إلى هذه الفئة المهنية الشهيرة أنتمي أنا.
هذه الفئة في بلادنا هي أقرب إلى فئة الفنيين منها إلى المهندسين. فما ندرسه في الجامعة يؤهلنا فقط لكي نكون من الفئة التي تقوم بالتفكير والتصميم وإيجاد الحلول العلمية للمشاكل العملية عن طريق البحث الممنهج والإبتكار. وهذا التأهيل لا توجد حاجة له على أرض الواقع في سوق العمل. لذا تجد أن السواد الأعظم من المهندسين في حياتهم العملية هم في الحقيقة يعملون كفنيين وهم أقرب إلى هذه الفئة منهم إلى المهندسين.
وكلمة فنيين عندنا في مجتمعنا المصري هي الكلمة المثقفة للفظ العامي والشائع "الصنايعية" ومفردها صنايعي. وهذه الكلمة تقترب لفظياً في كثير من حروفها من كلمة "صايع" المعروفة بكل ما تحمله من معاني معروفة متفق عليها. وأنا هنا لا أقصد أي إساءة ولكنها ملحوظة عابرة مرت في خاطري لعل لها وقع داخلي باطني في نفسي لا أعلمه وإن كنت أشعر به. ومما يدل على حسن نيتي هو ما ذكرته من أن المهندسين هم أقرب في عملهم إلى الصنايعيه.
وهناك دائما هذه المقارنة المستمرة بين المهندس والطبيب والتي يفوز فيها دائماً الطبيب على الرغم من نظرة المهندسين إلى الأطباء على أنهم "حافظين مش فاهمين" وأنهم بطبيعة دراستهم لا يفكرون ولا يستعملون عقلهم الذي سلب منهم منذ أيام دراستهم في الجامعة إلا من رحم الله.
لماذا إذن يفوز الطبيب دائماً في هذه المقارنة مع المهندس؟
الطبيب يتعامل مع أشياء داخل الإنسان مثل صحتة التي هي أهم شئ عنده وشكله العام ومظهره الذين يواجه بهما الآخرين ويعطيان الإنطباع الأول والأخير عنه ثم يتعامل مع تكوينه الشخصي الذي يعتد به وكذلك مع نفسيته التي يحللها له كما يحلل له دمه وأشياء أخرى كثيرة. وهذه أشياء حيوية لا يمكن للإنسان الإستغناء عنها.
أما المهندس فيتعامل مع أشياء خارجية يستعملها الإنسان مثل البناء الذي يسكن فيه ومع سيارته وماكينته وطرقه التي يمشي ويقود سيارته عليها ومنتجات أخرى يمكن للإنسان الإستغناء عن أكثرها أوعنها كلها بكل سهولة ويسر بل يوجد أناسٌ لا يمتلكونها من الأساس.
أضف إلى ذلك أن الطبيب يعمل دائماً وهو مستتر ومستخف. مستتر وراء الجدران في عيادته أو في غرفة العمليات أو من وراء جهاز طبي. وهو مستخف وراء زي يحميه وملثم لا يظهر منه إلا عينيه اللتين لا تفضحان شخصيته بحال من الأحوال. وهو في تستره واستخفائه يخفي أخطاءه الفادحه وراء حواجز لا يسمح لأحد باختراقها حتى لا يطلع أحد أو يفضح ما وراءها. وهو في كل الأحيان يتستر عليه كل من حوله من فئة الملثمين إذ أنهم وعلى الأرجح دائماً مشتركون معه في الخطأ. وإذا تستروا عليه اليوم فسوف يتستر عليهم غداً. وهم يحملون دائماً أعذارهم وتبريراتهم في جيوب معاطفهم البيضاء يختارون منها ما يناسب الموقف ويضمن لهم الخروج أمام أعين الضحايا ليس فقط سالمين من غضبهم بل أيضاَ غانمين كل ما تيسر لهم من أموالهم. واللجوء إلى الدين دائماً حتى وإن كانوا غير متدينين هو طريقهم الرحب الذي لا ليس يعترضه إشارة مرور ولا يغلب عليه الإزدحام ولا الوقوف أوالإنتظار و هو هذا "الأكلشيه" المحفوظ في كل الأفلام المصرية وخاصة القديمة: "إحنا عملنا اللي علينا والباقي على ربنا" وهو يشمل ضمنياً بل و حتمياً إحالة الأمر برمته على الله عز وجل وهل يمكن للمريض أو أهله أو "إللي يتشددوا له" أن يعترضوا على مشيئة الله أو يكفروا بها .
أما المهندس فتجده يعمل عارياً من كل أسباب التخفي والحماية مكشوفاً في عين الشمس يؤدي طقوسه أمام الجميع "إللي بيفهم واللي ما بيفهمش" وكل واحد رايح ولا جاي يعدل عليه ويناقشه في شغله الذي يقوم به غالباً على قارعة الطريق يبني أحد المباني أو يمد طريقاً أو يشرف على صرف صحي أو بياض أو صبة أسمنت بيعملها مقاول وبيغشه فيها ويطلع على سقاله وينزل من على سقف أو بيصلح عربيه عطلت على الطريق.والحال يكون أكثر صعوبة إذا كان من فئة المهندسين العسكريين الذين يوكل إليهم الكشف عن الألغام وتفكيكها في مناطق قاحلة شهدت حروباً ضارية. وهكذا لا توجد أي شغلانه يمكن أن يعملها المهندس في الخفاء ولا يوجد من يتستر عليه إن أخطأ فغالباً ليس له مساعدين وإن كان فهم من طبقة الصنايعيه الذين يتمنون له الغلط ليفضحوه حتى ولو لم يكن مخطئاً.
لن أسترسل أو أرهق تفكيري أكثر من ذلك في تلك المقارنة الغير العادلة وأترك لكل في تخصصه أن يضيف لها مما يفتح الله به عليه.
أنا إذاً من هذه الفئة الكادحة. فئة "المهندسون في الأرض" مع الإعتذار لعميد الأدب العربي طه حسين عن التقارب في هذا الإسم وإسم روايته الشهيرة "المعذبون في الأرض" وهي رواية جميلة في سردها وعباراتها ولغتها ولعل هناك أيضاً ذلك التقارب في المضمون وهو أن الرواية تحكي عن معاناة وبؤس طبقة مجهولة من الشعب المصري تسكن أماكن مجهولة في أعالي البلاد وتعاني معاناة لا يمكن لأحد أن يتصورها أو يصفها بهذه الفصاحة إلا طه حسين شخصياَ الذي هو أحد أبنائها وهو تقارب ملموس مع حالات البؤس والمعاناة التي يعاني منها أغلب المهندسون.
ولما كنت من هذه الفئة المهنية فكان لزاماً علي أن أسافر للعمل فيماوراء البحارتاركاً ورائي بعض الفرص الفقيرة لمن لم يستطع السفر أو الهجرة.
وكان لزاماً علي أيضاً أن أرجع في يوم من الأيام وأبحث من جديد عن الأصحاب القدامى. ولقيتهم جميعاً بخير والحمد لله يتقابلون على إحدى المقاهي في منطقة شعبية على قارعة الطريق وكأنه قدر إن لم تجبر عليه تختاره بنفسك.
شئ غير قليل يشدني إليهم ويحاول أن يبقيني معهم وهو ذكرى الأيام الجميلة التي قضيناها معاً أيام الجامعة وذكرى الرحلات والمعسكرات والبيات معاً في الكلية وذكرى أيام إنتخابات إتحاد الطلبة وذكرى لقاء الأربعاء الشعري.
وجلست معهم محاولاً كسر ملامح الإبتعاد الطويل والإندماج في مواضيعهم أو في مواضيع عامة يمكن أن تهم الجميع.
شرب الشاي.
تبادل النكات الرخيصة.
التندر على أي شئ أو كل شئ.
تدخين الشيشه والسجائر أو كليهما معاً.
الإعتراض أيضاً على أي شئ أو على كل شئ.
علق أحدهم على رسالة "ثقافية" أرسلها إليهم كبيرهم. تظاهرت بالإستغباء وعدم الفهم فأنا لا أريد أن يكون هذا هو شاغلنا في مثل هذا الجمع وبعد أن تخطينا مراحل المراهقة بسنين طويلة. لاحظ كبيرهم موقفي فأراد أن يستجلي الأمر ويقطع الشك باليقين فبدأ يشرح لي على الملأ وفي سفور مقصود الرسالة بتفاصيلها منتظراً رد فعلي ليعرف "يعني أنا معاهم ولا مش معاهم" وأنه لا مجال هنا للإستغباء.
غبت فترة عن لقاءاتهم وعدت أسال عن موعد اللقاء التالي فقال لي كبيرهم أن الميعاد الجديد قد تأخر ساعتين عن الموعد المعتاد. وقال لي عندما أحس أنني ممعتض من هذا التأخير وخاصة أننا الآن في موسم الشتاء "ده في ناس بييجوا من آخر الدنيا عشان الميعاد ده" وكأنه يريد أن يزيد الأمر صعوبة كي يبقيني بعيداً عنهم.
وفي موقف مماثل حكى لي أنه وجه دعوة عامة للسفر إلى شاطئ البحر لمجموعة من الأصدقاء حضروا جميعهم إلا واحداً كان يصر على أن توجه له الدعوة بشكل شخصي. ولكنه رفض وأعاد الدعوة مرة أخرى بعموميتها فرضخ الصديق وقبل أن ينضم إليهم بدون دعوة شخصية.
وكانت الرسالة هنا واضحة جلية هو أنني إذا كنت أريد أن أنضم إليهم من جديد أو إليه على الأصح فيجب أن أرضى وأرضخ لشروطهم ولا أفرض عليهم نسقاً آخر لإجتماعاتهم غير هذا النسق الذي إختاروه لأنفسهم ألا وهو نسق الفنيين أو "الصنايعية" أو هبوطاً بالمعنى إلى نسق " الصايعين".
كتب هذا المقال وحرره/ عاطف شوشه