الاثنين، 24 يونيو 2019

المهندسووون في الأرض


إلى هذه الفئة المهنية الشهيرة أنتمي أنا.



هذه الفئة في بلادنا هي أقرب إلى فئة الفنيين منها إلى المهندسين. فما ندرسه في الجامعة يؤهلنا فقط لكي نكون من الفئة التي تقوم بالتفكير والتصميم وإيجاد الحلول العلمية للمشاكل العملية عن طريق البحث الممنهج والإبتكار. وهذا التأهيل لا توجد حاجة له على أرض الواقع في سوق العمل. لذا تجد أن السواد الأعظم من المهندسين في حياتهم العملية هم في الحقيقة يعملون  كفنيين وهم أقرب إلى هذه الفئة منهم إلى المهندسين.

 وكلمة فنيين عندنا في مجتمعنا المصري هي الكلمة المثقفة للفظ العامي والشائع "الصنايعية" ومفردها  صنايعي. وهذه الكلمة تقترب لفظياً في كثير من حروفها من كلمة "صايع" المعروفة بكل ما تحمله من معاني معروفة متفق عليها. وأنا هنا لا أقصد أي إساءة ولكنها ملحوظة عابرة مرت في خاطري لعل لها وقع داخلي باطني في نفسي لا أعلمه وإن كنت أشعر به. ومما يدل على حسن نيتي هو ما ذكرته من أن المهندسين هم أقرب في عملهم إلى الصنايعيه.

وهناك دائما هذه المقارنة المستمرة بين المهندس والطبيب والتي يفوز فيها دائماً الطبيب على الرغم من نظرة المهندسين إلى الأطباء على أنهم "حافظين مش فاهمين" وأنهم بطبيعة دراستهم لا يفكرون ولا يستعملون عقلهم الذي سلب منهم منذ أيام دراستهم في الجامعة إلا من رحم الله.
لماذا إذن يفوز الطبيب دائماً  في هذه المقارنة مع المهندس؟

الطبيب يتعامل مع أشياء داخل الإنسان مثل صحتة التي هي أهم شئ عنده وشكله العام ومظهره الذين يواجه بهما الآخرين ويعطيان الإنطباع الأول والأخير عنه ثم يتعامل مع تكوينه الشخصي الذي يعتد به وكذلك مع نفسيته التي يحللها له كما يحلل له دمه وأشياء أخرى كثيرة. وهذه أشياء حيوية لا يمكن للإنسان الإستغناء عنها.

أما المهندس فيتعامل مع أشياء خارجية يستعملها الإنسان مثل البناء الذي يسكن فيه  ومع سيارته وماكينته وطرقه التي يمشي ويقود سيارته عليها ومنتجات أخرى يمكن للإنسان الإستغناء عن أكثرها أوعنها  كلها بكل سهولة ويسر بل يوجد أناسٌ لا يمتلكونها من الأساس.

أضف إلى ذلك أن الطبيب يعمل دائماً وهو مستتر ومستخف. مستتر وراء الجدران في عيادته أو في غرفة العمليات أو من وراء جهاز طبي. وهو مستخف وراء زي يحميه وملثم لا يظهر منه إلا عينيه اللتين لا تفضحان شخصيته بحال من الأحوال. وهو في تستره واستخفائه يخفي أخطاءه الفادحه وراء حواجز لا يسمح لأحد باختراقها حتى لا يطلع أحد أو يفضح ما وراءها. وهو في كل الأحيان يتستر عليه كل من حوله من فئة الملثمين إذ أنهم وعلى الأرجح دائماً مشتركون معه في الخطأ. وإذا تستروا عليه اليوم فسوف يتستر عليهم غداً. وهم يحملون دائماً أعذارهم وتبريراتهم في جيوب معاطفهم البيضاء يختارون منها ما يناسب الموقف ويضمن لهم الخروج أمام أعين الضحايا ليس فقط سالمين من غضبهم بل أيضاَ غانمين كل ما تيسر لهم من أموالهم. واللجوء إلى الدين دائماً حتى وإن كانوا غير متدينين هو طريقهم الرحب الذي لا ليس يعترضه إشارة مرور ولا يغلب عليه الإزدحام ولا الوقوف أوالإنتظار و هو هذا "الأكلشيه" المحفوظ في كل الأفلام المصرية وخاصة القديمة: "إحنا عملنا اللي علينا والباقي على ربنا" وهو يشمل ضمنياً بل و حتمياً إحالة الأمر برمته على الله عز وجل وهل يمكن للمريض أو أهله أو "إللي يتشددوا له" أن يعترضوا على مشيئة الله أو يكفروا بها .

أما المهندس فتجده يعمل عارياً من كل أسباب التخفي والحماية مكشوفاً  في عين الشمس يؤدي طقوسه أمام الجميع "إللي بيفهم واللي ما بيفهمش" وكل واحد رايح ولا جاي يعدل عليه ويناقشه في شغله الذي يقوم به غالباً على قارعة الطريق يبني أحد المباني أو يمد طريقاً أو يشرف على صرف صحي أو بياض أو صبة أسمنت بيعملها مقاول وبيغشه فيها ويطلع على سقاله وينزل من على سقف أو بيصلح عربيه عطلت على الطريق.والحال يكون أكثر صعوبة إذا كان من فئة المهندسين العسكريين الذين يوكل إليهم الكشف عن الألغام وتفكيكها في مناطق قاحلة شهدت حروباً ضارية. وهكذا لا توجد أي شغلانه يمكن أن يعملها المهندس في الخفاء ولا يوجد من يتستر عليه إن أخطأ فغالباً ليس له مساعدين وإن كان فهم من طبقة الصنايعيه الذين يتمنون له الغلط ليفضحوه حتى ولو لم يكن مخطئاً.

لن أسترسل أو أرهق تفكيري أكثر من ذلك في تلك المقارنة الغير العادلة وأترك لكل في تخصصه أن يضيف لها مما يفتح الله به عليه.

أنا إذاً من هذه الفئة الكادحة. فئة "المهندسون في الأرض" مع الإعتذار لعميد الأدب العربي طه حسين عن التقارب في هذا الإسم وإسم روايته الشهيرة "المعذبون في الأرض" وهي رواية جميلة في سردها وعباراتها ولغتها ولعل هناك أيضاً ذلك التقارب في المضمون وهو أن الرواية تحكي عن معاناة وبؤس طبقة مجهولة من الشعب المصري تسكن أماكن مجهولة في أعالي البلاد وتعاني معاناة لا يمكن لأحد أن يتصورها أو يصفها بهذه الفصاحة إلا طه حسين شخصياَ الذي هو أحد أبنائها وهو تقارب ملموس مع حالات البؤس والمعاناة التي يعاني منها أغلب المهندسون.

ولما كنت من هذه الفئة المهنية فكان لزاماً علي أن أسافر للعمل فيماوراء البحارتاركاً ورائي بعض الفرص الفقيرة لمن لم يستطع السفر أو الهجرة.

وكان لزاماً علي أيضاً أن أرجع في يوم من الأيام وأبحث من جديد عن الأصحاب القدامى. ولقيتهم جميعاً بخير والحمد لله يتقابلون على إحدى المقاهي في منطقة شعبية على قارعة الطريق وكأنه قدر إن لم تجبر عليه تختاره بنفسك.


شئ غير قليل يشدني إليهم ويحاول أن يبقيني معهم وهو ذكرى الأيام الجميلة التي قضيناها معاً أيام الجامعة وذكرى الرحلات والمعسكرات والبيات معاً في الكلية وذكرى أيام إنتخابات إتحاد الطلبة وذكرى لقاء الأربعاء الشعري.

وجلست معهم محاولاً كسر ملامح الإبتعاد الطويل والإندماج في مواضيعهم أو في مواضيع عامة يمكن أن تهم الجميع. 

شرب الشاي.
تبادل النكات الرخيصة.
التندر على أي شئ أو كل شئ.
تدخين الشيشه والسجائر أو كليهما معاً.
الإعتراض أيضاً على أي شئ أو على كل شئ.


علق أحدهم على رسالة "ثقافية" أرسلها إليهم كبيرهم.  تظاهرت بالإستغباء وعدم الفهم فأنا لا أريد أن يكون هذا هو شاغلنا في مثل هذا الجمع وبعد أن تخطينا مراحل المراهقة بسنين طويلة. لاحظ كبيرهم موقفي فأراد أن يستجلي الأمر ويقطع الشك باليقين فبدأ  يشرح لي على الملأ وفي  سفور مقصود الرسالة  بتفاصيلها  منتظراً رد فعلي ليعرف "يعني أنا معاهم ولا مش معاهم"  وأنه لا مجال هنا للإستغباء.

غبت فترة عن لقاءاتهم وعدت أسال عن موعد اللقاء التالي فقال لي كبيرهم أن الميعاد الجديد قد  تأخر ساعتين عن الموعد المعتاد. وقال لي عندما أحس أنني ممعتض من هذا التأخير وخاصة أننا الآن في موسم الشتاء "ده في ناس بييجوا من آخر الدنيا عشان الميعاد ده" وكأنه يريد أن يزيد الأمر صعوبة كي يبقيني بعيداً  عنهم.

وفي موقف مماثل حكى لي أنه وجه دعوة عامة للسفر إلى شاطئ البحر لمجموعة من الأصدقاء حضروا جميعهم إلا واحداً كان يصر على أن توجه له الدعوة بشكل شخصي. ولكنه رفض وأعاد الدعوة مرة أخرى بعموميتها فرضخ الصديق وقبل أن ينضم إليهم بدون دعوة شخصية.

وكانت الرسالة هنا واضحة جلية هو أنني إذا كنت أريد أن أنضم إليهم من جديد أو إليه على الأصح فيجب أن أرضى وأرضخ لشروطهم ولا أفرض عليهم نسقاً آخر لإجتماعاتهم  غير هذا النسق الذي إختاروه لأنفسهم ألا وهو نسق الفنيين أو "الصنايعية" أو هبوطاً بالمعنى إلى نسق " الصايعين".



كتب هذا المقال وحرره/ عاطف شوشه

الثلاثاء، 18 يونيو 2019

أنا وهي وتشارلي



قالت له بتأفف و بضيق شديد: أنت كثير الحركة

تململت وأشاحت عنه بوجهها 

عبست وأدارت له ظهرها

كان دائما ما يعتقد أن حركته النشطة هذه هي أجمل ما يميز علاقتهما. الآن هي أصبحت تكره هذه الحركة. 

ترى هل هي قد صارت تكرهه هوالآخر؟



كان يحلم بها طوال سنين غربته الطويلة. كان يحلم بدفء وجودها بجواره. والآن أدرك أنه لن يفيق من حلمه أبداً وأن الحلم سيظل حلماً وأنه لن يرجع من غربته أبداً وأن الغربة مازالت مستمرة حتى بعد عودته الأسطورية التي أيقن الآن أنها عودة ظاهرية.

بعد أن تأكد أنها تكره حركته الدائمة والمستمرة أقسم على نفسه ألا يتحرك بعد ذلك أبداً.

يتذكر الآن قصة قصيرة قرأها في كتاب صغير باللغة الإنجليزية إشتراه من بائع على سور الأزبكية منذ فترة طويلة ولكنه لا ينساها. القصة تحكي عن شخص يدعى  تشارلي . . .

 سألها: من هذا ؟
قالت باقتضاب: "هذا هو تشارلي" ثم صمتت ولم تلتفت إليه. 
نظر نحوها باستغراب شديد ونحو هذا الشاب اليافع الذي يجلس بين يديها طفلاً لا حول له ولا قوة. فاقد النطق فهولا يتكلم مطلقاً.  قد أصاب أطرافه الأربعة الشلل التام فهو لا يتحرك بنفسه أبداً. وهي رغم شبابها وجمالها وحيويتها تقوم على جميع شؤنه كما تفعل الأم مع طفلها الصغير وهو لا يستطيع أن يفعل شيئاً إلا النظر إليها وهي تفهم ما لا يستطيع أن يقوله بمجرد النظر في عينيه.
نظر إلى الرجل العاجز الذي يجلس أمامه ثم نظر إليها  مرة أخرى مستفسراً. قالت وهي مازالت منهمكة في قضاء شئون رجلها: كان تشارلي يحبني إلى درجة الجنون وكان يأتي كل ليلة حيث أعمل هنا في هذا الملهى ويكتفي بتقديم هدية في بعض الأحيان ولكنه في كل الأحيان كان يجلس بعيداً حيث يمكنه أن يراني طوال الوقت وأنا أرقص على المسرح أو أهتم ببعض الزبائن أقدم لهم الشراب وأجالسهم ولا أغيب عن نظره ولو للحظة واحدة ثم ينصرف في آخر الليل صامتاً. وفي يوم من الأيام جاء تشارلي ونظر إلي وجلس في مكانه المعتاد يرقبني وأنا أؤدي عملي ولم يتحرك بعد ذلك أبداً ولم يقم من مكانه ومن يومها وهو يجلس هكذا كما تراه.

أيقن لماذا يتذكر هذه القصة الآن. وكأنه هو نفسه  تشارلي عندما أقسم بينه وبين نفسه ألا يتحرك بعد ذلك.

صار إذا ظهرت أمامه لا يستطيع الوقوف حتى وإن تحامل على نفسه وإن حاول بكل جهده فما أن ينتصب حتى يتذكر كراهيتها المعلنة لحركته فيفقد سيطرته على نفسه وترتخي عضلات جسده وتخونه قوته فيعود كما كان.

أصبح  في عجزه صورة أخرى من تشارلي العاجز ولكن من دون أن يجد أحداً ينظر في عينيه ليعرف ماذا يريد.




كتب هذا المقال وحرره/ عاطف شوشه








الأحد، 16 يونيو 2019

يا شريف إسأل الله العافية





قال صلى الله عليه وسلم: "سلوا الله العفو والعافية ، فإن أحدًا لم يعط بعد اليقين خيرًا من العافية"

قرأت في أخبار الصالحين أن أحد الزهاد قد دعا الله أن يكفيه رزق رغيفين كل يوم  ويتفرغ لعبادته حتى لا ينشغل بطلب الرزق عن ذكر الله والعمل في طاعته فكان أن أتهم خطئاً في مسألة لم يقترفها وأُدخل السجن عقاباً له عى ذلك فكان يؤتى له برغيفين هما زاده كل يوم في محبسه. واستمر الحال على ذلك فترة من الزمان وهو في حيرة من أمره لا يرى له خلاصاً مما ألم به من بلاء إلى أن أُلقي في خاطره أنه دعا الله رزق الرغيفين دون أن يسأله العافية في هذا الرزق ففطن إلى سبيل الخلاص فدعا الله مرة أخرى أن يرزقه الرغيفين وسأله العافية في هذا الرزق فكان أن أُخلي سبيله من السجن.

تذكرت هذه القصة وتذكرت أحاديث سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم التي يحثنا فيها على طلب العافية من الله تعالى في الدين والدنيا والأهل والمال. تذكرت كل هذا وأنا أستمع إلى مقدم البرامج التليفزيونية الشهير "شريف مدكور" وهو يحكي قصته مع مرض السرطان والتي تتلخص في أنه طلب من الله تعالى وهو عند بيته الحرام أن يريه آية من عنده تطمأنه بأنه يسير على الطريق القويم وتطمأنه بأن الله سبحانه راضٍ عنه فكان أن أصيب بهذا المرض وكان رضاه بقدر الله عز وجل وكان مايحكيه من دعاء خلق كثير له بالشفاء منهم من يعرفهم وكثير منهم لا يعرفهم منهم أناس عاديون وأناس ذو حيثية ومكانة مرموقة في المجتمع منهم الرجال والنساء والأطفال الذين توافدوا لزيارته في المستشفى وأهدوا له من باقات الأزهار ما ضاقت به ممرات المستشفى. واعتبر شريف أن هذا الإبتلاء هو الآية التي طلبها من الله واطمأنت بها نفسه إلى حسن عمله. 



فما أشبه قصة شريف بقصة الزاهد الذي سأل الله الرزق ولم يسأله العافية. 

ومازال الكثير من الناس يعتقدون أن البلاء هو علامة من علامات رضا الله عنهم.

ولقد سمعت أحد الشيوخ السعوديين في المسجد يحكي أن إمرأة خُطبت إلى سيدنا محمد ووُصفت له بأنها سليمة معافية من كل الأمراض فرفض أن يتزوجها لهذا السبب. ومن الغريب في هذه القصة أننا لم يصل إلينا فيما وصل من أخبار زوجات الرسول أن إحداهن كانت مبتلية بمرض أو عاهة ما فلم يرفض إمرأة لكونها صحيحة ومعافية.

"لأن أعافى فأشكر أحب إلي من أن أبتلى فأصبر" .. بهذه الكلمات الندية الجلية كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يعلن بين صحابة النبي صلى الله عليه وسلم رؤية الإسلام الواضحة تجاه قضية السراء والضراء .. قضية البلاء والإبتلاء.

وكان عبد الأعلى التيمى يقول: "أكثروا من سؤال الله العافية، فإن المبتلى وإن اشتد بلاؤه ليس بأحق بالدعاء من المعافى الذي لا يأمن البلاء، وما المبتلون اليوم إلا من أهل العافية بالأمس، وما المبتلون بعد اليوم إلا من أهل العافية اليوم، ولو كان البلاء يجر إلى خير ما كنا من رجال البلاء، إنه رُب بلاء قد أجهد في الدنيا وأخزى في الآخرة، فما يؤمن من أطال المقام على معصية الله أن يكون قد بقى له في بقية عمره من البلاء ما يجهده في الدنيا ويفضحه في الآخرة".

ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدع هؤلاء الدعوات حين يمسي وحين يصبح: «اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة، اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي، اللهم استر عوراتي وآمن روعاتي؛ اللهم احفظني من بين يدي ومن خلفي، وعن يميني وعن شمالي، ومن فوقي، وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي» 

يا شريف إسأل الله العافية.



كتب هذا المقال وحرره/ عاطف شوشه