السبت، 16 مارس 2019

مالي سواك يا ربي

أفقت على صوت المنشد وهو يصدح مبتهلاً "مالي سواك يا ربي" فانفلتت الدموع من عيني وبكيت شجناً.

كانت السماء خارج مسجد سيدنا الحسين غائمة في هذا اليوم وقد بدأت السحب بكاءها هي الأخرى من قبلي منذ الصباح الباكر لتجود بما لديها في هذا اليوم البارد من أيام الشتاء ولتبلل الطرقات المؤدية إلى حارة "الجاور علي" التي كانت مقصدي وبالتحديد إلى منزل جدي القديم في نهايتها المسدودة.





لا أذكر كيف وصلت إلى هناك مبكراً بعدما قلت للسائق: "حي الحسين من فضلك". فقد انتقلت بعد هذه الكلمات مباشرة بمخيلتي إلى هناك حيث الذكريات التي لا يمكن نسيانها أو مفارقتها في اليقظة أو في المنام. 

بدأت أصعد السلم الحجري العالي والذي تآكل معظمه بفعل السنين الطويلة التي تعاقبت عليه وأيضاً بفعل من تعاقب عليه نزولاً وصعوداً من شيوخ قضوا ورحلوا وترحمنا عليهم ورجالاً غدوا شيوخاً وشباباً أصبحوا رجالاً وكهولاً وأطفالاً صاروا شباباً وهو مازال منتصباً في مكانه بسوره الحديدي الذي يصعد ويدور معه عالياً وإن كانت قد بدأت تظهرعليه مظاهر الملل والإعياء من كثرة ما حمل واحتمل. ما زالت نوافذه الحديدية العالية بعتباتها الحجرية العريضة تنفتح فوق الأسطح المنخفضة أمامها على مسجد سيدنا الحسين بمآذنه القريبة ويزداد المنظر جمالاً كلما صعدنا الأدوار الأعلى. كنا ولا زلنا رغم العمر الطويل لا نستطيع أن نقاوم القفز إلى هذه النوافذ عند كل الأدوار والنظر من خلالها على المشهد المحبب المحفور في حافظة ذكريات الطفولة الجميلة غير أننا وبعد أن تقدم بنا العمر مازلنا ولكن في خجل نختلس القفز إلى بعضها لنسترجع عبرها تلك النظرات الطفولية المرحة والراحلة في الزمن البعيد.

يشكو المنزل بطوابقه الخمسة من قلة ساكنيه وقلة زائريه. فلم يعد يسكنه إلا عائلة في الطابق الأرضى وأخرى في الطابق الأخير. وتعاني كلتا العائلتين كباقي العائلات في هذا الزمن القحط من قلة زيارة الأقارب والأصدقاء.

في الطابق الأخير تسكن إحدى بنات خالاتي مع أسرتها بعد أن توفيت خالتي والدتها منذ عدة سنوات. وقد زرت المنزل الواسع ذو السقف الخشبي العالي والشبابيك المرتفعة بعد وفاة خالتي فأحسست بالبرودة وبالفراغ يعم البيت كله على الرغم من وجود الأسرة بأكملها في هذا اليوم. هذا الفراغ الذي كانت تملأه خالتي وحدها وتنشر فيه الدفأ عندما كانت تستقبلنا بمفردها وتضمنا في حب شديد وحنان ينسينا هموم الحياة في الخارج ويشعرنا بالطمأنينة وبطفولتنا الآمنة تعود إلينا في أحضانها.




في الفناء أمام البيت رجال منهمكون في زرع أعمدة خشبية طويلة تمهيداً لبناء "صوان" وبعض الصبية حولهم يقومون بصف مجموعة من الكراسي على الجانبين.

دكان عم عبده تاجر الملابس الذي إعتاد أن يوزع علينا مشروب القرفة الساخن في ايام مولد سيدنا الحسين مازال مغلقاً منذ أن هجره رحمه الله.

في الطابق الأخير قضيت بعض الوقت مستعيداً الكثير من الذكريات متعدياَ الطابق الأرضي ببابه المفتوح على مصراعيه وساكنيه الذين يظهرون في الداخل بثيابهم السوداء والذين ينعون اليوم فقدان آخر من سكنت هذا الطابق من هذه العائلة العريقة التي جاورت عائلة جدي وذريته من بعده لزمن طويل في هذا البيت. 

تذكرت حكايات والدتي حين كانت تسكن في هذا البيت حتى بعد زواجها من أبي وبعد أن رزقت بأخواتي الثلاثة الذين يكبرونني سناً من أن أبي كان يقف طويلاً عند شرفتهم المطلة على نهاية الحارة ويحرص دائماً على أن يتبادل حديثاً طويلاً مع جدتهم التي كان يكن لها حباً كثيراً. "كان والدك رحمه الله يحب الحديث مع النساء الكبيرات في العمر" هكذا قالت لي والدتي أطال الله  في عمرها.

نادتنا إحدى نساء العائلة من الطابق الأرضي " الجثمان يحمل الآن إلى المسجد ". نزلت السلم الحجري سريعاً مستنداَ على سوره الحديدي و بخطوات متسابقة وصلت إلى المسجد ووقفت مع عائلتها في إنتظار وصولها. لحظات ووصلت العربة ووقفت أمام باب المسجد الأمامي المطل على الميدان المبتل بقطرات الأمطار. فتح الباب الخلفي من داخل العربة وتسابقنا لحمل الفقيدة وإدخالها إلي داخل المسجد إنتظاراً للصلاة عليها بعد أداء فريضة الظهر. صليت ركعتين تحية للمسجد وأخذت أجول ببصري في أنحاء المسجد الممتد حولي  وفوقي وأنا أحتضن بناظري كل تفاصيله الدقيقة الحبيبة.

أفقت على صوت المنشد وهو يصدح مبتهلاً "مالي سواك ياربي" فانفلتت الدموع من عيني وبكيت شجناً.







الجمعة، 1 مارس 2019

ثروتي لولدي

نجح في أن ينقل ثروته بأكملها عندما أصبح حتماً عليه أن ينتقل مسافراً حزيناً.



قبل موعد السفر بمدة حرص على أن يحصي ثروته كلها والتي كان قد بذل جهداً مضنياً في جمعها على مدار سنين طويلة  قضاها هناك.

كل قطعة في هذه الثروة إقتناها بعد معاناة شديدة في البحث عنها وكان عليه أيضاً التحقق من صانعها ومتى صنعها وأين كانت صناعنها وماذا كان الغرض الظاهر والغرض الخفي من وراء صناعتها وما هو عمرها وتاريخها وما هو تقييم السابقين لها ممن رأوها قبله أو ممن إقتنوا قطعة مماثلة لها في يوم من الأيام. 

يقلبها بين يديه يتأكد من قيمتها وجودة صناعتها وما إذا كانت مستوفية لكل شروطه أم لا. وإذا كانت مستوفية يشتريها بدون أن يجادل البائع في ما سيدفعه فيها من أموال. 

بعض القطع تركها مكانها ولم يقتنيها حين أصبحت فعلاً بين يديه لأنه لم يستطع أن يتخذ قراراً نهائياً بشأنها رغم إستيفائها لجميع شروطه القاسية.

عندما  يعود إلى منزله وبعد بضعة ساعات يبدأ في الإحساس بحنين طاغ إليها فيسهر ليله يفكر فيها وفي المتعة التي ستجلبها له معها إذا إقتناها ثم إذا نام تأتيه في أحلامه كأجمل ما تكون. في اليوم التالي يكون كل همه هو كيف يصل إلى البائع قبل أن يصل إليه أحد آخرغيره ويقتنيها قبله. أما إذا لم يغلبه الحنين ولم تزره في أحلامه فينساها ولا يقتنيها.

بعد أن أحصى كل ثروته تمهيداً لعمل الترتيبات اللازمة لنقلها أخذ يفكر كيف يحميها من التلف المحتمل أثناء نقلها وكيف يغيب عنها الأنظار حتى لا يفطن أحد ممن سيحملها أو ستمر بين يديه أثناء سفرها إلى قيمتها الحقيقية المختفية في داخلها. 

شرع بعد ذلك في تغليفها بنفسه قطعة قطعة بعناية فائقة آخذاً في الإعتبار كل الإحتمالات الممكنة لتلفها ليتجنبها عند إعدادها للإنتقال والرحيل.

الآن وبعد أن أحس أنه راضٍ تماماً عن عمله الذي إستغرق وقتاً طويلاً في الإعداد بدأ يفكر في كيفية نقلها وبعد التفكير قرر أن يبتعد عن طرق الشحن المكلفة لأنها تلفت الأنظار دأئماً إلى قيمة ما بداخلها. إذن سيكون النقل في صناديق من الكرتون مستعملة من قبل وليست جديده مع الحرص ألا يكتب عليها ما يشي بما في داخلها. ويكون حجم الصناديق صغيراً لكي لا تكون ثقيلة على من يحملها فيكون إحتمال سقوطها عالياً.

وقد تم الأمر كم خطط له تماماً ووصلت الصناديق التي كان هو بنفسه في استقبالها بأمان تام وإن كان لم يستطع أن يخفي إنزعاجه من الطريقة الخشنة التي عامل بها العمال هذه الصناديق بمحتوياتها الثمينة وكاد قلبه أن يتوقف عن العمل عندما بدا له أن أحد العمال كاد أن يسقط صندوقاً منها قبل أن يصل إلى الأرض ببضعة سنتيمترات.

والآن إلى المتعة الكبرى. متعة إفراغ محتويات الصناديق وإعادة إكتشاف القطع التي بها والإستمتاع برؤيتها مرة أخرى تخرج إلى النور بعد أن غابت عنه طوال فترة سفرها كانت خلالها في غير مأمن في أيد أخرى غير يديه.

صرف الجميع من حوله إلا من ولده القريب من قلبه. نقلوا سوياً كل الصناديق إلى غرفة واحدة بحرص وبعناية تامة. وبدأت عملية إعادة الحياة إلى الثروة مرة أخرى.

عند فض كل قطعة من غلافها كان يقلبها بين يديه بعشق ظاهر في عينيه ليتأكد من أنها قد وصلت إلى مقرها الأخير بدون أي أضرار أو خدوش قد تؤثر على قيمتها. 

حرص على أن يحكي لولده ووريثه الوحيد تاريخ كل قطعة وكيف إقتناها وأين وجدها وقيمتها قبل أن يتناولها إبنه منه بعناية فائقة ثم يجد لها مكاناً يليق بها بجوار أخواتها ممن سبقوها فوق رف الكتب.


عاطف شوشه