الأربعاء، 15 أبريل 2020

بين الحقيقة والتجريد





أيهما تفضل 
المعني السامي في تجريده المطلق أم الحقيقة الساذجة على أرض الواقع؟ 


كان صديقي الذي سألته هذا السؤال قد سافر للعمل في الخارج. وكنا نتبادل الخطابات بانتظام حفاظاً على صداقتنا التي دامت سنيناً طويله منذ أن كنا ندرس معاً في نفس الجامعة ونمارس سوياً نفس النشاط الطلابي. واستمر الحال كذلك لمدة تقترب من العام. لكنني وجدتني ذات يوم وقد أصابني الفتور ولم تعد بي رغبة لكتابة المزيد من الخطابات ولا أدري ما هو السبب في ذلك ولم أحاول أن أتحقق من نفسي لأجد عندها الجواب على هذا الذي فعلته. ولكنني كنت أعلم أنه عندما يعود سوف أقابله وسوف يسألني . . . لماذا. 

وكانت إجابتي سريعة على الرغم من أنني لم أقم بإعدادها من قبل. سألته: أيهما تفضل؟ المعني السامي في تجريده المطلق أم الحقيقة الساذجة على أرض الواقع؟ 

نظر إلي بحيرة بالغة متوسلة ولم يبد عليه أنه قد فهم ما كنت أعنيه بقولي هذا. قلت له: إن المعنى المجرد هو أنه كان لك صديق حميم بكل معنى الكلمة وكنت تقريباً لا تفترق عنه لأعوام طويلة وعندما سافرت وبعدت في المكان إنقطع عنك وكأنه لا يعرفك. 

هذا المعنى في حد ذاته معنىً ملهمٌ جداً إذ يمكنك إنطلاقاً منه أن تبدأ أشياءاً رائعة. كأن تبدأ في الشكوى من تغير حال الأصدقاء بلا سبب واضح رغم وفائك أنت وتستمر في شكواك نادماً ومترحماً على الأوقات الجميلة التي قضيتماها سوياً يقدركل منكم الآخر ويحترمه ويطلعه على أدق تفاصيل حياته ويستشيره فيما يجب أن يفعله عندما تحل به معضلة عائلية أو مشكلة في محيط العمل. 


يمكنك أيضاً أن تكتب شعراً في نفس المعنى وأنت أفضل مني في كتابة الشعر وتسهب في وصف الآمك من غدر الأصحاب وندرة الوفاء في هذه الأيام الحزينة وتترحم أيضاً على الأيام الجميلة الفائتة والتي تأمل أن يعود ولو يوم واحد منها. كل هذا يمكنك فعله بهذا المعنى المجرد. 

أما الحقيقة الساذجة على أرض الواقع فهي تنص على أنك كان لك صديق حميم ظل على إتصال وثيق بك عندما رحلت بعيداً عنه. ما الجديد في هذا المعنى المتوقع. ما الذي يمكنك كتابته عنه. ماذا يمكنك وصفه به. ما هو الإلهام الذي يوحي به إليك هذا المعنى الساذج. في الحقيقة لا شئ مطلقاً. الآن تعلم أن ما فعلته أنا لم يكن سيئاً بهذه الدرجة التي أستحق اللوم أو العتاب بسببها.

لم يفارقني هذا المعنى طوال حياتي وأعترف أنه فسر لي أشياءاً كثيرة حدثت في حياتي وانطبقت حرفياً عليه. 

فلم أعد أتفاجأ مثلاً بالزوجة التي قضت حياتها تشكو إلى خالقها من هذا الزوج الذي قدره لها. وتشكو أيضاً سوء طالعها مع هذا الزوج البائس إلى جميع المخلوقين الذين تصادفهم في حياتها حتى وإن كان في لقاء عابر بشخص ما يتأكد لها أنها لن تراه مرة أخرى. 

وعندما تحين الساعة التي يتوجب على الزوج أن يقابل فيها خالقه ربما ليرتاح هو من هذه الزوجة الدائمة الشكوى يبدو لي أن هذه الزوجة قد تفاجأت لهذه النهاية السريعة. النهاية التي قطعت عليها ماهي فيه فلم تتمكن من أن تكمل شكواها منه إلى نهايتها حتى ترتاح سريرتها. 

نجد أن هذه الزوجة تبدي من الحزن والأسى مالا يتفق مع ما عهدناه منها من سابق شكواها الدائمة المستمرة والمستفيضة من زوجها قبل أن تفقده إلى الأبد. 

وهنا تأتي الحيرة في تفسير أمر هذه الزوجة هل هي بفعلها هذا تعتبر حقاً منافقة تبدي من حالها غير ما تبطن في داخلها؟ 

هذا ما لا أعتقده ولا أفكر فيه أبداً. كل ما في الأمر أنها أسقطت الواقع ولجأت إلى التجريد. 
وفي الحقيقة أن الواقع قد سقط من تلقاء نفسه هذه المرة. أم هي فجل ما فعلته أنها لم تسقط معه ولم تتشبث به أيضاً.

أما التجريد الذي لجأت إليه هنا هو الحقيقة الجديدة التي سوف تعيش معها منذ الآن وصاعداً. هذه الحقيقة هي أنها أصبحت أرملة أي بدون زوج أي فقدت زوجها. صحيح أن كل هذه المعاني واحدة ولكن الترادف مطلوب هنا لأنه يسهل الفهم. 

من الآن سوف تحزن كما تحزن الأرامل. سوف تحزن كما تحب هي أن تحزن . حزن يليق بامرأة فقدت زوجاً كما تحب هي أن تكون صورة الفقد. أو كما تخيلت كيف يكون الفقد. 


عليها أن تعيش تبعات هذا الفقد بكاملها كما يجب أن تكون هذه التبعات لا كما هي في حقيقتها. يستوي في ذلك ما إذا كان الزوج المفقود صالحاً أم طالحاً. أكانت تحبه أو لا تحبه أو تكرهه. فهذا كله لا يهم فقد رحل شخص ما وخلف من بعده مشاعر رحيل حزينة يجب عليها أن تعيشها. فهي لا تحزن لشخص الفقيد ولكنها تحزن لنفسها.

وينطبق مثل هذا المعنى أيضاً على الآباء والأبناء. فليس من المعقول أو المنطقي أن جميع الآباء صالحون فهم بشر وبالتبعية هم فيهم اختلاف في الطباع والأخلاق. فمنهم الصالح والخير والطيب ومنهم الطالح والشرير وسئ الأخلاق كالكاذب والسارق والقاتل والمرتشي وغير ذلك. 
وعندما يموت الأب نجد الأبناء يُسقطون الواقع وهو الحال الذي كان عليه الوالد عند وفاته ويحيلون الأمر على التجريد فيكون حزنهم على أنفسهم هم. 

فالفعل "فقد" قد وقع عليهم هم وصاروا "فاقدين" فليعيشوا حزن الفاقدين ويحيوا حياة من فقد والده بغض النظر عن درجة الود الذي كان متبادلاً بينهم وبين هذا الوالد أوعما كان عليه هذا الوالد من حسن الأخلاق أو سيئها. وبغض النظر أيضاً عن الحياة التي كانوا يعيشونها في كنف هذا الوالد.

وهذا يقودنا الآن إلى معنى آخر يجب توضيحه وهو معنى الحب الحقيقي. هل نحب فعلاً من حولنا أم أننا نحب أنفسنا فقط؟


 قد يبدو أن هذا السؤال صعبٌ وأن إجابته أصعب منه بكثير. ولكن الأمر ليس كذلك. 

عندما تشيرفتاة مثلاً إلى شاب وتقول تقريراً "أنا أحب هذا الفتى". أنظر إلى سبابتها التي تشير بها في هذه اللحظة المهمة لتجد أنها بالفعل تتجه نحو هذا الشاب. 

وليست تلك اللحظة هي المهمة في الحقيقة ولكنها اللحظة التالية والإتجاه الذي تشير إليه سبابتها بعد اللحظة الأولى. ففي ما يقرب من تسعة وتسعون في المائة  من الحالات ترتد هذه السبابة لتشير بها الفتاة إلى نفسها هي عندها نعرف أنها تحبه لنفسها. أما الإحتمال الآخر والنادر جداً هو أن تظل سبابتها مشيرة دائماً تجاه الآخر معددة الأسباب التي جعلتها تحبه. 

وكمثال على ذلك عندما تقول الفتاة: "أحب ذلك الشاب" وتشير إليه فعلاً ثم تكمل جملتها "لأنه يعرف كي يتعامل معي برقة وحنان" ففي هذه اللحظة ذاتها تحولت الإشارة من الإتجاه إلى الآخر واتجهت إلى نفسها هي عندما قالت كلمة "معي" ويستوي في ذلك أن تقول أخرى: "لأنه يحب إبني" أو تقول ثانية: "لأنه يعطف على إبنتي". 


أما إن ظلت تشير إليه وتقول مثلاً: " لأنه يدافع عن الحق دائماً ولا يخشى فيه أحداً إلا الله" ثم تقول مردفة: " ولأنه أيضاً متمسك بدينه بغير رياء ويرعى حقوق الله جيداً". هنا نعلم أنها تحبه لشخصه هو لما فيه من صفات حميدة ومزايا محببه يتوق كل شخص أن يقترب من حاملها. ونستشعر أنها تديم النظر إليه وإلى حاله ولا تفكر في نفسها ولا ترى حالها هي.

والمعنى السامي المجرد الذي يريد المحبون أن يعيشوه في هذه الحالة هو "حب الآخر لنفسه" طبعاً بكل مافي هذا المعني من النقاء الداخلي والرقي العاطفي والرغبة في البذل بغير حساب وما لا يعد ولا يحصى من معانٍ جميله ومشاعر صافية. أما المعنى الواقعي فهو "أنك تحب الآخر لنفسك أنت لا لنفسه هو". وبطبيعة الحال لا يعترف أياً ممن يحبون بالمعنى الواقعي ولكن يلوذون بالمعنى المجرد لأنه الأسمى والأرقى.

وللصوفية معنىً أرقى للحب. مر قيس بن الملوح الملقب بمجنون ليلى بجماعة يصلون وكان في حالة من الإستغراق في التفكير في ليلى. وعندما عاد من نفس الطريق سألوه لماذا لم يتوقف للصلاة معهم. فسألهم قيس متعجباً من حالهم: "أنا لم أركم فهل فعلاً رأيتموني وأنتم في حالة صلاتكم". فخجل القوم من أنفسهم.

من يحب لا ينقطع عن التفكير في من يحب في جميع أوقاته حتى وهو نائم. ولا تكون له إلا حالة واحدة هو عليها دائماً وتملك عليه كل حياته ألا وهي حالة العشق المطلق. فإن خفتت قليلاً تلك الحالة أحس بمن حوله وبما يحيط به إحساساً مشتتاً وإن ظل شارد الذهن. وإن اشتد عليه الوجد ذهل عن كل من حوله وعن الدنيا كلها ولم ير منها شيئاً ولم يحس منها بفرح أو بألم. 


فقيس لم ير المصلين في ذهابه لأنه كان مستغرقاً في حالة من الوجد بليلى فكان غائباً بعقله وجميع حواسه عنهم وعن كل شئ آخر في الوجود من حوله. 

أما المصلين الذين تعجب قيسٌ كثيراً من حالهم فكان الأولى بهم أن يستغرقوا في حب الله وهم واقفون بين يديه. وإن كانوا فعلاً صادقين في حالة الوصال تلك مع المولى عز وجل فكان حري بهم ألا يروا قيساً أو سواه وهو يمر بهم وأن يحجب وصالهم  عنهم  كل شئ إلا الله.


 
عاطف شوشه

هناك تعليق واحد:

  1. ابدعت.ابدعت.ابدعت.
    احبب من شئت فإنك مفارقه
    وعش ما شئت فإنك ميت

    ردحذف