الثلاثاء، 28 ديسمبر 2021

المشهد الأخير




 دائماً ما يكون المشهد الأخير هو الباقي في أذهاننا لأي مكان قد زرناه في فترة سابقة من فترات حياتنا . ويظل اسم هذا المكان لاحقاً مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بهذا المشهد بحيث إذا ذكر الإسم أو حتى طاف بخاطرنا ما يشير إليه يتبادر إلى الذهن تلقائياً هذا المشهد طاغياً على كل ما قد سبقه من مشاهدات كانت قد حدثت في نفس ذات المكان.

وقد لا نتذكر هذا المشهد في كثير من الأحيان ولكنه يكون دائماً حاضراً ومسئولاً مسئولية كاملة عن ردة فعلنا اللاإرادية إذا ذكرنا شيء ما بهذا المكان. إذ يقوم عقلنا اللاواعي باستحضاره دون ترتيب منا لذلك.  فنتفاجأ نحن أنفسنا بما قد يصدر عنا من أقوال أو أفعال قبل أن يتفاجأ بها المحيطون بنا. وتصيبنا الحيرة نحن وهم ونتساءل لماذا تصرفنا بهذه الطريقة المفاجئة السريعة قبل أن نأخذ أي فسحة ممكنة من الوقت للتفكير فيما يجب علينا أن نقوله أو نفعله ويتناسب مع الموقف الآني.

وبالطبع إذا أمكننا أن نتريث قليلاً وأن نأخذ بعض الوقت للتفكير فقد نتذكر بعض المشاهد الأخرى التي حدثت لنا في نفس المكان وتؤثر تأثيراً حتمياً في مشاعرنا فتتحول ردة فعلنا من اللاإرادية إلى الإرادية وتصبح أكثر موضوعية وأقل انفعالية. 

ونحن إذا سلمنا بهذا المنطق في تحليل بعض من ردود أفعالنا فإنه يجب علينا أن نكون أكثر حرصاً وعنايةً واهتماماً بالكيفية التي تتشكل بها هذه المشاهد الأخيرة ويجب علينا كذلك أن نتدخل في تشكيل هذه المشاهد ما أمكننا التدخل حتى يبقى ويستقر في ذاكرة الحاضرين وقبل مغادرتهم  ما نحب فقط أن يتذكروه لاحقاً.

أما إذا لم نستطع التدخل في الوقت المناسب لتشكيل المشهد الأخير حسب إرادتنا فإنه يكون من الصعوبة بمكان أن نغيره في وقت لاحق وهو مع ذلك ليس بالشيء المستحيل. إذ يمكننا أن نرتب للقاءات أخرى تنتهي بمشاهد أكثر ملائمة تمهد لعلاقات مستقبلية أكثر نفعاً وإيجابية بالنسبة لنا. والأمر لا يخلو هنا من المخاطرة فقد يترتب على لقاء تصحيحي مشهد أخير جديد أكثر كارثية عما كنا نأمل أو نود إصلاحه.

وهناك أمثلة كثيرة على تأثير المشهد الأخير على تفكيرنا وأفعالنا. 

نحن دائماً لا نحب أن يغادر أحد عزيز علينا من بيتنا وهو غاضب من أمر ما خشية أن يظل المشهد الأخير له بيننا عالقاً بذهنه فلا يعود لزيارتنا مرة أخرى. والعكس صحيح طبعاً فنحن نتعمد أن نغضب شخصاً ما لا نحبه حتى لا يعود لمقابلتنا مرة ثانية.

وقد تعجبت أنا بيني وبين نفسي عند زرت منزل أحد أقاربنا المتوفين وكنت حاضراً وقت وفاته وكان ذلك بعد عدة شهور من الوفاة ووجدت أهله يتكلمون ويبتسمون ويضحكون بطريقة عادية جداً وكنت أتخيل أنني سأجدهم متجهمين لا يتكلمون إلا قليلاً ولا يبتسمون إلا نادراً ولا يضحكون أبداَ. 

"أهل أبي توقفوا عن زيارتنا بعد وفاته رغم أنهم دائمي الإتصال بنا والإطمئنان على أحوالنا ولكنهم يقولون أنهم لا يستطيعون دخول المنزل وهو ليس موجوداً فيه " هذا ما قالته لي إحدى أقاربنا. قلت لها: " كان يجب عليهم الإكثار من زيارتكم وليس العكس". ولما توفت هي وكنت حاضراً للحظات المؤلمة لخروجها الأخير من منزلها لم أستطع زيارة بيتها حتى الآن.

وفي الدراما يكون المشهد الأخير هاماً جداً لأنه يحدد الإنطباع الذي سوف يخرج به المشاهد في نهاية العمل الدرامي ويجعله يحكم على العمل كله إن كان جيداً أو سيئاً.

المشهد الأخير الوحيد الذي نعلمه مسبقاً قبل وقوعه  هو مشهد القيامة. هذا المشهد الذي وصفه لنا الله عز وجل بكثير من التفاصيل والتشبيهات المجازية ووصفه لنا في معظم آيات القرآن بوضع زمن الأفعال فيه في الزمن الماضي وليس في زمن المستقبل كما هو المتوقع في الإخبار عما هو آت وذلك لنعلم أن الأمر واقع لا محالة وأنه قد تقرر وقوعه من ماضي الزمان وحتى من قبل الزمان.

أحاول الآن أن أحصر المشاهد الأخيرة التي كنت حاضراً فيها وكان بإمكاني وقت حدوثها أن أتدخل لتغييرها للأفضل فأجدها أكثر كثيراً مما كنت أعتقد وأجدها من الرحابة الزمنية حتى أنها تغطي عقوداً من سنين عمري وأتعجب كيف أنني لازلت أتذكرها حتى الآن.

فهل هناك فائدة تذكر إذا حاولت تصحيحها أو على الأقل بعض منها ؟


عاطف شوشه







الأحد، 19 ديسمبر 2021

المُلك لك . . . . المُلك لك

 




" المُلك لك . . . .  المُلك لك " 

 هكذا قالت دون أن تلتفت إليَّ من خلفها.

وأكملت: " هذا ما تقوله اليمامات فوق السطوح. تسبح بحمد ربها. "

سكتت هي وعم السكون حولنا إلا من صوت خطواتنا ونحن نصعد على مهل السلم المؤدي إلى سطح البيت. وأنا قد بدأت أصغي باهتمام بالغ إلى الهديل الرخيم الحزين الآتي من أعلى والذي يمس شيئاً في القلب وسط هذا السكون يجعلك لا تمل أبداً من الإصغاء إليه.


أكملت " فوقيه " صعودها إلى السطح وأنا أصعد خلفها. كانت ممتلئة القوام إلى حد ما , لها بشرة بيضاء نضرة , ذات طبيعة باسمة محببة. يصفها كل من يعرفها بأنها جميلة وودودة إلى حد كبير. وكنت أنا أرقبها بخجل شديد فلقد كانت هذه هي المرة الأولى التي أراها فيها وأذكر أنها كانت أيضاً المرة الأخيرة. وكان عمري حينها لم يتجاوز ستة أعوام وربما أقل من ذلك.


في هذا المنزل الريفي البسيط شديد الترتيب بالغ النظافة والهدوء كان يسكن عمي الأصغر في مدينة رشيد على ضفة نهر النيل مباشرة. وكان عمي شديد الحب والتعلق بزوجته " أبله فوقيه " وكانت هي تبادله نفس الحب والعشق. لم يفكر عمي يوماً في التخلي عن زوجته كما أشار عليه الكثيرون لأنها لا تنجب أطفالاً يكسرون حدة هذا الهدوء الذي يعم المنزل بل كان يرفض مجرد التفكير في هذا الأمر رفضاً تاماً.


كان والدي قد صحبني لزيارة بيت عمي في مدينة رشيد إذ كان والدي هو الآخر ودوداً يحب زيارة أقاربه كلما واتته الفرصة لذلك. هكذا تصفه والدتي دائماً. 


لا أذكر شيئاً من مدينة رشيد سوى بيت عمي فمدينة رشيد بالنسبة لي هي هذا البيت الريفي الرابض بهدوء على ضفة النهر وهذا البيت هو بالنسبة لي مدينة رشيد. حتى أنني عندما قرأت بعد ذلك في كتب التاريخ عن أسر ملك فرنسا وهو يحاول الاستيلاء على المدينة واحتجازه في أحد بيوتها كنت أتخيل هذا البيت الذي سجن فيه أنه هو بيت عمي وأن السفن الغازية بجنودها وعتادها كانت ترسو على ضفة النهر أمام بيت عمي.


لا أتذكر أنني رأيت عمي بعد ذلك ولكنني كنت أعلم أنه قضى طويلاً من عمره وهو لا يزل مصراً على موقفه من التمسك بأبله فوقيه رافضاً التخلي عنها أو الزواج بأخرى.


وحدث أن توفي والدي وأنا في سن العاشرة من عمري ودفن في بلدته الصغيرة حسب وصيته. ولا زلت أذكر أنه كان يقول : " المقابر في قريتنا قريبة من المنازل يمر بها المزارعون وهم في طريقهم إلى الحقول صباحاً ومساءاً فيتذكرون موتاهم ويترحمون عليهم ويقرأون لهم الفاتحة". وكان يقول مقولته هذه عن اقتناع تام وكانت سبباً في وصيته. لم نذهب يوماً لزيارة قبر أبي للترحم عليه لبعد المسافة ولصغر سننا حتى أننا لم نفعل بعد أن كبرنا وكأننا قد وكلنا أهل بلدته ليفعلوا ذلك بدلاً منا.


ولسبب لم أعلمه ولا زلت أجهله قاطعتنا عائلة أبي كلها بعد وفاته ولم يحاول أحد منهم زيارتنا أو معرفة أحوالنا أو كيف تسير أمورنا بعد أن فقدنا العائل الوحيد لنا حتى أننا قد نسينا ملامح وجوههم التي وإن تذكرنا بعضها نتذكره وكأنها تأتي من زمان ومكان بعيدين أوكأنها تأتي من ماضٍ بعيد.


علم عمي بوجودي في الإسكندرية لقضاء إجازة قصيرة مع عائلتي وكنت قد تزوجت ورزقت بطفلين. وكان عمي قد انتقل للإقامة في الإسكندرية شأنه شأن كل عائلة والدي. اتصل بي عمي وطلب مني أن يراني وأن ننسى الماضي وكل تفاصيله المؤلمة وما كان من قطيعة استمرت عقوداً من العمر. وأجبته بأنني سأزوره قطعاً قبل مغادرتي الإسكندرية. وكنت أعلم أنه مريض جداً منذ فترة ليست بالقصيرة.


شغلني أمر الزيارة قليلاً لكنني قررت سريعاً ألا أفعل وشعرت براحة ما عندما أتخذت هذا القرار بيني وبين نفسي. لم أستطع أن أهدم جداراً أقامته الأعوام الطوال أو حتى أن أفتح فيه كوة أنفذ منها. والحقيقة هي أنني لم أحاول لأنني لم أجد في نفسي الرغبة لفعل ذلك.

وكأنني كنت من القسوة حتى أنني أردت أن أحرمه من رؤيتي وأحرمه أيضاً من محاولة التكفير عن ذنب القطيعة من جانبه بغير سبب يذكر من جانبنا. وكأنني أردته أن يعاني ولو لفترة قصيرة في الكبر ما عانيته أنا طويلاُ في الصغر. فلم أشعر برغبة في مسامحته بعد هذه السنين الطويلة.


وتوفي عمي بعدها ولم أشعر أيضاً أبداً بالندم على عدم رؤيته عندما كانت هناك فرصة أخيرة لذلك. كان أن انكسر شيء ما في داخلي منذ كنت طفلاً عندما كنت أذكر عائلة أبي ولا أدري لماذا لا أراهم. شيء لا أعرفه ولكنه ظل شيئاً غير قابل للترميم أو للإصلاح.


ما زلت كلما سمعت اليمامات تهدل بصوتها الرخيم العذب على سور شرفتي أذكر هذا السلم البسيط المؤدي إلى سطح ذلك البيت الريفي الهادئ الحالم يغفو في سكون على ضفة النيل في مدينة رشيد الجميلة. 

 وأذكر أن القلوب بيد الرحمن يقلبها كيفما يشاء.

سبحانك ربي 

المُلك لك 

المُلك لك.



عاطف شوشه