الاثنين، 17 فبراير 2020

حتى لا تسقط ورقة التوت الأخيرة



من الأمور البديهية جداً أنك كلما أوغلت في البحر سباحة وبعدت عنك الشطآن زاد إحتمال عدم تمكنك من العودة إلى البر وبالتالي زاد إحتمال غرقك وفقدانك في مجاهل البحار ثم لا يبقى منك أثر يذكر.



فأنت قد تكل قواك ويصيب الوهن ذراعيك فلا تستطيع السباحة للوصول إلى أي شاطئ قد تراه عيناك.

وقد تصل إلى بعد حيث لا يراك أحد فيشعر بك أو يقيم الخطر الذي توشك على الوقوع فيه فيسرع إليك عله ينقذك قبل فوات الأوان.

أو قد يراك أحدهم ويحاول الوصول إليك ولكن لبعد المسافة بينه وبينك قد ينتهي أمرك قبل أن يصل إليك.

وهناك إحتمال آخر هو أن يكون هناك من يراك ولا يريد أن يمد إليك يد العون وقد يستمتع برؤيتك من بعيد وأنت تغرق.

وقد يكون هذا الذي يراك عاجزاً عن مساعدتك أو إنتشالك من الخطر المحدق بك من كل جانب.

وقد يكون هناك من دفعك في البحر بداية ولم تكن أنت تنوي أن تخوضه ولم تعد نفسك للسباحة فيه بما قد يلزمك من أدوات الأمان. 

ناهيك أنه قد يظهر لك من الأخطار المفاجئة ما كنت لا تتوقعه فلا تستطيع صده أو مقاومته أو قد يصيبك عرض مرضي مفاجئ وأنت في عرض البحر فلا تستطيع السباحة أو قد توافيك المنية فجأة فينتهي أمرك حيث أنت.

دارت برأسي كل هذه الأحوال وأنا أقرأ كتاباً وصلني من معرض الكتاب الأخير والذي يحاول فيه كاتبه أن يدافع عن الطريقة التي وصل بها إلينا ديننا الإسلامي. كما أنه يذكر الجهود الجبارة التي بذلها الأولون في سبيل تنقية هذا الدين مما قد يشوبه من تداخلات مغرضة تعرضه لسوء الفهم وتعرض تابعيه للفتنة. وقد عرض الكاتب هذه الجهود عرضاً موجزاً ولكنه كاف في مثل هذا المقام. وأؤكد بعد أن عكفت على قراءة هذا الكتاب أن ما عرضه الكاتب في كتابه يتعلق فقط بالحديث النبوي الذي إنتشر ناقدوه في هذا العصر بل ومن ينتقدون بقوة كتابه الأعظم وهو " صحيح البخاري " ولعل هذا هو السبب الرئيسي الذي دعا الكاتب لكتابة هذا الكتاب.


وإذا كنا نتكلم عن الكيفية التي وصل بها إلينا هذا الدين فبعض التفصيل لمكوناته مطلوب  حتى نستطيع أن نحكم كيف وصل إلينا كل جزء منه. وديننا بلا خلاف يتكون من " قرآن وسنة وحديث ".

أما القرآن فهو قطعاً لا خلاف عليه فقد وصلنا متواتراً صحيحاً كاملاً محفوظاً من أي تحريف في حروفه وكلماته وترتيب سوره ومقاطعها وأسمائها. وقد تعهد الله بحفظه وأخبرنا بذلك حيث قال: " إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ".

إذاً فالنقاش لا يتطرق أبداً إلى القرآن كيف وصلنا بل يتركز على السنة والحديث.

وما أسميه أنا "سنة" يسمونها هم "السنة الفعلية" أي مافعله رسول الله وما أسميه أنا "حديثاً" هو ما يسمونه "السنة القولية" أي ما قاله الرسول الكريم.

 أما السنة ( السنة الفعلية ) فقد وصلت إلينا متواترة لا خلاف عليها تماماً مثل القرآن مع الفارق أن الله سبحانه وتعالى قد تعهد بحفظ القرآن ولم يتعهد بحفظ السنة  الفعلية. لذلك فقد نجد فيها بعض الإختلافات من مذهب إلى آخر أو من بلد إلى بلد ولكن هذه الإختلافات ليست بالجوهرية و معظمها شكلية لا تؤثر في جوهر العقيدة.

بقي لدينا إذاً من مكونات الدين مكون واحد وهوالحديث ( السنة القولية) الذي لم يتعهد الله جل وعلى أيضاً بحفظه وهو الذي بذل علماء الحديث الجهد المضني في جمعه وتحصيفه والدفاع عنه واستعملوا في ذلك عِلمين أحدهما كان موجوداً قبلهم وهو علم المنطق والثاني هو علم إستحدثوه إستحداثاً وهو علم الحديث. وما كان ذلك الجهد الكبير والعمل الشاق الذي أفنوا فيه أعمارهم إلا لأنهم كانوا مثلنا تماماً فيما أصابهم من الشك في السنة القولية التي لم تصلهم كما لم تصلنا بعدهم متواترة بلفظها على العكس تماماً مما هو عليه الحال مع القرآن والسنة الفعلية.  وحيث أن السنة القولية هي من كلام النبي وهو بشر فليس فيها ذلك الإعجاز اللغوي الذي تميز به القرآن فهي يمكن تقليدها بما لم يصدر عن الرسول الكريم من أقوال ونسبتها إليه مع إضافة السند المناسب الصحيح ودسه في كتب الحديث التي يتداولها المسلمين.

وقد قسم العلماء الحديث إلى قسمين أحاديث متواترة وأحاديث غير متواترة. أما الأحاديث المتواترة فهي من الناحية المنطقية هي التي يعتد بها فقد قسموها أيضاً إلى متواترة في اللفظ ومتواترة في المعنى. 

ويقول مؤلف الكتاب إن الأحاديث المتواترة في المعنى كان لصحابة رسول الله كامل الحرية أن يصيغوها بالألفاظ التي يختارونها ويرونها مناسبة لإيصال المعنى. وهنا شئ خطير وهو أنهم يختارون الألفاظ التي تؤدي إلى المعنى الذي فهمه كل واحد منهم والذي قد يختلف من شخص إلى آخر وهذا الفهم قد يختلف أيضاً مع المعنى الذي قصده سيدنا محمد أو على أحسن تقدير قد يحيد عنه قليلاً أو كثيراً وإن لم يخالفه. 

وهنا إيثاراً للسلامة والدقة نجد أن مجال تصنيف الأحاديث الصحيحة التي لا شك فيها قد ضاق بنا. إذ أننا نجد أنفسنا أولاً مضطرين إلى إستبعاد الأحاديث الغير متواترة والإكتفاء بالأحاديث المتواترة. وأننا ثانياً مضطرين إلى الإكتفاء من الأحاديث المتواترة  بالمتواترة لفظياً. 

وقد إختلف علماء المسلمين فيما بينهم على عدد الأحاديث المتواترة لفظياً. فقد وصل عددها عند بعضهم إلى ثلاثمائة أو مائة حديث فقط بينما أكد بعضهم أنها حديث واحد أو إثنين على أقصى تقدير ولقد قال بالرأي الأخير الإمام الشاطبي وإن كنت لم أستيقن من قوله هذا بعد.

ولا أدري هل خلط السنة بالحديث أمر ضروري لكل من قام للدفاع عن موروثات هذا الدين أم هو من قبل الخداع الممنهج. وأنا أظن أن هذا الخلط مقصود. 

و السؤال هو: لماذا إذن هذا الخلط المقصود؟

السبب بسيط وهو أن خلط المتواتر مع غير المتواتر يُمَكن من الإستشهاد بالأول لإثبات صحة وصدق الآخر. والمثال على ذلك سهل وبسيط ويؤدي الغرض بسرعة. فإذا بدا منك الشك في السنة القولية أُتهمت ضمنياً بأنك لا تؤمن بالسنة كلها ثم تسأل هذا السؤال التقليدي : " إذا كنت لا تؤمن بالسنة فكيف عرفت عدد فروض الصلوات والتي لم يذكر عددها في القرآن؟ ". وتقام عليك الحجة بأنه لن يستقيم دينك إلا إذا إعتقدت أن السنة كلها فعلية وقولية صحيحة.

فإذا كان إدماج شقي السنة الفعلية والقولية تحت مسمى واحد وهو "السنة " مقصود منه أن يتقبل المتلقي كليهما إستناداً على ثقته في شق واحد منهما فللأسف الشديد فقد حدث العكس تماماً إذ فقد المتلقي الثقة في الشقين معاً لشكه في أحدهما. وهكذا يرتد سلاح  الخداع ليصيب من أشهره بغير تقدير جيد للعواقب. فبعد أن كنا قلقين من وجود بعض المتشككين في السنة أصبحنا نعاني من كثرة المنكرين لها.

وينطبق هذا نفسه على الأحاديث المتواترة لفظياً والمتواترة معنوياً حين تم دمجهم تحت مسمىً واحد وهو الأحاديث المتواترة.

أما علماؤنا فقد أقنعونا بأن مَن قبلنا قد أتوا من العلم في هذا الباب بكل ما يمكن أن يأتي به بشر وأنه ليس في الإمكان أفضل مما كان وأنهم بعدما أتموا هذا العلم على أكمل وجه أغلقوا الباب خلفهم على كل من يحاول أن يفتحه. واستراح العلماء وهم يقومون بحراسة هذا الباب سنيناً طويلة مستخدمين كل الأساليب الممكنة لمنع أياً من كان من الإقتراب من الباب ناهيك عن محاولة فتحه أو كسره. ومن أنجح هذه الأساليب هي إتهام الشخص في دينه إذا حاول الخوض ومناقشة بعض أحاديث صحيح البخاري مثلاً . هذا الكتاب الذي يطلقون عليه " أصدق كتاب بعد كتاب الله " وعلى الرغم من أننا نعلم أن هذه العبارة هي على سبيل ما يسمونه " تقريظ الكتب" كما أطلقوا على " المثنوي " كتاب مولانا جلال الدي الرومي أنه "قرآن بهلوي". فعلى الرغم من هذا تعكس هذه المقولة مدى تقديسهم لهذا الكتاب على مر العصور.

وقد أُبتلي علماء هذا العصر إبتلاءاً شديداً حين قدر الله لهم أن يظهر في وقتهم أكثر من باحث إسلامي يعيد فتح هذا الباب بلا خوف ولا وجل وعلى علم وبصيرة وعلى إستعداد كبير لإثبات وجهة نظر مخالفة في كتاب البخاري. ولقد شهدت بعض هذه المناظرات العلنية التي انتهت نهاية ليست في صالح العلماء مطلقاً.

وكان من نتيجة هذه المناظرات ظهور بعض الآراء التي بدأ يرددها علماؤنا والتي لم يكن يجرؤ أحد منا علي ترديدها إذ لو فعل ذلك لرمي فوراً بأبشع عبارات الكفر والزندقة وحتى إذا فكر فيها سراً بينه وبين حاله  خاف على نفسه من الفتنة في دينه أو أن يكون قد صبأ بحسن نية فيبادر إلى التوبة والإستغفار.

ومثال ذلك أن ظهر من علماء الفقه المقارن بالأزهر الشريف من يدعو إلى تسمية الأحاديث بالمرويات - يقصد بذلك السنة القولية - وحجته في ذلك أن أي حديث يلزمه أن يكون المتحدث حاضراً وهذه ليست الحال فيما يتعلق بكلام النبي الكريم.

ومثال ذلك أيضاً أن عبارة "نحن لا نقدس البخاري ولكن نُجله" قد انتشرت بين العلماء وبهذا تخلى العلماء عن تشددهم وسياستهم في حراسة الباب المغلق.

ومثال آخر أخطر من سابقيه وذلك أن الشيخ الأزهري في خطبة يوم الجمعة وهو يعطي مثالاً على حث الدين الإسلامي للمسلمين على النظافة قد أورد الحديث المعروف  عندما مر النبي على قبران فقال: " إنهما يعذبان ... ". فقال الخطيب معقباً :" سواءاً إعتقدنا في عذاب القبر أم لم نعتقد فإن الحديث يدل على حرص الإسلام على أن يكون المسلم نظيفاً". هكذا جهراً وفي خطبة الجمعة وعلى الملأ يشكك شيخ أزهري في عذاب القبر الذي أفرد له علماء المسلمين كتباً وكتيبات يعجز العادون عن حصرها إستناداً في المقام الأول إلى أحاديث صريحة وقوية في البخاري وغيره من كتب الأحاديث المشهورة وإلى تأويل بعض الآيات القرانية تأويلاً أُختلف عليه كثيراً في المقام الثاني. والأهم من ذلك أنه لم يكن هناك أي تعقيب ولا تعليق من المصلين بعد الصلاة.

ولم  نعد كذلك نسمع من شيوخنا شيئاً عن الإعجازاللغوي في كلام النبي فيما روي عنه من أحاديث أو مرويات. وكأن الحديث "بعثت بجوامع الكلم" الذي كان يكرر على مسامعنا سنيناً طويلة لم يكن بحديث نبوي. 

وقد  إستمعت إلى رسالة صوتية للشيخ الألباني يرد فيها على أحد السائلين حيث ختم الشيخ إجابته بالإستنكار على المتصل أن يداخله الشك في دينه وهو في مثل هذا العمر المتقدم. وقد أذهلني رد الشيخ وهوينكر على المتصل ويكاد ينهره عن الشك أي التفكير في أمر من أمور دينه. ولو كنت أنا مكان الشيخ لسعدت بذلك المتصل كثيراً فهذا هو الشك المحمود الذي كان من فضل الله عليه أن أراد له أن يكون له منه نصيب حتى يتثبت بعد أن يتفكر وأن  الله يمنحه فرصة قد تكون أخيرة ليثبت أنه قد اعتنق دينه بعد تفكير وإقتناع لا عن إتباع  فأراد له الله أن يصحح مساره قبل أن توافيه المنية وهو على قاب قوسين منها رحمة ًمن الله تعالى.


ولذا فقد قررت وأنا  في وسط هذا الخضم الواسع الذي لا يحد البصر نهايته ولا يتصور العقل مدى غوره أن أبقى متثبتاً متشبساً بما نشأت عليه من عقيدة وإيمان بجميع تفاصيلهما وألا أنكر منهما شيئاً إلا بعد قدر من التثبت في الشك مثل ما كان قد قدر لي من التثبت في اليقين به أوأن أرى من هو أشد يقيناً مني يعجز عن أن يواجه من هو أقل مني شكاً.

وذلك لأنني إذا بدأت بالشك في كل ما آمنت به دفعة واحدة سقط عني كل شئ وقد أقف عارياً لا أجد من يمد لي من الستر شيئاً وسقط عني حتى ورقة التوت الأخيرة .

عاطف شوشه



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق