السبت، 2 مايو 2020

الترادف في القرآن




كنت دائماً أعتقد ومازلت أنه لا يوجد ولا يجب أن يوجد في أي لغة لفظين مختلفين لهما نفس الدلالة المعنوية. فإذا كان هناك كلمة ما تعبر تعبيراً دقيقاً عن معنى معين لم تكن هناك في الأصل أي حاجة إلى ابتكار كلمة أخرى تؤدي نفس الوظيفة. 

إذن فالترادف اللغوي عندي هو أمر ليس فقط غير مقبول ولكنه أيضاً غير مفهوم. وكان هذا المنطق البسيط  يؤيد ما اعتقدته تأييداً تاماً.

لم أكن أعلم إلا منذ فترة وجيزة جداً أن هناك قضية خلافية هامة تندرج تحت معتقدي هذا الذي يسميه المتناجزون فيه :" إنكار الترادف " وبما أن هناك إختلاف في الرأي فلابد وأن يكون هناك فريق ثاني هم من يقولون بخلاف ذلك أي " إثبات الترادف ".

وكنت أظن أيضاً أن هذه قضية تخص النحويون وعلماء اللغة فقط دون غيرهم حتى أدى بي بحث غير عميق بنتائج مفاجئة وهي أن هذه القضية تمس من قريب جداً فهمنا للقرآن الكريم أي أنها تمس المكون الأساسي من ديننا الإسلامي.


ومادام الحال هكذا فقد صار المشتغلون بعلوم الدين طرفاً هاماً جداً في هذه القضية الخطيرة وصار كل منهم يدلي برأيه فيها ويبرهن علي صحته بشتى الطرق بل ويتعصب له أيضاً. فالقضية صار يترتب عليها " دين " بكل ما تحمله هذه الكلمة القصيرة ذات الثلاثة أحرف من علوم سود فيها الآلاف من الفقهاء والعلماء والمتصوفون ملايين الكتب على مر قرون طويلة. وبكل ماتسعه هذه الكلمة من ملايين التابعين للإسلام بل والمناوئين له أيضاً الذين يعكفون على دراسته والخوض في قضاياه الدقيقة بغرض إسقاطه ومحاربته.


وتجمع أدلة المنكرين للترادف في أنهم يلتمسون فروقا بين الألفاظ التي قيل بترادفها لأن في كل لفظة زيادة معنى ليس في الأخرى ، ففي اللفظة " قعد " مثلا معنى لا نجده في " جلس " حيث القعود يكون بعد وقوف و الجلوس يكون بعد اتكاء. كما أنه لا يجوز أن يختلف اللفظ و المعنى واحد، وأن الأسماء واحدة وما دون ذلك مجرد ألقاب و صفات.


وهذا هو رأي ابن فارس و أبو علي الفارسي الذي كان يقول : لا أحفظ للسيف إلا إسماً واحداً هو السيف و حين سئل : فأين المهند واليماني والصارم و كذا...وكذا... قال : هذه صفات. فهذا سبب من أسباب الإعتقاد بوجود المترادفات وهو تحول صفة الشئ لتكون إسماً له. فالمهند هو في الأصل صفة للسيف الذي يصنع في الهند وكذلك اليماني للذي يصنع في اليمن. 

ومثل ذلك يقال أيضاً في أسماء الأسد: " الأسد " هذا هو اسمه، وله عدة صفات منها: الضيغم وهو مأخوذ من الضغم ، وهو العض الشديد, والضرغام وهو الضاري الشديد، والغضنفر وهو الغليظ الخلق الكثير الشعر. إلى غير ذالك من الصفات التي أصبحت تطلق كأسماء للأسد لا كصفات له . 


وهذه أمثلة لآراء من أنكروا الترادف من القدماء:


ويقول ابن تيميه: الترادف في لسان العرب قليل، أما في القرآن فنادر أو معدوم. فإذا وجدت من يفسر قوله تعالى ( ذلك الكتاب لا ريب فيه) بأنه “هذا القرآن لاشك فيه” فاعلم أنه من باب التقريب، لأن ” ذلك” غير “هذا”، و “الكتاب” غير “القرآن” و “الريب” غير “الشك” .

يقول العسكري : “لكل لفظ صورة ترتسم في الذهن، فإذا اختلف اللفظ، تغيرت الصورة، فارتفع الترادف”.

ومن القدماء المنكرين أيضاً ابن الأعرابي و البيضاوي و ابن درستويه وقطرب وأبو هلال العسكري الذي ألف كتابا سماه" الفروق في اللغة ".

ومن المحدثين الذين أنكروا الترادف : الأستاذ/ حفني ناصف، ود. عائشة عبد الرحمن



 ونورد هنا رأي الباحث الإسلامي " د. محمد شحرور " رحمه الله الذي توفي منذ فترة وجيزة حيث قال:

 " وبما أن المعرفة الإنسانية تكتشف الجديد كل يوم ولابد لكل جديد من لفظ يعرف به، لذا فإن للغات كائن قابل للتطور والنمو وخاصة في دلالات الألفاظ. وأكثر ما تنطبق هذه الخاصية على دلالات ألفاظ التنزيل الحكيم نظراً لصلاحيته لمختلف العصور ولمختلف نظم المعرفة، وضمن هذا المنطوق يمكن إعادة صياغة الثقافة العربية الإسلامية برمتها من خلال إعادة النظر في المفاهيم والأدوات.
وقد كان يمكن لمسألة القول بالترادف أو إنكاره أن تبقى مسألة مجمعية أكاديمية بحتة، لولا أن القول بالترادف قاد إلى تجويز رواية الحديث النبوي بالمعنى، وإلى اعتبار القياس في أصول الفقه من مصادر التشريع، وإلى تأليف معاجم تفسر الكذب بالإفك، والإفك بالافتراء، والافتراء بالبهتان، والبهتان بالكذب، فلا يفهم أحد فرق هذا عن ذاك إلا من رحم ربي، وإلى تأطير لقواعد اللغة العربية، كما فعل سيبويه وتابعوه من بعده، انطلاقاً من أن ذهب ومضى وانطلق وبارح وغدا وراح كلها مترادفات بمعنى واحد. وانطلاقاً من الحفاظ على الشكل اللفظي دون الدخول في المحتوى الدلالي وهذه علة العقم في النحو العربي الذي يقود الناس إلى أوهام في فهم التنزيل الحكيم.

من هنا، كان لابد ، ونحن ندعو إلى قراءة معاصرة للتنزيل الحكيم، من أن ننكر الترادف ونبحث عن الفرق مهما كان دقيقاً بين الأب والوالد، والشاهد والشهيد، والعباد والعبيد، والتفسير والتأويل، والحرب والقتال، والشرك والكفر، والذنب والسيئة، والدين والملة، والإسلام والإيمان، علماً بأن البحث عن الدقة في كل شيء هي سمة هذا العصر. فالأولى أن نبحث عنها في قراءة التنزيل الحكيم لأن هذه الدقة بالضرورة ستؤدي إلى تغيير في الأحكام والمفاهيم الفقهية والعقائدية."

أما المثبتون للترادف من القدامى فمنهم: سيبويه والأصمعي الذي ألف كتابا عنوانه " ما اتفق لفظه واختلف معناه " وكان يقول إنه يحفظ للحجر سبعين اسما، وأبو الحسن الرماني و كتابه الألفاظ المترادفة ومن الأمثلة التي ذكر : السرور والحبور والجذل والغبطة والفرح. ومنهم كذلك ابن خالويه الذي جمع من أسماء الأسد ما يقرب خمسمائة اسم وللحية جمع ما يقرب مائتين ، كما كان يفتخر بأنه يحفظ للسيف خمسين اسماً.

 ومِن المحْدثين كثيرٌمن أمثال: د. أنيس، وكمال بشر


وقد ذكر هؤلاء المثبتون أسباباً تؤكد وجود المترادفات منها:
  • إختلاف واضعي الألفاظ كأن يكونوا من قبيلتين مختلفتين تضع كل قبيلة لفظاً له نفس المدلول ويشتهر اللفظان. ومثال ذلك:
  • السكين : عند أهل مكة و غيرهم. المدية عند بعض الأزد.
  • القمح لغة شامية والحنطة لغة كوفية ، وقيل البر لغة حجازية .
  • الإناء من الفخار عند أهل مكة يدعى برمة وعند أهل البصرة يسمى قدرا 
  • دخول ألفاظ من لغات أخرى لها نفس المدلول ومثال ذلك: 
  • أستاذ بالفارسية أي معلم
  • بيرق بالفارسية أي الراية أو العلم
  • دكان بالفارسية أي حانوت  
  • التساهل في الإستعمال حيث إن عدم مراعاة الدلالة الصحيحة للكلمة يؤدي إلي استعمالها في غير موضعها الذي وضعت من أجله ومثال ذلك: ْ
  • المائدة ففي الأصل لا يقال لها مائدة حتى يكون عليها طعام وإلا فهي خوان.
  • الكأس : تسمى كأسا إذا كان فيها شرابا و إلا فهي قدح.
  • الكوز : يسمى كذلك إذا كان له عروة و إلا فهو كوب.
  •  الثرى : يسمي ثرى إذا كان نديا و إلا فهو تراب . 
  • قلب لغوي بتقديم حرف على آخر ومثال ذلك بضع وبعض 
وبعد فهذا بحث مرهق جداً نظراً لأن مصادره كثيرة جداً لا تكاد تحصى وقد قصدت أن أجعله موجزاً على قدر المستطاع ليسهل على الفهم والإستيعاب. وارجو من الله عز وجل أن أكون قد وفقت في هذا العمل لأن الموضوع على درجة قصوى من الأهمية حيث تتعلق أهميته بفهمنا للدين الإسلامي والمناهج التي انتهجها المفسرين للقرآن الكريم على مدى قرون طويلة مضت.


عاطف شوشه
  •  





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق