دائماً ما يكون المشهد الأخير هو الباقي في أذهاننا لأي مكان قد زرناه في فترة سابقة من فترات حياتنا . ويظل اسم هذا المكان لاحقاً مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بهذا المشهد بحيث إذا ذكر الإسم أو حتى طاف بخاطرنا ما يشير إليه يتبادر إلى الذهن تلقائياً هذا المشهد طاغياً على كل ما قد سبقه من مشاهدات كانت قد حدثت في نفس ذات المكان.
وقد لا نتذكر هذا المشهد في كثير من الأحيان ولكنه يكون دائماً حاضراً ومسئولاً مسئولية كاملة عن ردة فعلنا اللاإرادية إذا ذكرنا شيء ما بهذا المكان. إذ يقوم عقلنا اللاواعي باستحضاره دون ترتيب منا لذلك. فنتفاجأ نحن أنفسنا بما قد يصدر عنا من أقوال أو أفعال قبل أن يتفاجأ بها المحيطون بنا. وتصيبنا الحيرة نحن وهم ونتساءل لماذا تصرفنا بهذه الطريقة المفاجئة السريعة قبل أن نأخذ أي فسحة ممكنة من الوقت للتفكير فيما يجب علينا أن نقوله أو نفعله ويتناسب مع الموقف الآني.
وبالطبع إذا أمكننا أن نتريث قليلاً وأن نأخذ بعض الوقت للتفكير فقد نتذكر بعض المشاهد الأخرى التي حدثت لنا في نفس المكان وتؤثر تأثيراً حتمياً في مشاعرنا فتتحول ردة فعلنا من اللاإرادية إلى الإرادية وتصبح أكثر موضوعية وأقل انفعالية.
ونحن إذا سلمنا بهذا المنطق في تحليل بعض من ردود أفعالنا فإنه يجب علينا أن نكون أكثر حرصاً وعنايةً واهتماماً بالكيفية التي تتشكل بها هذه المشاهد الأخيرة ويجب علينا كذلك أن نتدخل في تشكيل هذه المشاهد ما أمكننا التدخل حتى يبقى ويستقر في ذاكرة الحاضرين وقبل مغادرتهم ما نحب فقط أن يتذكروه لاحقاً.
أما إذا لم نستطع التدخل في الوقت المناسب لتشكيل المشهد الأخير حسب إرادتنا فإنه يكون من الصعوبة بمكان أن نغيره في وقت لاحق وهو مع ذلك ليس بالشيء المستحيل. إذ يمكننا أن نرتب للقاءات أخرى تنتهي بمشاهد أكثر ملائمة تمهد لعلاقات مستقبلية أكثر نفعاً وإيجابية بالنسبة لنا. والأمر لا يخلو هنا من المخاطرة فقد يترتب على لقاء تصحيحي مشهد أخير جديد أكثر كارثية عما كنا نأمل أو نود إصلاحه.
وهناك أمثلة كثيرة على تأثير المشهد الأخير على تفكيرنا وأفعالنا.
نحن دائماً لا نحب أن يغادر أحد عزيز علينا من بيتنا وهو غاضب من أمر ما خشية أن يظل المشهد الأخير له بيننا عالقاً بذهنه فلا يعود لزيارتنا مرة أخرى. والعكس صحيح طبعاً فنحن نتعمد أن نغضب شخصاً ما لا نحبه حتى لا يعود لمقابلتنا مرة ثانية.
وقد تعجبت أنا بيني وبين نفسي عند زرت منزل أحد أقاربنا المتوفين وكنت حاضراً وقت وفاته وكان ذلك بعد عدة شهور من الوفاة ووجدت أهله يتكلمون ويبتسمون ويضحكون بطريقة عادية جداً وكنت أتخيل أنني سأجدهم متجهمين لا يتكلمون إلا قليلاً ولا يبتسمون إلا نادراً ولا يضحكون أبداَ.
"أهل أبي توقفوا عن زيارتنا بعد وفاته رغم أنهم دائمي الإتصال بنا والإطمئنان على أحوالنا ولكنهم يقولون أنهم لا يستطيعون دخول المنزل وهو ليس موجوداً فيه " هذا ما قالته لي إحدى أقاربنا. قلت لها: " كان يجب عليهم الإكثار من زيارتكم وليس العكس". ولما توفت هي وكنت حاضراً للحظات المؤلمة لخروجها الأخير من منزلها لم أستطع زيارة بيتها حتى الآن.
وفي الدراما يكون المشهد الأخير هاماً جداً لأنه يحدد الإنطباع الذي سوف يخرج به المشاهد في نهاية العمل الدرامي ويجعله يحكم على العمل كله إن كان جيداً أو سيئاً.
المشهد الأخير الوحيد الذي نعلمه مسبقاً قبل وقوعه هو مشهد القيامة. هذا المشهد الذي وصفه لنا الله عز وجل بكثير من التفاصيل والتشبيهات المجازية ووصفه لنا في معظم آيات القرآن بوضع زمن الأفعال فيه في الزمن الماضي وليس في زمن المستقبل كما هو المتوقع في الإخبار عما هو آت وذلك لنعلم أن الأمر واقع لا محالة وأنه قد تقرر وقوعه من ماضي الزمان وحتى من قبل الزمان.
أحاول الآن أن أحصر المشاهد الأخيرة التي كنت حاضراً فيها وكان بإمكاني وقت حدوثها أن أتدخل لتغييرها للأفضل فأجدها أكثر كثيراً مما كنت أعتقد وأجدها من الرحابة الزمنية حتى أنها تغطي عقوداً من سنين عمري وأتعجب كيف أنني لازلت أتذكرها حتى الآن.
فهل هناك فائدة تذكر إذا حاولت تصحيحها أو على الأقل بعض منها ؟
عاطف شوشه