السبت، 20 أغسطس 2016

القاهرة وشوارعها


عندما توقف بسيارته السوداء أمامي مباشرة تحت الكوبري نظر إلي نظرة حادة ثاقبة وأشار إلي فركبت معه على الفور دون أدنى مقاومة.

كنت فقط أحاول أن أصل ما انقطع منذ زمن بعيد. شوارع القاهرة وحواريها ودكاكينها وقاطنيها. عندما كنت أعود لقضاء إجازاتي في القاهرة كنت دائما أستعمل السيارة ولا أمشي كثيراً على قدمي ولا أركب المواصلات العامة مما أفقدني الكثير من الإحساس بالموجودات. 


عندما تمشي ترى وتسمع وتشم وتحس ما لا يمكنك أن تراه أوتسمعه أوتشمه أوتحسه وأنت راكب. 
تشم رائحة الحدائق المروية منذ وقت قليل. تشم رائحة الأشجار وأنت تمر من تحت أغصانها وخاصة أشجار الكافور الشاهقة التي تملأ شوارع القاهرة ولا يلتفت إليها أحد. أتحسس اللحاء الذي يغطي الجذوع الضخمة لهذه الأشجار أعتذر إليها وأواسيها على هذا الإهمال الغير متعمد ممن يمر بها من سكان القاهرة الغاضبين دوماً والمشحوذين دائماً بلا سبب واضح. أحن كثيراً إلى رائحة أوراقها المدببة الجافة وهي تحترق عندما كنا نلقي بها في النار التي كنا نشعلها للسمر الليلي في معسكرات الكشافة. 

أشجار البنسيان أيضاً تملأ شوارع القاهرة بخضرة أوراقها الصغيرة الداكنة والتي تورق و تزهر في الربيع  بسرعة ملحوظة وتتساقط زهورها البرتقالية والحمراء الجميلة لتكسو الأرض تحتها بلون بديع. 


أسمع أصوات العصافير واليمام  فوق الأغصان أبطئ قليلاً من خطواتي حتى أرى هذا المغرد الصغير يقفز من غصن إلى غصن جزلاً لايعكر صفو غنائه شئ. 


أشجار التين البنغالي لازالت موجودة في أماكن كثيرة من أحياء القاهرة ويمتد لحاؤها من فروعها إلى الأرض في حنين دائم حتى تلامسها وتتجذر فيها.



أشجار الفيكس والنخيل و الزنزلخت من الأشجار المتواجدة بكثرة أيضاً في شوارع القاهرة.

عندما تمشي تقترب من كل الأشياء تراها على حقيقتها. الفراغات بين بلاط الأرصفة. التشققات في أسفلت الشارع. أسوار البنايات العالية والمنخفضة وما كتب عليها من تعليقات كتبها أناس مجهولون. الأبوب بأنواعها وأشكالها المختلفة المتباينة. الزهور الصغيرة التي تنمو وسط الحشائش في الحدائق بألوانها الزاهية. أسراب النمل تسعى من جحورها طالبة رزقها الذي قدره الله لها.الخنافس السوداء البطيئة الحركة تسعى أيضاً في طريق لا يعلم وجهته أحد. حشرات أبو العيد بأجنحتها البرتقالية ذات البقع السوداء. بعض السحالي الملونة تمر من أمامك بسرعة في الحدائق قبل أن تلحظها. إبن عرس يظهر أمامك فجأة يقفز من ناحية في الطريق ليختفي بسرعة في الناحية الأخرى. خطواته السريعة المتقاربة ونظراته المترقبة الخائفة من المارة تبعث دائما على الإبتسام.



أتذكر عندما كنت  أسير من بيتنا في العباسية حتى أصل إلى ميدان الأوبرا ماراً بمنطقة الضاهر وباب الشعرية. ومن ميدان الأوبرا إلى قلب القاهرة. حديقة الأزبكية وسورها الملئ بأكشاك خشبية تبيع كل أنواع الكتب. 



شارع فؤاد وممر الكونتيننتال. هاجوبيان الأرمني بائع الطوابع التذكارية. سينما مترو وأفلام الكرتون التي كانت تعرضها صباح أيام الجمعة. سينما ريفولي وحفلات أم كلثوم التي كانت تبث منها. محلات البن البرازيلي وجروبي والأمريكين وإكسلسيور. دار المعارف ودار الشروق ومكتبة مدبولي.





أتذكر أيضا عندما كنت أسير في الإتجاه الآخر قاصداً ميدان روكسي. أمر من نفق العباسية إلى شارع الخليفة المأمون. إسم الشارع يعود بي إلى تاريخ عريق. مباني جامعة عين شمس وقصر الزعفران. كوبري القبة حيث مدفن الرئيس جمال. ومن منشية البكري إلى روكسي. مصر الجديدة ينساب فيها المترو طولاً وعرضاً. لها طابع خاص بشوارعها ومبانيها والمحال تحت الأرشات (الأركادز) التي تحمي المارة من الشمس والمطر تذكرني بمدينة "برن" السويسرية.



كنا نخرج من مبنى نقابة المهندسين نمشي إلى قهوة أم كلثوم في أول شارع عماد الدين يتلقانا عم محسن خازن القهوة متهللاً ويهيئ لنا مكاناً متميزاً للجلوس وشرب الشاي والشيشه ولعب الدومينو والطاوله ونحن نستمتع بعذوبة أغاني أم كلثوم التي شكلت معظم وجداننا العاطفي. تغلق القهوة بعد منتصف الليل. نحن دائماً آخر المغادرين. البرد قارس جداً في الخارج. يفترق الأصحاب إلا واحداً نسير معاً حتى نصل إلى الكاتدرائية المرقسية بجوار مستشفى الدمرداش. 

المسافة الواقعة بين أم الغلام وقصر الشوق مليئة بالبنايات الأثرية والحواري الضيقة جداً والعطوف ذات الأسماء المثيرة للبحث عن أصولها التاريخية. حارة درب الطبلاوي التي احتضنت المسافرخانة منذ بنائها. حارة الوطاويط التي لم تكن تتسع لأكثر من شخصين. جامع سيدي مرزوق في شارع "حبس الرحبة". باب الفتوح وباب المتولي. حي الخرنفش وصديقنا محسن الذي كان يحرص دائماً على دعوتنا للإفطار في رمضان في بيته المطل على شارع المعز.

خرج من السيارة وأغلق الباب خلفه إنتبهت من ذكرياتي في شوارع القاهرة. سألني معاتباً لم سرت كل هذه المسافة الطويلة على قدميك؟ لماذا لم تتصل بي كي أقلك بالسيارة
إلى البيت أو حتى تركب سيارة أجرة؟

كنا قد وصلنا إلى باب المنزل وكان الوقت أضيق بكثير من أن أحكي لإبني ما أردت أن أستعيده من ذكرياتي مع شوارع القاهرة.



كتب هذا المقال وحرره/ عاطف شوشه


مسجد الشيخ مرزوق الأحمدى بالجمالية
http://arabi.ahram.org.eg/NewsQ/85113.aspx



السبت، 28 مايو 2016

مولانا و الدرويش


كان الدرويش الرحال "شمس الدين تبريز" يقف بباب الخان الذي نزل به في مدينة "قونية" عندما مر مولانا الفقيه والمعلم "جلال الدين الرومي" على مطيته وحوله عدد غير قليل من تلاميذه.

تقدم شمس الدين تبريز إلى مولانا جلال الدين الرومي وسأله السؤال الذي ظل يرحل سنوات طويلة قاصداً أهل العرفان والمعرفة في جميع الأقطار والأمصار باحثاً له عن إجابة:

من الأفضل أبا يزيد البسطامي الذي قال: "سبحاني ما أعظم شأني" أم النبي محمد إذ قال"سبحانك ما عبدناك حق عبادتك"؟




أجاب مولانا "إن أبا يزيد شرب شربة فذهل بعدها أما نبينا محمدا فكان يرقى مع كل نفس يتنفسه"

هنا صرخ شمس الدين صرخة عالية ثم سقط بعدها مغشياً عليه. أمر مولانا تلاميذه أن يحملوا شمس الدين إلى داره وهناك وبعد أن أفاق إختلى بمولانا تسعون يوماً لا يجرؤ أحد على الدخول عليهما. خرج مولانا بعد هذه الخلوة يرقص في الأحياء والأسواق ويضرب  بالقدمين على الأرض وينشد الغزليات المثيرة المؤثرة.

شمس الدين تبريز من العارفين العظام وكلمة عارف عند الصوفية تعني معرفة الله إذ يكشف الله الحجب عن نور وجهه الكريم لمريده. وكانت إجابة مولانا على هذا السؤال أن أبا يزيد وهو أيضا من العارفين أصابه الذهول عندما كشفت له الحجب ولم يحتمل هذا الوصال الإلهي فنطق بلسان الله أم نبينا محمد فكان يرقى في قرب الله ويحتمل المزيد.

كانت الخلوة هي المدرسة التي علم فيها شمس الدين مولانا الطريق إلى الله. أصبح بعدها مولانا من العارفين السالكين وصار بعدها شمس الأستاذ الروحي للرومي، الذي ظل يحتفظ لأستاذه طوال حياته بحبٍّ وعرفان للجميل لا حدود لهما. وبلغ من تأثير "شمس تبريز" أنه استحوذ على روح الرومي ومشاعره ولم يعد يصبر عنه، مما دفع مريديه، كما أُشيع، إلى اغتياله.

وبعد اختفاء شمس، أنشأ الرومي الحفل الموسيقي الروحي المعروف بـ"السماع"، ثم نَظَم في ذكرى شيخه وأستاذه الروحي مجموعة من الأناشيد حملت اسمه:ديوان شمس تبريزي، وهي مجموعة أناشيد وقصائد تمثل الحب والأسى، وإنْ كانت في جوهرها تنشد الحب الإلهي المقدس.


إنصرف مولانا عن كرسي تدريس الفقه وعن إمامة الناس في الصلاة إلى إرشاد المريدين إرشاداً صوفياً كاملاً إمتزج بالرقص والسماع أي حلقة الذكر التي تجمع الشيخ ومريديه وما يصحب ذلك من عزف ودوران.

ألف مولانا ألاف الأبيات الشعرية الغزلية الصوفية ومن أشهرها قصيدة "شكوى الناي" التى بدأ بها كتابه المسمى "المثنوي" والذي بلغت أبياته خمسة وعشرون ألفاً والذي يطلق عليه تقريظاً "قرآن بهلوي".

وهو يشبه الإنسان بالناي في هذه القصيدة الرائعة. فكما يحن الناي إلى أصله من الغاب الذي قطع منه على ضفاف الأنهار ويبث حنينه نغمات شجية حزينة كذلك الإنسان يحن ويسعى إلى العودة إلى الله أصل وجوده وخالقه.


أنصت إلى الناي يحكي حكايته..

ومن ألم الفراق يبث شكايته:

ومذ قطعت من الغاب، والرجال والنساء لأنيني يبكون
أريد صدراً مِزَقاً مِزَقاً برَّحه الفراق
لأبوح له بألم الاشتياق..
فكل من قطع عن أصله
دائماً يحن إلى زمان وصله..





كان جلال الدين مسلماً مؤمناً بتعاليم الإسلام السمحة لكنه استطاع جذب أشخاص من ديانات وملل أخرى وذلك بسبب تفكيره المرن المتسامح ، فطريقته تشجع التساهل اللامتناهي مع كل المعتقدات والأفكار ، كما كان يدعو إلى التعليل الإيجابي ، ويحث على الخير والإحسان وإدراك الأمور عن طريق المحبة ، وبالنسبة إليه وإلى أتباعه فإن كل الديانات خيرة وحقيقية بمفاهيمها ، لذلك كانوا يعاملون المسلمين والمسيحيين واليهود معاملة سواسية.

ومما يذكر أن التتار إمتنعوا عن غزو ودخول مدينة "قونية" إحتراماً وإجلالاً لمولانا الذي كان يقطنها. وفي يوم وفاته خرجت جنازته بعد صلاة الفجر ولم تصل المقبرة إلا عند المغرب إذ خرج كل سكان المدينة لتوديع مولانا وإمتلأت بهم طرقات المدينة المسلمون يتلون القرآن والمسيحيون يتلون الإنجيل واليهود يتلون التوراة ترحماً على مولانا الذي يقول:



في اليوم الذي أموت فيه
ستمر جنازتي
لكن لا تظن أن قلبي سيبقى على الأرض
فلا تبك ولا تترحم عليّ 
ستقع في فخ الشيطان 
لا تبكي على قبري قائلا :- " واسفاه ، رحل !"
فانه لي زمن اللقاء البهيج


بعد وفاة مولانا إنتشرت طريقته والتي سميت "المولوية" ويُعَد السماع، أو الرقص الكوني للدراويش الدوَّارين، من أشهر فنون الطريقة المولوية. وهو طقس له رمزيته: فالثياب البيض التي يرتديها الراقصون ترمز إلى الكفن؛ والمعاطف السود ترمز إلى القبر؛ وقلنسوة اللباد ترمز إلى شاهدة القبر؛ والبساط الأحمر يرمز إلى لون الشمس الغاربة؛ والدورات الثلاث حول باحة الرقص ترمز إلى الأشواط الثلاثة في التقرب إلى الله، وهي: طريق العلم والطريق إلى الرؤية والطريق إلى الوصال؛ وسقوط المعاطف السود يعني الخلاص والتطهر من الدنيا؛ وتذكِّر الطبول بالنفخ في الصُّور يوم القيامة؛ ودائرة الراقصين تُقسَم على نصفَي دائرة، يمثل أحدهما قوس النزول أو انغماس الروح في المادة، ويمثل الآخر قوس الصعود أي صعود الروح إلى بارئها؛ ويمثل دوران الشيخ حول مركز الدائرة الشمس وشعاعها؛ أما حركة الدراويش حول الباحة فتمثل القانون الكوني ودوران الكواكب حول الشمس وحول مركزها.




شكوى الناي

أنصت إلى الناي يحكي حكايته..
ومن ألم الفراق يبث شكايته:
ومذ قطعت من الغاب، والرجال والنساء لأنيني يبكون
أريد صدراً مِزَقاً مِزَقاً برَّحه الفراق
لأبوح له بألم الاشتياق..
فكل من قطع عن أصله
دائماً يحن إلى زمان وصله..
وهكذا غدوت مطرباً في المحافل
أشدو للسعداء، وأنوح للبائسين
وكلٌ يظن أنني له رفيق
ولكن أياً منهم (السعداء والبائسين) لم يدرك حقيقة ما أنا فيه!!
لم يكن سري بعيداً عن نواحي، ولكن
أين هي الأذن الواعية، والعين المبصرة؟!!
فالجسم مشتبك بالروح، والروح متغلغلة في الجسم..
ولكن أنى لإنسان أن يبصر تلك الروح؟
أنين الناي نار لا هواء..
فلا كان من لم تضطرب في قلبه النار..
نار الناي هي سورة الخمر، وحمى العشق
وهكذا كان الناي صديق من بان
وهكذا مزقت ألحانه الحجب عن أعيننا..
فمن رأى مثل الناي سماً وترياقاً؟!
ومن رأى مثل الناي خليلاً مشتاقاً؟!
إنه يقص علينا حكايات الطريق التي خضبتها الدماء
ويروي لنا أحاديث عشق المجنون
الحكمة التي يرويها، محرمة على الذين لا يعقلون،
إذ لا يشتري عذب الحديث غير الأذن الواعية




أنظر .. هذا هو العشق              


في اليوم الذي أموت فيه

ستمر جنازتي
لكن لا تظن أن قلبي سيبقى على الأرض
فلا تبك ولا تترحم عليّ " آه واسفاه ، كم هو مريع "
ستقع في فخ الشيطان – الأسف ، انه مريع
لا تبكي على قبري قائلا :- " واسفاه ، رحل !"
فانه لي زمن اللقاء البهيج
و لا تقل "وداعا" حينما أوضع في القبر
فهو ستار للرحمة الأبدية
أنت رأيت "النزول " فانظر الآن إلى الصعود !
هل الغروب خطير على الشمس والقمر ؟
انه يبدو لك غروبا ، لكنه شروق 
والكفن سجن ، لكنه يعني الحرية
أي بذرة سقطت على الأرض ولم تنمو هناك ؟
فلماذا تشك في القدر ، أن الإنسان بذرة ؟
وأي دلو أتى فلم يمتلئ من الحوض ؟
فلماذا تخشى روح يوسف هذا البئر ؟
أغلق فمك الآن وافتحها في ذاك العالم
كي يغدو لتسابيحك صوت
من حيث لا مكان .


كتب هذا المقال وحرره/ عاطف شوشه

الثلاثاء، 17 مايو 2016

ما حال النساء في الجنه ؟

بسم الله الرحمن الرحيم

إعلم أنه إذا عرضت لك مسألة في دينك ثم إجتهدت في البحث عنها في كل المصادر المعتبرة. وإجتهدت كذلك في سؤال كل من له صلة بمسألتك من أهل الثقة والعلم الخالص لوجه الله تعالى. ثم  كانت الإجابة التي إستخلصتها بعد ذلك الجهد المضني كله غير مقنعة ولا تتوافق مع المنطق الصحيح فكن على يقين من أن الدين برئ كل البراءة من هذه الإجابة. وأن الدين حق ولا يتنافى مع المنطق العقلي الذى وهبنا الله إياه لنتمكن من الحكم على الأمور بطريقة صحيحة حتى يكون حسابه لنا بعد علم وفهم فيكون الجزاء عادلاً.




خطرت لي هذه الخاطرة وأنا أبحث عن "حال النساء في الجنة" وقد دفعني إلى هذا السؤال يقيني بعدل الله سبحانه وتعالى. فإن كان كل النعيم في الجنة ما علمنا منه وما لم نعلم وعد الله به الرجال والنساء على حد سواء فقد بقيت هناك نعمة واحدة لم يتساوى فيها الرجال والنساء. وتأدباً مع الله العدل سبحانه وتعالى نصحح العبارة السابقة ونقول أننا نعتقد أن هناك نعمة واحدة لم يتساوى فيها الرجال والنساء في الجنة. والفرق بين العبارتين أن الأولى فيها إقرار نهائي بعدم التساوي أما الثانية فتحيل عدم التساوي إلى القصور الذي تفرضه علينا طبيعتنا البشرية من العجز عن الفهم التام لمراد الله في كل الأمور.

هذه النعمة محل الإختلاف هي نعمة الزواج في الجنة. والغريب أنها أيضاً ولسبب لا يعلمه إلا الله محل إختلاف في الدنيا. والمقصود هنا بنعمة الزواج في الجنة هو ما أقره القرآن عن تمتع الرجال في الجنة بأعداد يصعب حصرها من الحور العين جزاءاً للرجل على أعمال وعبادات لم يؤمر بها وحده دون المرأة فلماذا يكون له هذا الجزاء دونها؟

هل للمرأة في الجنة حور عين من الرجال؟ لا .. لم يذكر القرآن لنا هذا صراحة أو مجازاً.

هل للمرأة إذن نعمة أخرى أختصت بها تعادل هذه النعمة؟ لا .. لم يذكر هذا أيضاً في القرآن.


وإذا إستعرضنا رأي علماء المسلمين في هذا الأمر نجدهم يستنكرون أصلاً على المرأة أن تسأل مثل هذه الأسئلة لأن حياءها يجب أن يمنعها من أن تخوض في مثل هذه الأمور. وإن كان الأمر كذلك فأين حياء الرجل؟ أم أن الرجل مقبول في الإسلام بدون حياء؟

بل أن أحدهم يقول: "وينبغي للمرأة أن لا تشغل بالها بكثرة الأسئلة والتنقيب عن تفصيلات دخولها للجنة : ماذا سيعمل بها ؟ أين ستذهب ؟ إلى آخر أسئلتها .. وكأنها قادمة إلى صحراء مهلكة !"

أما الرجل فليس هناك مانعاً يمنعه من أن يكون هذا هو شغله الوحيد والأوحد في هذه الدنيا فيترك كل ما فيها ويسعى إلى قتل نفسه في زي شهيد حتى ينعم بالحور العين في الجنة.

ويقولون أيضاً أنه يكفيها أنها ستعود بكراً في الجنة وأنها سوف تكون أجمل من الحور العين. والأهم من ذلك كله أنها ستعود زوجة لآخر زوج كان لها في الدنيا. وهنا نسأل لماذا لا يكفي الرجل أيضاً في الجنة أن تعود له زوجته في الدنيا وخاصة أنها سوف تكون على درجة كبيرة من الجمال والكمال؟ ولماذا يستمتع الرجل بتعدد الزوجات في الدنيا وفي الآخرة؟

وهنا يجب علينا أن نمتنع عن سؤال من لا يتورعون عن الإجابة عن جميع الأسئلة التي تعرض عليهم حتى وهم يدركون أن إجاباتهم قد تكون غير منطقية وأنها قد تبعد الناس عن الدين أكثر مما تقربهم إليه.


والإجابة على هذا السؤال سهلة وبسيطة وأنا لا أدعي فيها العلم ولكن أدعي فيها المنطق.

وقد ذكرت تلك الإجابة في المقدمة وهي "القصور الذي تفرضه علينا طبيعتنا البشرية من العجز عن الفهم التام لمراد الله في كل الأمور". فإننا بالقطع لا نفهم إرادة الله عز وجل في كل الأمور وكيف يحقق العدل بين الناس في الدنيا وفي الآخرة.

ولكننا لا يمنعنا هذا القصور من الإيمان بعدل الله سبحانه وتعالى. ولنا أيضاً أن نمتنع عن محاولات الفهم الكامل لكل ما أمرنا الله به مع الحرص التام على العمل به.




كتب هذا المقال/ عاطف شوشه






الجمعة، 8 أبريل 2016

الــديــن و .. الــعــلـمــاء


وماذا بعد.


كأني أحاول أن أشرب من كوب مثقوب إذا رفعته لم يصل إلى فمي منه إلا ماعلق بجداره من قطرات. فلا الكوب يمتلأ أبداً ولا أنا أرتوي أبداً.




نظرت إلى كتاب "إحياء علوم الدين" الذي كتبه أبو حامد الغزالي ويحتوي على عدة آلآف من الصفحات. فيه من علوم الظاهر والباطن الكثير. وهو كتاب موسوعي قرأت منه فصولاً طويلة. وله أيضاً "تهافت الفلاسفة"
وبالمقابل هناك "تهافت التهافت" تأليف أبن رشد الأندلسي.


نظرت حولي في سكون المنزل وخلوه إلا مني وبدأت أفكر.


تنتشر مجموعات مختلفة من الكتب في أرجاء المنزل. منها ما قرأته ومنها ما لم أكمل قراءته ومنها مالم أبدأ في قراءته بعد. هذا بالإضافة إلى ماهو موجود من الكتب في المكتبة وماهو علي جهاز الكمبيوتر من مجلدات ضخمة وماهو على جهاز المحمول أيضاً. وكتب أخرى قرأتها في مكتبة البارودي العامة بالعباسية. ومازال في فكري وفي مفكرتي أسماء لكتب كثيرة جداً أتمنى أن أجدها مازلت أبحث عنها.



تمتلأ مخيلتي بمكتبات عظيمة لأشخاص مهمين جداً في عالم الدين والثقافة.


"علامات القيامة الصغرى والكبرى" للشيخ الشعراوي.

"تفسير القرآن بين القدامى والمحدثين" - جمال البنا.

هذا كتاب سعدت جداً أني إقـتـنـيـته "الحكم العطائية" أربعة مجلدات كل منها عدة مئات من الصفحات شرح الشيخ "سعيد رمضان البوطي" الذي أغتاله النظام في سوريا وهو يلقي أحد دروسه في المسجد.  الحكم العطائية هي حكم من تأليف إبن عطاء الله السكندري مُنَظر وحكيم الشاذليه وتلميذ أبو العباس المرسي. قال الشاذلي: "ربي لم سميتني شاذلي وأنا لست من شاذله قال أنت الشاذ  لي"

"درة التنزيل وغرة التأويل في بيان الآيات المتشابهات في كتاب الله العزيز" للخطيب الإسكافي.

"مقام العقل في الإسلام" - د. محمد عماره

"موسوعة تصحيح المفاهيم" - أ.د. أحمد شوقي إبراهيم

"لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف" لإبن رجب الحنبلي. "ويوم عاشوراء يصومه الوحش والهوام و كنت أفت الخبز للنمل كل يوم فلما كان يوم عاشوراء لم يأكلوه" وكذلك ذكر القزويني العالم العربي مؤلف كتاب"عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات" أن يوم عاشوراء تصومه النمل والوحوش."

"أسباب النزول" للنيسابوري أضعه بجوار القرآن لأعرف أسباب نزول الآيات التي أقرأها. 

"جناية قبيلة حدثنا" - جمال البنا.
بعض تفاسير القرآن الكريم.

وماذا بعد.

لم يزل لدي الكثير من التساؤلات التي تتعلق بالدين. هل أقتني مزيداً من الكتب أم ماذا أفعل؟ قال أحدهم "القراءة مدرسة لا يتخرج منها الإنسان مادام حياً."

هل فهم الدين يحتاج إلى كل هذه القراءات؟


الدين أنزله الله إلى جميع الناس على إختلاف جنسياتهم ولغاتهم. بعضهم يتعلم العربية ليقرأ القرآن فقط وهذا في حد ذاته إنجاز عظيم. هل يحتاج هولاء إلى أن يقرأوا مثل هذه الكتب ليعرفوا دينهم على وجه الدقة؟



ماذا عن الذين يعرفون العربية ولايقرأون ؟ هل سيحاسبون على أنهم لايقرأون؟


ماذا عن الأميين الذين لا يعرفون القراءة والكتابة؟ هل يأثمون بعدم تعلمهم؟

ماذا عن الذين لم يعاصروا نشأة هذه العلوم الشرعية وكتابة مثل هذه الكتب الدينية؟


المنطق يقودنا إلى أن الدين الذي أنزله الله للناس كافة لابد وأن يكون من السهولة و اليسر بحيث يكون معلوماً لكل هؤلاء الناس. ومما لا نشك فيه أن معرفة ربهم بأحوالهم قد سبقت خلقهم.

"قل آمنت بالله ثم إستقم". هكذا بمنتهى البساطة التي تبعث على الراحة النفسية والطمأنينة الداخلية. لا تعـقـيدات. لا تـفـسيرات. لا فلسفة. لا رجال دين. لا كهنوت. لا وساطة بين العبد وربه. 

شاب سعودي يدرس في إحدي الدول الأجنبية وجد شاباً يهودياً يقف في الشارع يدعو لدينه فقرر في اليوم التالي أن يقف في الجانب الآخر من الطريق يدعو للإسلام. جاءه رجل وامرأة سألوه كيف نعرف أن الإسلام هو الدين الحق؟ فقال لهما سأتلو عليكم نصين وأسالكم بعد ذلك سؤالاً واحداً. وكانا لا يعرفان اللغة العربية. فتلى عليهم نصاً ليس من القرآن ولكنه رتله كالقرآن ثم رتل عليهم قرآناً وسألهم ما الفرق بين النصين؟ قالا النص الأول عادي جداً ولكن عندما بدأت تقرأ النص الثاني أحسسنا بشعور غريب من الهيبة والجلال.

وجه مقدم البرنامج سؤالاً إلى الأستاذ جمال البنا الذي كان ينتقد كل تفاسير القرآن المتداولة بين الناس. وأي التفاسير القرآن ترشح لنا؟ رد الأستاذ بمنتهى البساطة: القرآن ليس بحاجة إلى تفسير.


إذا كان القرآن يعرف بالإحساس البديهي من بين النصوص الأخرى ولا يحتاج إلى تفسير. والسنن المتواترة معروفة للجميع ولا إختلاف عليها. والحديث إذا وافق القرآن كان صحيحاً وإذا لم يوافقه لا ينظر إليه.


فما هو الإشكال إذن.



المشكلة في من وقفوا بيننا وبين الله عز وجل وفسروا لنا آية "واسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون" بأنهم هم أهل الذكر فيجب أن نسألهم لأنهم يعلمون ونحن لا نعلم. ونحن أيضاً طرفاً أساسياً في هذه المشكلة فقد استمرأنا هذه الفكرة تماماً وعلى الأخص أن ذنب الخطأ إن وقع لن يقع علينا بل على "أهل الذكر". 




المشكلة في من حصروا عن قصد تفسير كل آيات القرآن التي أتى فيها ذكر العلم والعلماء على المحمل الشرعي فقط. فيكون بذلك العلم المذكور في القرآن هو العلم الديني فقط وكذلك العلماء هم فقط علماء الدين والشريعة. أما العلوم الدنيوية كالكيمياء والفيزياء والطب والهندسة وما إلى ذلك فهي ليست مقصودة في القرآن.







وتكون النتيجة الحتمية لذلك الحصر المقصود تدني المسلمين في التقدم العلمي الدنيوي كما الحال في حاضرنا المعاصر.

وأستدل على ذلك بالسطور التالية التي ختم بها كاتبها مقالة عن "فضل العلماء في الإسلام". وهي نموذج لكل المواقع الإسلامية الأخرى التي تتحدث عن نفس الموضوع وعلى من يريد التأكد أن يحاول البحث ويستقصي النتائج.

"وجميع ما ذكر في فضيلة العلماء إنما هو في حق العلماء الربانيين المتقين, الذين قصدوا بعلمهم وجه الله الكريم, فكانوا أحق الناس بالمحبة والتعظيم والتوقير بعد الله، وبعد رسوله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن العلم ميراث الأنبياء، والعلماء ورثته، ومحبة العالم تحمل على تعلّم علمه واتّباعه، والعمل بذلك دين يدان به.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يحفظ لنا علماءنا، وأن يطيل في أعمارهم، وأن يردنا إلى دينه مرداً جميلاً إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، والحمد لله رب العالمين."



وبذلك التفسير لآيات القرآن يكون لزاماً علينا أن نلجأ دوماً لعلماء الدين وأن نقرأ جميع كتبهم إن إستطعنا إلى ذلك سبيلاً. أن نقرأ كتباً ومجلدات ضخمة كالتي ذكرتها سابقاً. وإلا كنا مقصرين في حق ديننا وكان فهمنا للدين ناقصاً. وهذا ما أثبتنا بطلانه من سهولة الدين وتيسير الله له لكل الخلائق. 

ولكنني في نهاية الأمر أعود فأقول أنني لم أكن لأصل لمثل هذه النتيجة لو لم أقرأ ما قرأت وأطلع على ما إطلعت عليه. وانا لست نادماً أبداً على العمر الطويل الذي قضيته في القراءة وسوف أستمر قطعاً في المطالعة وفي إقتناء الكتب وقراءتها.







الأربعاء، 6 أبريل 2016

نوبة الحراسة




















منذ عدة سنوات وأنا أعمل في وظيفة سرية.


أتوجه إلى مقر عملي هذا ليلاً. أحرص على ألا يراني أحد من قاطني البناية في صعودي أو نزولي. إذا صادفت رجلاً على السلم ألقي السلام بسرعه وأمضي. لا أزيد أبداً على السلام. إذا صادفت إمرأة فإنني أتوقف حيث أنا وأدير وجهي للحائط ونظري إلى الأرض حتى تمر من خلفي. لاأتذكر أبداً وجه أي أحد من قاطني المبني سواءاً رجالاً كانوا أو نساءاً.



في الصباح أنسل خارجاً وأنزل السلم بسرعة أخشى أن يراني أحد من سكان البناية.



وظيفتي السرية هي الحراسه.







أحرس أشياءاً لأناس غادروا ولا يعودون إلا نادراً. عشقت أشياءهم لأنها ببساطة شديدة .. أشياءهم. أحرص على ألا يتبدل مكان الأشياء حتى إذا عادوا وجدوا كل شيئٍ كما تركوه في مكانه. لذا أنفض التراب عن الأشياء بحرصٍ بالغ. 

بصمات أصابعهم على الأشياء أحرص دوماً على ألا أمسحها.

أصبحت هناك علاقة خاصة بيني وبين الأشياء حولي. أصبحت مثل أمي التي كنت أسمعها تخاطب الأشياء في المنزل وهي تتعامل معها يومياً. كأن تقول للطعام إذا تأخر غليانه على الموقد "أأنت في جنه" لأن الجنة عكس النار. ولكن الفرق بيني وبين أمي أنني أخاطب الأشياء بدون كلام مسموع.

أجوب المكان كل ليلة عدة مرات أتفقد الأشياء كلها قبل أن أطفئ الأنوار. أعدل مواضع صورهم على الجدران. أتلو آيات القرآن في كل الأركان. أدعو الله أن يحفظهم.

حالة من السكون والسكينة والخمول تنتابني في فترات غيابهم عن أشيائهم. أترقب عودتهم كل مساء حتى في أيام يستحيل فيها إمكانية العودة. وكم أغواني الليل الطويل بانتظارهم حتى بزوغ الفجر.

آخر عودة لهم كانت منذ عدة أشهر. أرقب تحركاتهم في المكان بشغف بالغ. الأشياء إشتاقت للمساتهم أكثر من إشتياقي لهم. لم يلبثوا إلا ليلة واحدة ثم غادروا سريعاً لتتصل من جديد فترات غيابهم الطويل. لم يكن الوقت كافياً لأن يلمسوا كل الأشياء. لم يكن الوقت كافياً حتى أن ألمسهم.

عندما يغادرون وإتباعاً للعادة المصرية القديمة لا "أكنس" البيت بعد خروجهم فهذا فأل سيئ آملاً أن يعودوا مرة أخرى.

أفزع تماماً إذا دق جرس الباب أو الهاتف لأن الصوت يكسر بحدة مفاجئة  حاجز الصمت المطبق حولي والأهم من ذلك أنه يقطع هذا الحوار الداخلي المستمر الطويل بيني وبين الأشياء بطريقة مباغتة. لا أرد على الهاتف ولا أفتح الباب لأن أصحاب الأشياء التي أحرسها لازالوا في فترة الغياب.


أن يحال بينك وبين الأشياء التي تحبها بلا مبرر منطقي أمر مؤلم جداً. 

إنتظار الفراق أصعب من الفراق. 

الإنتظار قنبلة موقوتة. 

بدأ العد التنازلي 
باقي من الزمن 
 سـنة 
 شهر
 أسبوع 
 يــوم 
ساعات 
دقائق 
ثواني 

إنتهى الوقت
دق جرس الإنتباه
حان موعد  فراق الأشياء
ودعت المكان
وإنتهت نوبة الحراسة.



الخميس، 31 مارس 2016

لم لا أحيا .. ترنيمة صوفية



 




"الحزن ربيب الشعراء"



لو لم يكتب غير هذه القصيدة
لو لم يلحن غير هذه الكلمات
لو لم تغنِ غير تلك الأغنية



لو لم يحدث إلا ذلك لظل لزاماً علينا تبجيل هذا العمل الفني الراقي الذي يضاهي في الروعة وعمق المعنى نفائس الشعر العربي المغناة.



إن الوجود القوي لله في كل حرف من حروف هذه القصيدة وفي معانيها يجعلها ترقى إلى مراتب الرقائق التي يتغنى بها الصوفيون في حضراتهم وخلواتهم وفي إفاقتهم وذهولهم. 



لمَ لا أحيا وظل الورد يحيا فى الشفاه
ونشيد البلبل الشادى حياة لهواهْ
لمَ لا أحيا وفى قلبى وفى عينى الحياه 
سوف أحيا .. سوف أحيا

تندرج هذه القصيدة تحت تصنيف لا أجد غيره لوصفها "التفاؤل الحزين" فعلى الرغم من الكلمات المتفائلة جداً التي تنتشر في أرجاء هذه القصيدة إلا أنها حزينة جداً تكاد تبكيني كلما إستمعت إليها.

الكلمات توحي بأن قائلها مشرف على الموت بعد أيام قليلة ويخاطب بها أقرب الناس إليه لعلها تعينه على إحتمال آلآم الفراق والإنفصال الأبدي. 

مازال في العمر بقية. سوف أحيا مابقيت حمرة الورد في شفتاي. سوف أحيا ما دام البلبل يشدو بحبه لمن يهواه. سوف أحيا ما بقي في قلبي وفي عيني حياة. هذه مشيئة الله أنني لابد راحلٌ ولكنني لازلت أحيا.

يارفيقى نحن من نور إلى نور مضينا
ومع النجم ذهبنا ... ومع الشمس أتينا
أين ما يدعى ظلاماً يا رفيق الليل أين..
إنّ نور الله فى القلب وهذا ما أراهْ
سوف أحيا .. سوف أحيا

إن الحياة ليست سوداوية مظلمة حتى وإن دنا وقت فراق الأحباب. إن النور موجود دائماً ولكننا نحن الذين نغفل عن ملاحظته ورؤيته لضعف اليقين لدينا فالليل الحالك الظلمة يهدينا الله فيه بنور النجوم التي تظل ترعانا حتى تطلع الشمس لتهدينا.

إبحث في داخلك تجد النور الذي طالما إنتظرت أن يأتيك من خارج نفسك وسيكون هو دليل خطواتك إلى عالم الحقيقة المطلقة. إنني أرى هذا النور أمامي الآن وأنت أيضاً إبحث عنه وسوف تراه.

و الحقيقة أنه لا يوجد ظلام أبداً في هذا الوجود طالما أن القلب مضيئ بنور الله.





ليس سراً يا رفيقى أنّ أيامي قليلة
ليس سراً إنما الأيام بسمات طويلة
إن أردتَ السر فاسأل عنه أزهار الخميلة
عمرها يومٌ ... وتحيا اليومَ حتى منتهاهْ
سوف أحيا.. سوف أحيا

لو أنك تراني أهل للخلود. لو أنك تراني أجمل من أن أموت. لو أنك ترى في موتي خسارة للوجود.

لو أنك ترى في فقدك لي لغز محير يستعصيك على الفهم والإدراك. فانظر في هذا الوجود حولك ترى أن الله قد خلق ماهو أجدر وأحق مني بالخلود والأبدية. وعمري هذا الذي تراه أياماً قليلة فإنني قد قضيته سعيداً بقربي من الله.

أنظر حولك أنا لست الأجمل. أزهار الخميلة أجمل مني تبهج كل من يراها وتسعد الكثيرين بلا مقابل وعمرها لا يتجاوز اليوم الواحد ولكنها تحيا هذا اليوم كله وهي تعلم أن نهايتها في آخره ممتـثـلة لأمر الله ومشيئته. وهي تبعث في هذا اليوم كل هذا الإشراق وكل هذا الأمل في كل من يقترب منها.  

إذا كنت تبحث عن سر الوجود فهو أكبر وأعظم من حياتي أو موتي. إن سر الوجود يكمن في كل ما خلقه الله في هذا الكون.

من لا يغشاه هذا الشجن المفعم بالتفاؤل عند سماعه هذه الأغنية !!
من لا يعد نظرته للحياة والموت عند سماعه لهذه الكلمات !!
من لا يسع قلبه كل مخلوقات الله حباً عند إدراكه لهذه المعاني !!

لو لم يكتب "مرسي جميل عزيز" غير هذه الترنيمة الصوفية.
لو لم يلحن "الأخوين رحباني" غير هذه الكلمات التي صبغوها بصبغة دينية حزينة.
لو لم تغنِ "فيروز" غير تلك الأغنية بصوتها الملائكي الرقراق.

لظل لزاماً علينا توقير هؤلاء جميعاً على هذا العمل الفني الرائع الذي يبعث فينا الشجن والحنين و يجعلنا أقرب إلى الله وأكثر حباً له والتصاقاً بجنابه ولواذاً برحمته.













الأحد، 27 مارس 2016

كلام في الواقع



في المنطقة الواقعة بين المُتوقَع والواقع تقع جميع مشكلات الإنسان.





كتبت أحلام مستغانمي "من الأسهل علينا تقبل موت من نحب على تقبل فكرة فقدانه واكتشاف أنه بإمكانه مواصلة الحياة بكل تفاصيلها  بدوننا ...!!"


وهذا التعبير القاسي يسهل فعلاً تصوره فمن المتوقع لمن فقد حبيبه أن لا تنتظم حياته وأن يشوبها النقصان والإرتباك وألا تكتمل وتعتدل مرة أخرى إلا إذا حدث اللقاء والوصال. وإن لم يتحقق هذا وكانت الحياة بالحبيب وبدونه لا فارق فيها فإن الحبيب يكون لا قيمة له على الإطلاق. 


 وتكون فكرة تقبل الموت أهون من تقبل فكرة أن المتوقع لم يحدث في الواقع.


وكلما زادت مشاعرالحب أو الصداقة أو القرابة زادت التوقعات الغير معلنة والتي ينتظر كل طرف من الآخر في هذه العلاقة أن يقدمها بلا طلب مسبق وفي موعدها المحدد بمنتهى الدقة وإلا كان الموت أفضل. 


ولماذا الموت؟ لأنه الوحيد الذي يقع خارج دائرة إختياراتنا لذلك يمكن أن نسامح فقط من مات لأنه لم يلبي توقعاتنا غير المعلنة. أما الأحياء فليست أعذارهم مقبولة لدينا حتى يموتوا.


وينسحب هذا المعنى على جميع العلاقات الإنسانية بدرجات متفاوتة حسب قوة العلاقة والحرص عليها من الناحية العاطفية. 


ومن لايعي هذه الحقيقة سيبقى على قدر كبير من المعاناة في حياته في جميع علاقاته الإنسانية وسيظل يعالج مشاكل فرعية تتوالى عليه وكلما عالج مشكلة نبت له أخرى. وهو كالطبيب يعالج أعراضاً مختلفة ظناً منه أنها المرض ولكن مريضه لا يشفى و يوشك على الموت حتى يهديه الله وينتقل من الفروع إلى الأصل أي إلى السبب الحقيقي للمرض فيعالجه وتنتهي معاناة المريض والطبيب معاً.


وكلما زادت المسافة بين المتوقع منا وبين الواقع الذي نقدمه في علاقاتنا زادت مشاكلنا وتكدرت حياتنا بشكل مزر.



قال مولانا جلال الدين الرومي: هناك شيئ واحد في هذا العالم لا ينبغي أن يُنسى. إذا نسيت الأشياء كلها ولم تنس ذلك الشيئ فلا داعي للخوف. ولو أنك أنجزت الأشياء كلها وتذكرتها ولم تنسها ونسيت ذلك الشيئ فكأنك ما فعلت شيئاً البته.

وهذا تماماً مثلما إذا أرسلك مَلِك إلى قرية من أجل عمل معين فذهبت وأديت مئة عمل آخر فعندما لا تكون أديت ذلك العمل الذي كنت ذهبت من أجل تأديته فكأنك ما أديت شيئاً البته.

وهكذا فإن الإنسان جاء إلى هذا العالم من أجل عمل معين وذلك مقصوده وهدفه فإذا لم يؤد هذا الذي جاء من أجله فإنه لا يكون قد فعل شيئاً.

"وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون". وكلما إبتعد الإنسان عن عبادة ربه زادت المسافة الواقعة بين ماهو متوقع منه أن يفعله وما خلق من أجله وبين واقعه فيكون بذلك قد وقع في أكبر مشكلة يمكن أن يقع فيها وهي مشكلة خلقه.





انْظُرْ أَلا يَرَاكَ اللَّهُ حَيْثُ نَهَاكَ وَأَلا يَفْقِدَكَ حَيْثُ أَمَرَكَ واسْتَحِ فِي قُرْبِهِ مِنْكَ , وَقُدْرَتِهِ عَلَيْكَ " .



كتب المقال وحرره: عاطف أبو شوشه





الجمعة، 18 مارس 2016

الإسكندرية .. يعني الشاطبي



موسم الإمتحانات يقارب على نهايته ويبشر بدخول الإجازة الصيفية الطويلة.

يتزامن مع هذا الموسم الإعداد الحثيث لرحلة المصيف التي تبدأ مباشرة بعد نهاية الإمتحانات بأقل من أسبوع. كانت أمي أطال الله في عمرها تتحمل كل هذا العبء وحدها.

كانت عائلتنا إحدى ثلاث عائلات في الحي كله تذهب إلى المصيف كانت إحداها عائلة زوجتي الحبيبة وكنا نتفوق عليهم جميعاً في طول الفترة التي نغيب فيها عن الحي.

 يوم السفر هو أسعد يوم في حياتنا. لم نعرف سفراً إلا إلى الإسكندرية في الصيف. 

في الصباح الباكر نحمل أشياءنا ونتجه إلى محطة القطار. شمسية البحر في جرابها القماشي وكراسي البحر بمقاساتها المختلفة والجرادل البلاستيكية والترموس وشنطتان للملابس لونهما بني يغطي كلاً منهما غطاءاً قماشياً أبيض اللون لحمايتهما. تحتوي الشنطتان على كل ملابسنا التي نحتاجها لمدة ثلاثة أشهر كاملة قامت أمي بتفصيل معظمها بنفسها بما في ذلك ملابس البحر.  

الرحلة بالقطار مع العائلة ممتعة جداً. نبدأ باللعب في محطة مصر المترامية الأطراف ذات السقف العالي جداً. طالما بهرني عظمة هذا البناء الواسع الرحب.
"قطر الثوره ماشي بينا .. حايفرجنا ويورينا" أغنية من زمن الثورة كانت أغنيتنا المفضلة والتي تتناسب مع هذا المكان نغنيها ونحن نلف وندق الأرض بأقدامنا مقلدين حركة القطار الذي سيدخل المحطة بعد قليل. 

القطار يقف في محطات كثيرة. ينزل الركاب ويصعدون عند كل محطة. كل محافظة يقف عندها القطار يذكر لنا أبي أسم هذه المحافظة مرتبطاً بما تشتهر به مثل بنها العسل حيث يعد عسل النحل البنهاوى من أجود الأنواع. وكان يبهرني إمتداد الحقول على مرمى البصر  يكسوها اللون الأخضر الذي نشاهده من نافذة القطار على طول الطريق.   




إنتقل معظم أفراد عائلة والدي من قريتهم الصغيرة والتي تسمى "منية المرشد" وهي قرية في مركز مطوبس (فوة سابقاً) محافظة كفر الشيخ وكان اسمها " بنى مرشد " نسبة إلى الشيخ العارف بالله محمد بن عبد الله المرشدى ثم تغير بعد ذلك إلى ميناء المرشد ثم إلى منية المرشد. إنتقل معظم أفراد عائلة "أبو شوشه" إلى الإسكندرية بغرض التعليم والعمل. وكان عمي "محمود" و زوجته "أبله محاسن" من بين الذين انتقلوا وعاشوا في الإسكندرية. 


نتجه مباشرة من محطة مصر في الإسكندرية إالى منزل عمي محمود في شارع بوالينو في حي محرم بك حيث ننزل ضيوفاً عنده لفترة الصيف.

لم نكن وحدنا الذين ننزل ضيوفاً على بيت عمي بل كل من يفد من العائلة إلى الإسكندرية من القرية كان يجد في بيت عمي ترحاباً وملاذاً. لم تشتكي أبدا زوجة عمي من كثرة الزوار والمقيمين في بيتها. أحبت الجميع فزرع الله محبتها في قلوبنا جميعاً.

لا زلت أذكر محل عم فاروق البقال في الجهة المقابلة لبيت عمي حيث كنت أشتري من عنده الحلاوة الطحينية. 

أذكر جيران بيت عمي, "هويدا" التي تسكن مع أمها في الدور الأول. بائع العرقسوس الذي كان يسكن غرفة صغيرة أول السلم. عدة فتيات في مقتبل العمر يسكن الدور العلوي أذكر أن إحداهن كانت تسمى "أشجان" كن صديقات لأخواتي.

نستقل الأوتوبيس كل يوم في الصباح إلى شاطئ الشاطبي نمر على عم عثمان النوبي بواب العمارة الكبيرة المقابلة للشاطئ. نحتفظ عنده بالشمسية والكراسي والطائرة الورقية طوال فترة الصيف. في آخر كل يوم نودعهم عنده مرة أخرى.




من أهم معالم هذا الشاطئ "كازينو الشاطبي" و"الكازينو الخشب" وبين الإثنين كنا نقضي فترة الصيف حيث المصور "بشير" الذي إحتكر تصويرنا على مدى سنين طويلة. وبائع الآيس كريم أمام الكازينو الخشب.

الطائرة الورقية التي نصنعها أنا وأخي الأكبر من البوص والورق الملون تكون أكبر طائرة على الشاطئ كله.

أحرص على البرطمان المغطى فوهته بالقماش إلا من فتحة صغيرة أضع من خلالها بعض الخبز وأربطه بحبل ثم أرخيه في الماء لأصطاد السمك الذي يحاول الوصول إلى الخبز في الداخل.

تظل أختي الكبيرة تتجول على الشاطئ طوال اليوم لتجمع مايلقي البحر من أصداف.

ينقضي يومنا بالإستحمام في البحر واللعب على الرمال نبني بيوتاً ونحفر حفراً نملأها بالماء. 

أمي تراقبنا بحرص وقلق في كل تحركاتنا وهي جالسة تحت الشمسية. إذا نزلنا البحر وحدنا من دون أبي تظل واقفة على الشاطئ حتى نخرج من الماء.



لا نترك الشاطئ إلا عند الغروب وتكون رحلة عودتنا لمنزل عمي دائما سيراً على الأقدام. نمر على مقابر المسيحيين بما يكتنفها من سكينة وغموض وهي أشبه بحديقة كبيرة جميلة خلف الأسوار. أنجح دائماً في الإمساك بإحدى الضفادع الصغيرة المنتشرة في حديقتها. ونشتري في طريقنا الذرة المشوية والبطاطا والبسبوسة الساخنة ونرفع أصواتنا ونحن نمر من الكوبري "أبو عين واحده" والكوبري "أبو عنتين" لنستمتع برجع صدى صوتنا.

"باكوس" هو إله الخمر عند الرومان القدماء. عندما نذهب لزيارة عمي "سعد" الذي يسكن في منطقة "باكوس" والتي ينطقها أهل الإسكندرية بلهجتهم الجميلة "بكوس" كنا نذهب إلى شاطئ "جليم" القريب من بيت عمي. لم أكن أحب هذا الشاطئ كثيراً. بالنسبة لي الإسكندرية هي الشاطبي.

في يوم الجمعة لا نذهب إلى الشاطئ تجنباً للزحام. نحرص على قضاء يوم في حديقة "أنطونيادس" بخضرتها وزهورها الجميلة وتماثيلها الرومانية التي تملأ ممراتها . وكنا نزور أقاربنا الذين يقيمون في الإسكندرية الذين لا نراهم طوال العام.

في الصيف كان أبي يحرص على أن يسافر إلى منية المرشد مسقط رأسه لقربها من الإسكندرية لزيارة والدته جدتي ذات العينين الزرقاوتين وأخيه الذي كان يزرع أرض العائلة وأخته الوحيدة عمتي الحبيبة وباقي أفراد العائلة الذين يسكنون القرية ولم يغادروها وكنا نذهب أحيانا مع أبي ونقوم بصيد السمك مع زوج عمتي.

أوصى أبي أن يدفن في بلدته وكانت وجهة نظره في هذا الخصوص أن أهل القرية وهم يغادرون في الصباح الباكر إلى حقولهم يمرون بمقابر القرية وكذلك يفعلون عند رجوعهم عند غروب الشمس فيقرأون الفاتحة ويترحمون على موتاهم عند مرورهم أما في القاهرة فلا أحد يذهب لزيارة الموتى.

في هذا العام كان الكازينو الخشب على جهة اليمين من الشاطئ يذيع أحدث أغاني أم كلثوم "إنت عمري" على مدار ساعات النهار كله.






رجعوني عنيك لأيامي اللي راحوا

علموني أندم على الماضي وجراحه
اللي شفته قبل ما تشوفك عنيه عمر
ضايع يحسبوه إزاي عليّ
انت عمري اللي ابتدي بنورك صباحه


كان هذا العام آخر عام لنا على شاطئ الشاطبي حيث منعنا مرض أبي ووفاته من السفر إلى الإسكندرية بعد ذلك سنيناً طويلة ولم يبق لنا من هذه الأيام الجميلة سوى الذكريات السعيدة.







كتب المقال وحرره: عاطف أبو شوشه