أفقت على صوت المنشد وهو يصدح مبتهلاً "مالي سواك يا ربي" فانفلتت الدموع من عيني وبكيت شجناً.
كانت السماء خارج مسجد سيدنا الحسين غائمة في هذا اليوم وقد بدأت السحب بكاءها هي الأخرى من قبلي منذ الصباح الباكر لتجود بما لديها في هذا اليوم البارد من أيام الشتاء ولتبلل الطرقات المؤدية إلى حارة "الجاور علي" التي كانت مقصدي وبالتحديد إلى منزل جدي القديم في نهايتها المسدودة.
لا أذكر كيف وصلت إلى هناك مبكراً بعدما قلت للسائق: "حي الحسين من فضلك". فقد انتقلت بعد هذه الكلمات مباشرة بمخيلتي إلى هناك حيث الذكريات التي لا يمكن نسيانها أو مفارقتها في اليقظة أو في المنام.
بدأت أصعد السلم الحجري العالي والذي تآكل معظمه بفعل السنين الطويلة التي تعاقبت عليه وأيضاً بفعل من تعاقب عليه نزولاً وصعوداً من شيوخ قضوا ورحلوا وترحمنا عليهم ورجالاً غدوا شيوخاً وشباباً أصبحوا رجالاً وكهولاً وأطفالاً صاروا شباباً وهو مازال منتصباً في مكانه بسوره الحديدي الذي يصعد ويدور معه عالياً وإن كانت قد بدأت تظهرعليه مظاهر الملل والإعياء من كثرة ما حمل واحتمل. ما زالت نوافذه الحديدية العالية بعتباتها الحجرية العريضة تنفتح فوق الأسطح المنخفضة أمامها على مسجد سيدنا الحسين بمآذنه القريبة ويزداد المنظر جمالاً كلما صعدنا الأدوار الأعلى. كنا ولا زلنا رغم العمر الطويل لا نستطيع أن نقاوم القفز إلى هذه النوافذ عند كل الأدوار والنظر من خلالها على المشهد المحبب المحفور في حافظة ذكريات الطفولة الجميلة غير أننا وبعد أن تقدم بنا العمر مازلنا ولكن في خجل نختلس القفز إلى بعضها لنسترجع عبرها تلك النظرات الطفولية المرحة والراحلة في الزمن البعيد.
يشكو المنزل بطوابقه الخمسة من قلة ساكنيه وقلة زائريه. فلم يعد يسكنه إلا عائلة في الطابق الأرضى وأخرى في الطابق الأخير. وتعاني كلتا العائلتين كباقي العائلات في هذا الزمن القحط من قلة زيارة الأقارب والأصدقاء.
في الطابق الأخير تسكن إحدى بنات خالاتي مع أسرتها بعد أن توفيت خالتي والدتها منذ عدة سنوات. وقد زرت المنزل الواسع ذو السقف الخشبي العالي والشبابيك المرتفعة بعد وفاة خالتي فأحسست بالبرودة وبالفراغ يعم البيت كله على الرغم من وجود الأسرة بأكملها في هذا اليوم. هذا الفراغ الذي كانت تملأه خالتي وحدها وتنشر فيه الدفأ عندما كانت تستقبلنا بمفردها وتضمنا في حب شديد وحنان ينسينا هموم الحياة في الخارج ويشعرنا بالطمأنينة وبطفولتنا الآمنة تعود إلينا في أحضانها.
في الفناء أمام البيت رجال منهمكون في زرع أعمدة خشبية طويلة تمهيداً لبناء "صوان" وبعض الصبية حولهم يقومون بصف مجموعة من الكراسي على الجانبين.
دكان عم عبده تاجر الملابس الذي إعتاد أن يوزع علينا مشروب القرفة الساخن في ايام مولد سيدنا الحسين مازال مغلقاً منذ أن هجره رحمه الله.
في الطابق الأخير قضيت بعض الوقت مستعيداً الكثير من الذكريات متعدياَ الطابق الأرضي ببابه المفتوح على مصراعيه وساكنيه الذين يظهرون في الداخل بثيابهم السوداء والذين ينعون اليوم فقدان آخر من سكنت هذا الطابق من هذه العائلة العريقة التي جاورت عائلة جدي وذريته من بعده لزمن طويل في هذا البيت.
تذكرت حكايات والدتي حين كانت تسكن في هذا البيت حتى بعد زواجها من أبي وبعد أن رزقت بأخواتي الثلاثة الذين يكبرونني سناً من أن أبي كان يقف طويلاً عند شرفتهم المطلة على نهاية الحارة ويحرص دائماً على أن يتبادل حديثاً طويلاً مع جدتهم التي كان يكن لها حباً كثيراً. "كان والدك رحمه الله يحب الحديث مع النساء الكبيرات في العمر" هكذا قالت لي والدتي أطال الله في عمرها.
نادتنا إحدى نساء العائلة من الطابق الأرضي " الجثمان يحمل الآن إلى المسجد ". نزلت السلم الحجري سريعاً مستنداَ على سوره الحديدي و بخطوات متسابقة وصلت إلى المسجد ووقفت مع عائلتها في إنتظار وصولها. لحظات ووصلت العربة ووقفت أمام باب المسجد الأمامي المطل على الميدان المبتل بقطرات الأمطار. فتح الباب الخلفي من داخل العربة وتسابقنا لحمل الفقيدة وإدخالها إلي داخل المسجد إنتظاراً للصلاة عليها بعد أداء فريضة الظهر. صليت ركعتين تحية للمسجد وأخذت أجول ببصري في أنحاء المسجد الممتد حولي وفوقي وأنا أحتضن بناظري كل تفاصيله الدقيقة الحبيبة.
أفقت على صوت المنشد وهو يصدح مبتهلاً "مالي سواك ياربي" فانفلتت الدموع من عيني وبكيت شجناً.