السبت، 28 مايو 2016

مولانا و الدرويش


كان الدرويش الرحال "شمس الدين تبريز" يقف بباب الخان الذي نزل به في مدينة "قونية" عندما مر مولانا الفقيه والمعلم "جلال الدين الرومي" على مطيته وحوله عدد غير قليل من تلاميذه.

تقدم شمس الدين تبريز إلى مولانا جلال الدين الرومي وسأله السؤال الذي ظل يرحل سنوات طويلة قاصداً أهل العرفان والمعرفة في جميع الأقطار والأمصار باحثاً له عن إجابة:

من الأفضل أبا يزيد البسطامي الذي قال: "سبحاني ما أعظم شأني" أم النبي محمد إذ قال"سبحانك ما عبدناك حق عبادتك"؟




أجاب مولانا "إن أبا يزيد شرب شربة فذهل بعدها أما نبينا محمدا فكان يرقى مع كل نفس يتنفسه"

هنا صرخ شمس الدين صرخة عالية ثم سقط بعدها مغشياً عليه. أمر مولانا تلاميذه أن يحملوا شمس الدين إلى داره وهناك وبعد أن أفاق إختلى بمولانا تسعون يوماً لا يجرؤ أحد على الدخول عليهما. خرج مولانا بعد هذه الخلوة يرقص في الأحياء والأسواق ويضرب  بالقدمين على الأرض وينشد الغزليات المثيرة المؤثرة.

شمس الدين تبريز من العارفين العظام وكلمة عارف عند الصوفية تعني معرفة الله إذ يكشف الله الحجب عن نور وجهه الكريم لمريده. وكانت إجابة مولانا على هذا السؤال أن أبا يزيد وهو أيضا من العارفين أصابه الذهول عندما كشفت له الحجب ولم يحتمل هذا الوصال الإلهي فنطق بلسان الله أم نبينا محمد فكان يرقى في قرب الله ويحتمل المزيد.

كانت الخلوة هي المدرسة التي علم فيها شمس الدين مولانا الطريق إلى الله. أصبح بعدها مولانا من العارفين السالكين وصار بعدها شمس الأستاذ الروحي للرومي، الذي ظل يحتفظ لأستاذه طوال حياته بحبٍّ وعرفان للجميل لا حدود لهما. وبلغ من تأثير "شمس تبريز" أنه استحوذ على روح الرومي ومشاعره ولم يعد يصبر عنه، مما دفع مريديه، كما أُشيع، إلى اغتياله.

وبعد اختفاء شمس، أنشأ الرومي الحفل الموسيقي الروحي المعروف بـ"السماع"، ثم نَظَم في ذكرى شيخه وأستاذه الروحي مجموعة من الأناشيد حملت اسمه:ديوان شمس تبريزي، وهي مجموعة أناشيد وقصائد تمثل الحب والأسى، وإنْ كانت في جوهرها تنشد الحب الإلهي المقدس.


إنصرف مولانا عن كرسي تدريس الفقه وعن إمامة الناس في الصلاة إلى إرشاد المريدين إرشاداً صوفياً كاملاً إمتزج بالرقص والسماع أي حلقة الذكر التي تجمع الشيخ ومريديه وما يصحب ذلك من عزف ودوران.

ألف مولانا ألاف الأبيات الشعرية الغزلية الصوفية ومن أشهرها قصيدة "شكوى الناي" التى بدأ بها كتابه المسمى "المثنوي" والذي بلغت أبياته خمسة وعشرون ألفاً والذي يطلق عليه تقريظاً "قرآن بهلوي".

وهو يشبه الإنسان بالناي في هذه القصيدة الرائعة. فكما يحن الناي إلى أصله من الغاب الذي قطع منه على ضفاف الأنهار ويبث حنينه نغمات شجية حزينة كذلك الإنسان يحن ويسعى إلى العودة إلى الله أصل وجوده وخالقه.


أنصت إلى الناي يحكي حكايته..

ومن ألم الفراق يبث شكايته:

ومذ قطعت من الغاب، والرجال والنساء لأنيني يبكون
أريد صدراً مِزَقاً مِزَقاً برَّحه الفراق
لأبوح له بألم الاشتياق..
فكل من قطع عن أصله
دائماً يحن إلى زمان وصله..





كان جلال الدين مسلماً مؤمناً بتعاليم الإسلام السمحة لكنه استطاع جذب أشخاص من ديانات وملل أخرى وذلك بسبب تفكيره المرن المتسامح ، فطريقته تشجع التساهل اللامتناهي مع كل المعتقدات والأفكار ، كما كان يدعو إلى التعليل الإيجابي ، ويحث على الخير والإحسان وإدراك الأمور عن طريق المحبة ، وبالنسبة إليه وإلى أتباعه فإن كل الديانات خيرة وحقيقية بمفاهيمها ، لذلك كانوا يعاملون المسلمين والمسيحيين واليهود معاملة سواسية.

ومما يذكر أن التتار إمتنعوا عن غزو ودخول مدينة "قونية" إحتراماً وإجلالاً لمولانا الذي كان يقطنها. وفي يوم وفاته خرجت جنازته بعد صلاة الفجر ولم تصل المقبرة إلا عند المغرب إذ خرج كل سكان المدينة لتوديع مولانا وإمتلأت بهم طرقات المدينة المسلمون يتلون القرآن والمسيحيون يتلون الإنجيل واليهود يتلون التوراة ترحماً على مولانا الذي يقول:



في اليوم الذي أموت فيه
ستمر جنازتي
لكن لا تظن أن قلبي سيبقى على الأرض
فلا تبك ولا تترحم عليّ 
ستقع في فخ الشيطان 
لا تبكي على قبري قائلا :- " واسفاه ، رحل !"
فانه لي زمن اللقاء البهيج


بعد وفاة مولانا إنتشرت طريقته والتي سميت "المولوية" ويُعَد السماع، أو الرقص الكوني للدراويش الدوَّارين، من أشهر فنون الطريقة المولوية. وهو طقس له رمزيته: فالثياب البيض التي يرتديها الراقصون ترمز إلى الكفن؛ والمعاطف السود ترمز إلى القبر؛ وقلنسوة اللباد ترمز إلى شاهدة القبر؛ والبساط الأحمر يرمز إلى لون الشمس الغاربة؛ والدورات الثلاث حول باحة الرقص ترمز إلى الأشواط الثلاثة في التقرب إلى الله، وهي: طريق العلم والطريق إلى الرؤية والطريق إلى الوصال؛ وسقوط المعاطف السود يعني الخلاص والتطهر من الدنيا؛ وتذكِّر الطبول بالنفخ في الصُّور يوم القيامة؛ ودائرة الراقصين تُقسَم على نصفَي دائرة، يمثل أحدهما قوس النزول أو انغماس الروح في المادة، ويمثل الآخر قوس الصعود أي صعود الروح إلى بارئها؛ ويمثل دوران الشيخ حول مركز الدائرة الشمس وشعاعها؛ أما حركة الدراويش حول الباحة فتمثل القانون الكوني ودوران الكواكب حول الشمس وحول مركزها.




شكوى الناي

أنصت إلى الناي يحكي حكايته..
ومن ألم الفراق يبث شكايته:
ومذ قطعت من الغاب، والرجال والنساء لأنيني يبكون
أريد صدراً مِزَقاً مِزَقاً برَّحه الفراق
لأبوح له بألم الاشتياق..
فكل من قطع عن أصله
دائماً يحن إلى زمان وصله..
وهكذا غدوت مطرباً في المحافل
أشدو للسعداء، وأنوح للبائسين
وكلٌ يظن أنني له رفيق
ولكن أياً منهم (السعداء والبائسين) لم يدرك حقيقة ما أنا فيه!!
لم يكن سري بعيداً عن نواحي، ولكن
أين هي الأذن الواعية، والعين المبصرة؟!!
فالجسم مشتبك بالروح، والروح متغلغلة في الجسم..
ولكن أنى لإنسان أن يبصر تلك الروح؟
أنين الناي نار لا هواء..
فلا كان من لم تضطرب في قلبه النار..
نار الناي هي سورة الخمر، وحمى العشق
وهكذا كان الناي صديق من بان
وهكذا مزقت ألحانه الحجب عن أعيننا..
فمن رأى مثل الناي سماً وترياقاً؟!
ومن رأى مثل الناي خليلاً مشتاقاً؟!
إنه يقص علينا حكايات الطريق التي خضبتها الدماء
ويروي لنا أحاديث عشق المجنون
الحكمة التي يرويها، محرمة على الذين لا يعقلون،
إذ لا يشتري عذب الحديث غير الأذن الواعية




أنظر .. هذا هو العشق              


في اليوم الذي أموت فيه

ستمر جنازتي
لكن لا تظن أن قلبي سيبقى على الأرض
فلا تبك ولا تترحم عليّ " آه واسفاه ، كم هو مريع "
ستقع في فخ الشيطان – الأسف ، انه مريع
لا تبكي على قبري قائلا :- " واسفاه ، رحل !"
فانه لي زمن اللقاء البهيج
و لا تقل "وداعا" حينما أوضع في القبر
فهو ستار للرحمة الأبدية
أنت رأيت "النزول " فانظر الآن إلى الصعود !
هل الغروب خطير على الشمس والقمر ؟
انه يبدو لك غروبا ، لكنه شروق 
والكفن سجن ، لكنه يعني الحرية
أي بذرة سقطت على الأرض ولم تنمو هناك ؟
فلماذا تشك في القدر ، أن الإنسان بذرة ؟
وأي دلو أتى فلم يمتلئ من الحوض ؟
فلماذا تخشى روح يوسف هذا البئر ؟
أغلق فمك الآن وافتحها في ذاك العالم
كي يغدو لتسابيحك صوت
من حيث لا مكان .


كتب هذا المقال وحرره/ عاطف شوشه

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق