الثلاثاء، 23 يوليو 2019

مرثية رجل تافه


وقد كان رحمه الله رجلاً تافهاً.

عاش تافهاً ومات تافهاً.

 لم يبقِ أثراً ما يذكره الناس به.




 كان إذا تحدث يختار المواضيع التافهة التي لا يلتفت الناس لها ولا يجدون متعة في التطرق إليها  أو المشاركة في التحدث فيها.

وكان إذا كف عن الكلام شغل نفسه بأشياء تافهة تجعل من حوله يتعجبون كيف يشغل نفسه بهذه الأشياء التي لا تفيده ولا تفيد أحداً آخر.

أحسست دوماً بالشفقة عليه وعلى الكيفية التافهة التي يعيش بها حياته ولكنني في معظم الأحيان كنت أحس بغيظ شديد مما يقوله أومما يفعله حتى أنني كدت في بعض الأحيان أن أزجره على الرغم من فارق السن الكبير بيننا.

زوجته قبل طلاقهما فقدت عن قصد معظم الأشياء التافهة التي كان يحتفظ بها قبل زواجه وحتى بعد أن تزوج. وكان يذكر ذلك بحنق شديد مدعياً أن تلك الأشياء كان لها من القيمة مما أثر فقدها على مستقبل حياته العملية إذ كان ينوي جمعها في كتاب بل في سلسلة من الكتب ونشرها على الناس لينتفعوا بما أودعه فيها من علم وخبرة. ولكن فقدها بهذه الكيفية المهينة حرم البشرية كلها من فائدتها إلى الأبد وأخر ركب الحضارة والتقدم في هذا الكون.


كان قد طلق زوجته لأسباب سريرية حسب تعبيره كدت أجزم بأنها أسباب تافهة ولم أشأ أن أخوض معه في تفاصيل هذه الأسباب أو أناقشه فيها وذلك على غير ما كان يحاول دفعي إليه. و كنت أحثه دوماً على ردها رغم عدم معرفتي لها  فمهما كانت عيوبها فلم أكن لأتصور أنها تكون أسوأ ولا أتفه منه ولكنني ببساطة شديدة أردت أن أجنبه ما يتعرض له من الإبتزاز والمهانة وهو يبحث عن زوجة جديدة وقد تعدى عمره السبعين عاماً. فقد إشترك رحمه الله في أحد المواقع الإلكترونية التافهة التي تعد مشتركيها بإيجاد شريك الحياة المناسب في أسرع وقت ممكن وتسهب في وصف خبرتها الطويلة في هذا المجال مما يميزها عن مثيلاتها من هذه الشركات. ولم تكن بالطبع صدفة أن هذه الشركة نفسها تقوم ببيع منتجات منزلية تافهة ذات جودة متدنية إذ كان مندوبيها يتصلون به ليخبروه أنهم وجدوا له "عروساً" ولكي يراها لابد أن يشتري منتج معين أو يشتري مجموعة من المنتجات بمبلغ محدد فيفعل ويشتري مالا يحتاج إليه. ووصل الأمر بأن إتصلت به إحدى مندوبات الشركة ذات مرة وقالت له أن العروس التي هم بصدد أن يقدموها له هذه المرة تشترط عليه لكي تقبل بمقابلته أن يكون لديه بعض المنتجات التافهة من شركتهم حددوها له فاشتراها راضخاً ذاعناً.  وكان إذا استنفذ البائع معه كل الحيل التي لم تكن لتخفى على أحد وباعه كل مايريد أن يبيعه إياه وأكثر مما يريد يسلمه إلى بائع جديد أو بائعة جديدة من نفس الشركة أو حتى من شركة أخرى ليبدأ معه من جديد دورة البحث عن العروس المرتقبة وما يتبعها من دورة شراء جديدة. وعلى الرغم من تكدس بيته بالبضائع التي رأيتها بنفسي فإنه لم يتزوج ثانية حتى غادر الدنيا.



وعندما ألححت عليه أن يكف عن البحث ويعيد زوجته التي طلقها والتي تحظى بحب ملحوظ من جميع أفراد أسرته قال لي أنه يريد أن يرزق بأولاد وهي أصبحت غير قادرة على الإنجاب لبلوغها السن الذي تتوقف فيه النساء عن الإنجاب. وقد دفعه حنينه الشديد إلى الأولاد إلى أنه كان يلاعب أولاد البوابين في الشارع والذين كانوا يلتفون حوله كلما رأوه ويطلبوا منه أن يحملهم ويدور بهم غير عابئين بالرجال الواقفين معه يتحدثون معه في أمور جدية وكانوا يصعدون إلى شقته في الدور العلوي ويطرقون بابه فيفتح لهم فيندفعون إلى الداخل بغير إستئذان فيستضيفهم ويقدم لهم الحلوى. حتى أن أحد الجيران قال لي أنه كف عن زيارته لأنه في كل مرة يزوره فيها يجد عنده أطفال البوابين وكذلك طفلي جارتنا الشرسين والقادمة إلينا من إحدى العشوائيات القريبة وكلهم كانوا يعيثون في بيته بغير إحترام لوجود أحد وأيضاً بغير أي قيود تذكر.



وذات يوم رحل عن العالم الذي نعيش فيه ولم يحظ بشئ مما ضيع البقية الباقية من عمره في الإهتمام به أو البحث عنه إلا ماكتبه الله له.

لم يبقِ أثراً ما يذكره الناس به.



رحمه الله عاش تافهاً ومات تافهاً.



كتب هذا المقال وحرره/ عاطف شوشه



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق