان.

أحاول الآن أن أحصر المشاهد الأخيرة التي كنت حاضراً فيها وكان بإمكاني وقت حدوثها أن أتدخل لتغييرها للأفضل فأجدها أكثر كثيراً مما كنت أعتقد وأجدها من الرحابة الزمنية حتى أنها تغطي عقوداً من سنين عمري وأتعجب كيف أنني لازلت أتذكرها حتى الآن.

فهل هناك فائدة تذكر إذا حاولت تصحيحها أو على الأقل بعض منها ؟


عاطف شوشه







الأحد، 19 ديسمبر 2021

المُلك لك . . . . المُلك لك

 




" المُلك لك . . . .  المُلك لك " 

 هكذا قالت دون أن تلتفت إليَّ من خلفها.

وأكملت: " هذا ما تقوله اليمامات فوق السطوح. تسبح بحمد ربها. "

سكتت هي وعم السكون حولنا إلا من صوت خطواتنا ونحن نصعد على مهل السلم المؤدي إلى سطح البيت. وأنا قد بدأت أصغي باهتمام بالغ إلى الهديل الرخيم الحزين الآتي من أعلى والذي يمس شيئاً في القلب وسط هذا السكون يجعلك لا تمل أبداً من الإصغاء إليه.


أكملت " فوقيه " صعودها إلى السطح وأنا أصعد خلفها. كانت ممتلئة القوام إلى حد ما , لها بشرة بيضاء نضرة , ذات طبيعة باسمة محببة. يصفها كل من يعرفها بأنها جميلة وودودة إلى حد كبير. وكنت أنا أرقبها بخجل شديد فلقد كانت هذه هي المرة الأولى التي أراها فيها وأذكر أنها كانت أيضاً المرة الأخيرة. وكان عمري حينها لم يتجاوز ستة أعوام وربما أقل من ذلك.


في هذا المنزل الريفي البسيط شديد الترتيب بالغ النظافة والهدوء كان يسكن عمي الأصغر في مدينة رشيد على ضفة نهر النيل مباشرة. وكان عمي شديد الحب والتعلق بزوجته " أبله فوقيه " وكانت هي تبادله نفس الحب والعشق. لم يفكر عمي يوماً في التخلي عن زوجته كما أشار عليه الكثيرون لأنها لا تنجب أطفالاً يكسرون حدة هذا الهدوء الذي يعم المنزل بل كان يرفض مجرد التفكير في هذا الأمر رفضاً تاماً.


كان والدي قد صحبني لزيارة بيت عمي في مدينة رشيد إذ كان والدي هو الآخر ودوداً يحب زيارة أقاربه كلما واتته الفرصة لذلك. هكذا تصفه والدتي دائماً. 


لا أذكر شيئاً من مدينة رشيد سوى بيت عمي فمدينة رشيد بالنسبة لي هي هذا البيت الريفي الرابض بهدوء على ضفة النهر وهذا البيت هو بالنسبة لي مدينة رشيد. حتى أنني عندما قرأت بعد ذلك في كتب التاريخ عن أسر ملك فرنسا وهو يحاول الاستيلاء على المدينة واحتجازه في أحد بيوتها كنت أتخيل هذا البيت الذي سجن فيه أنه هو بيت عمي وأن السفن الغازية بجنودها وعتادها كانت ترسو على ضفة النهر أمام بيت عمي.


لا أتذكر أنني رأيت عمي بعد ذلك ولكنني كنت أعلم أنه قضى طويلاً من عمره وهو لا يزل مصراً على موقفه من التمسك بأبله فوقيه رافضاً التخلي عنها أو الزواج بأخرى.


وحدث أن توفي والدي وأنا في سن العاشرة من عمري ودفن في بلدته الصغيرة حسب وصيته. ولا زلت أذكر أنه كان يقول : " المقابر في قريتنا قريبة من المنازل يمر بها المزارعون وهم في طريقهم إلى الحقول صباحاً ومساءاً فيتذكرون موتاهم ويترحمون عليهم ويقرأون لهم الفاتحة". وكان يقول مقولته هذه عن اقتناع تام وكانت سبباً في وصيته. لم نذهب يوماً لزيارة قبر أبي للترحم عليه لبعد المسافة ولصغر سننا حتى أننا لم نفعل بعد أن كبرنا وكأننا قد وكلنا أهل بلدته ليفعلوا ذلك بدلاً منا.


ولسبب لم أعلمه ولا زلت أجهله قاطعتنا عائلة أبي كلها بعد وفاته ولم يحاول أحد منهم زيارتنا أو معرفة أحوالنا أو كيف تسير أمورنا بعد أن فقدنا العائل الوحيد لنا حتى أننا قد نسينا ملامح وجوههم التي وإن تذكرنا بعضها نتذكره وكأنها تأتي من زمان ومكان بعيدين أوكأنها تأتي من ماضٍ بعيد.


علم عمي بوجودي في الإسكندرية لقضاء إجازة قصيرة مع عائلتي وكنت قد تزوجت ورزقت بطفلين. وكان عمي قد انتقل للإقامة في الإسكندرية شأنه شأن كل عائلة والدي. اتصل بي عمي وطلب مني أن يراني وأن ننسى الماضي وكل تفاصيله المؤلمة وما كان من قطيعة استمرت عقوداً من العمر. وأجبته بأنني سأزوره قطعاً قبل مغادرتي الإسكندرية. وكنت أعلم أنه مريض جداً منذ فترة ليست بالقصيرة.


شغلني أمر الزيارة قليلاً لكنني قررت سريعاً ألا أفعل وشعرت براحة ما عندما أتخذت هذا القرار بيني وبين نفسي. لم أستطع أن أهدم جداراً أقامته الأعوام الطوال أو حتى أن أفتح فيه كوة أنفذ منها. والحقيقة هي أنني لم أحاول لأنني لم أجد في نفسي الرغبة لفعل ذلك.

وكأنني كنت من القسوة حتى أنني أردت أن أحرمه من رؤيتي وأحرمه أيضاً من محاولة التكفير عن ذنب القطيعة من جانبه بغير سبب يذكر من جانبنا. وكأنني أردته أن يعاني ولو لفترة قصيرة في الكبر ما عانيته أنا طويلاُ في الصغر. فلم أشعر برغبة في مسامحته بعد هذه السنين الطويلة.


وتوفي عمي بعدها ولم أشعر أيضاً أبداً بالندم على عدم رؤيته عندما كانت هناك فرصة أخيرة لذلك. كان أن انكسر شيء ما في داخلي منذ كنت طفلاً عندما كنت أذكر عائلة أبي ولا أدري لماذا لا أراهم. شيء لا أعرفه ولكنه ظل شيئاً غير قابل للترميم أو للإصلاح.


ما زلت كلما سمعت اليمامات تهدل بصوتها الرخيم العذب على سور شرفتي أذكر هذا السلم البسيط المؤدي إلى سطح ذلك البيت الريفي الهادئ الحالم يغفو في سكون على ضفة النيل في مدينة رشيد الجميلة. 

 وأذكر أن القلوب بيد الرحمن يقلبها كيفما يشاء.

سبحانك ربي 

المُلك لك 

المُلك لك.



عاطف شوشه


الجمعة، 27 أغسطس 2021

كلام في العلم

 



تنقسم العلوم بصفة عامة إلى قسمين علوم ظاهرية وأخرى باطنية.


والعلوم الظاهرية هي ما يُتداول في دور العلم بين  المعلمين  والتلاميذ وهى مرادفة للعقل ومن يَعلمها يُدعى "عالماً".

والعلوم الظاهرية تصلح لك الدنيا


والعلوم الباطنية هي ما يُتداول من علم خاص بين الشيوخ ومريديهم وهى مرادفة للمعرفة ومن يَعلمها يُدعى "عارفاً ". 

والعلوم الباطنية تصلح لك الآخرة


والعلوم الظاهرية من وجهة نظري أربعة أنواع من حيث الإنتفاع بها:


علم نافع 

وهو على ثلاثة أنواع:

الأول: علم ينفع صاحبه فقط كعلمه كيف يسير أموره الشخصية بما يتناسب مع ظروفه التي لا يعلمها إلا هو. وكذلك علمه بحال منزله وزوجته وأولاده.

وقد قيل أيضاً أن هناك ثلاثة أشياء لا يجب أن تتحدث عنها: "ذهبك وذهابك ومذهبك". وهى نصيحة لك أن تقصر علم هذه الأشياء على نفسك فلن ينتفع به إلا أنت.

الثاني: علم ينفع الآخرين فقط كعلم المعلم الذي يعلمه لتلاميذه فهذا العلم ينفع التلاميذ ولا ينتفع به المعلم لبداءته إذ هو يعلم فوقه الكثير ولكنه يبدي لهم ما يتناسب فقط مع قدر عقولهم. 

أو كعلم الموظف بكيفية إنهاء معاملة ما في مكان عمله فيفيد الآخرين بذلك ولا يستفيد هو منه.

الثالث: علم ينفع صاحبه والآخرين وهذا النوع هو علم أصحاب الحرف كالمهندسين والأطباء والبنائين والمحاسبين والمحامين غيرهم.


علم ضار

يضر صاحبه ويضر الآخرين. مثل علوم السحر والشعوذة واستحضار الجن والشياطين وغيرها مما هو ظاهر ضرره من العلوم المستحدثة مثل علم استنساخ الأجنة البشرية أو المخلوقات الأخرى.

والبعض يرى أن كل علم لا يقربك من الله ولا ينفعك في آخرتك هو علم ضار عليك لأنه يحجبك عن الحق سبحانه وتعالى. ويدخل في هذا النطاق عند السادة الصوفية كل العلوم الظاهرية.


علم لا ينفع وجهل به لا يضر 

كعلم ماذا كان يأكل أهل الصين في العصور البائدة. 

أو بأي لغة خاطب الله عز وجل نبيه موسى عليه السلام عند جبل الطور المقدس.


علم ينتقص ويقلل من صاحبه

كمن عنده علم بالخمور والمسكرات وأنواعها وكيفية مزجها وأوقات تناول كل منها ومع أي نوع من الأطعمة يفضل تقديمها وأنواع الآنية التي تشرب كل منها فيها. 

أو علمه بالمواد المخدرة وأين تباع وأين تشترى وقيمة كل منها المادية وكيفية تحضيرها لتعاطيها ومالها من آثار مختلفة على الجسد والعقل والحواس.

أو من يعلم بأماكن تواجد الساقطات من النساء وكيفية التعامل معهن وأسعار الخدمات التي يقدمنها وما إلى ذلك مما يختص بدور الفجور والفسق وأهلها.


وقد يكون السبب في تعلم أيٍ من هذه العلوم السابقة على اختلاف نفعها إما عن قصد للفائدة وإما يكون عن طريق الصدفة أي عن غير قصد مطلقاً أو للحاجة المؤقتة فقط أو بسبب الفضول ليس إلا.


والتعامل مع كل نوع من هذه العلوم يجب أن يكون بحذر شديد وأن يكون عن تفكير وتدبر.


فالعلم النافع يُعلم لمن يستحق فقط أن يتعلمه ويسعى إلى ذلك بشتى الطرق بشغف وإقبال وأن يُبذل الجهد في ذلك. أما من لا يريد التعلم ويختلق من الأسباب ما يدعي بأنها تمنعه من التعلم فيجب ألا يُبذل الجهد مطلقاً في تعليمه.


والعلم الضار يجب ألا يقوم صاحبه بتعليمه لأحد بل يجب عليه صد كل من يحاول تعلمه ما استطاع إلى ذلك سبيلا. وكذلك العلم الذي لا ينفع لا يجب بذل الوقت في تعليمه أو تعلمه.


والعلم الذي يقلل من شأن صاحبه يجب مداراته تماماً بل وإظهار الجهل به إذا تطرق الحديث إليه في مجلس من المجالس هو حاضر فيه بل والتعفف عن سماعه وإظهار التبرم منه. 

وإذا كان لابد سامعه فليظهر من الدهشة والتعجب ما يوحي إلى من حوله بأنه لم يسمع بمثل هذا العلم من قبل ويدعي الجهل به تماماً وإن كان يعرفه حق المعرفة. 

ويتساوى في ذلك ما إذا كان المجلس مجلس جد أو هزل فالأمر لا يرجع إلى نوع المجلس وإنما يرجع إلى صورته التي يجب أن يحافظ عليها أمام الآخرين لكي يحظى باحترامهم الدائم له وقد يكون بعض الحاضرين في مجالس الهزل حاضرين أيضاً في مجالس الجد فيجب أن يكون لك وجها واحداً تظهر به بين الناس وإلا افتضحت ووصفت بالنفاق. 

وإظهار المعرفة بهذا العلم ليس مما يتفاخر به أهل الفضل بل هو يقلل من شأن صاحبه إذ يترك انطباعا دائماً بأنه ممن يتصفون بالسفاهة لأنهم يضيعون أوقاتهم في تعلم ما لا فائدة ترجى منه. 

كما أنه قد يتسبب في الشك فيما يكون له من أخلاق حميدة إذ يظل دائماً هناك احتمال قائم بأن هذا العلم الذي حصله هو "علم معاين" أي علم من اختبر الشيء وعاينه وجربه بنفسه وقد يكون استساغه أو مازال يمارسه.




اللهم انفعنا بما علمتنا وعلمنا ما ينفعنا.


عاطف شوشه