الأحد، 19 أبريل 2020

خاتم من سعف






اليوم نظرت إلى يدي . . . آثار التقدم في السن بادية بوضوح على كفي

تذكرت كفين صغيرين  لطفل صغير  كان يلعب في  مدرسته  القريبة من بيته  ووقع فانجرحت كفه فذهب إلى "أبله الحكيمة" في مكتبها فطهرت له الجرح ولفته بشئ من القطن والشاش وكثير من الحنان

يجلس ويده مضمدة في حجرة الدراسة في الدور الأول التي يطل شباكها الزجاجي على الشارع الرئيسي. عبر النافذة تعبر عيناه الصغيرتان الشارع إلى الجهة الأخرى. ينشغل عن المعلمة  التي تقف في مقدمة  الفصل  منهمكة في  شرح الدرس اليومي  بالنظر إلى أولئك العمال البنائين وهم يعملون على ارتفاع  شاهق  يشيدون قبة ضخمة  عالية  تشبه قباب المساجد

كانت هذه الأرض التي يعمل فيها البناؤون الآن أرضاً زراعية منذ زمن قريب. وكان يقع في أحد زواياها كنيسة صغيرة تدعى الكنيسة البطرسية

كان يقطع الأرض من على أطرافها ليصل إلى الناحية الأخرى منها وهو يراقب بعض الفلاحين وهم يقومون بعملهم  في زراعة الخضروات بظهور محنية أو وهم في وضع القرفصاء

يصل إلى الناحية  الأخرى هو وأصدقاءه  الصغار. يمشون  قليلاً ثم  يتوقفون  عند أحد البيوت وتحت شرفة الدور الأرضي يرفعون صوتهم  بنداء  واحد وكأنهم كورال إحدى فرق الأطفال   الغنائية " يا عادااااال . . يا عادااااال". وعادل هذا هو صديقهم  في نفس الفصل الدراسي. لم يحضر اليوم إلى المدرسة فاتفق الأصحاب الصغار على زيارته في منزله بعد نهاية اليوم الدراسي للإطمئنان عليه

مجموعة الأصحاب الصغار هم ممن يقطنون قرب المدرسة وكان أقربهم إليها صديقنا أشرف وأخيه الصغير إذ كانت البناية التي يسكنون فيها تقع بين المدرسة والشارع الرئيسي. كنت أحب زيارة منزلهم الواسع النظيف الهادئ

وكنت أحس وأنا أدخل هذا المنزل بشئ من الغموض وأنا أنظر إلى اللوحة الزيتية الكبيرة المعلقة فوق الجدار على يمين مدخل البيت والتي تصور السيدة العذراء وهي تحمل السيد المسيح طفلاً يحيط بوجه كل منهما هالة من النور السماوي وبعض الشخوص الخاشعين يلتفون حولهما. وفي أعلى اللوحة يظهر بعض الملائكة النورانيين متجهين بأنظارهم إلى الطفل الصغير بين يدي أمه الحنون

عرفت بعد قليل أن هذا المبنى العظيم الذي كان قيد البناء هو مبنى كنيسة كبيرة تسمى كاتدرائية سوف تضم إليها داخل أسوارها الكنيسة الصغيرة البطرسية التي تقع على ناصيتها بعد اكتمال بنائها







عندما انتهى العمل في هذا البناء الضخم قام رئيس الجمهورية وقتها وبحضور الرئيس الأثيوبي بزيه الذي يشبه زي الرهبان والذي تتبع كنيسة بلاده تاريخياً الكنيسة المصرية بافتتاح هذا الصرح المسيحي الضخم الغير مسبوق في بنائه وضخامته في المنطقة الجغرافية التي تحيط ببلدنا

وكنا في بعض الأحيان نغافل حارس البوابة الصغيرة وندخل إلى الكنيسة ونحن في طريق عودتنا من المدرسة إلى البيت. كنا نعدو ونتسابق في طرقاتها الطويلة ونتجنب تماثيل القديسين في زواياها المظلمة

وكنا ندخلها أيضاً لزيارة معلمنا الودود الأستاذ " عيسى " الذي كان يدرس لنا اللغة العربية في الصف السادس الإبتدائي. وكانت الكنيسة قد وفرت له سكناً مجانياً بداخلها نظير بعض الدروس المجانية يدرسها لأبناء شعب الكنيسة وذلك لأنه لم يكن من سكان القاهرة ولكنه كان يدرس فيها

وكنت أسمع خلال زياراتي المتفرقة للكنيسة أطفالاً صغاراً في بعض القاعات يتدربون على نوع من الغناء الديني بلغة غريبة عرفت فيما بعد أنها تسمى "ترانيم كنسية" تغنى باللغة القبطية 

وكنا نرى عربة نقل الموتى التابعة للكنيسة يجرها عدد من الأحصنة عليها أردية سوداء مرسوم عليها الصليب من الجانبين. وكانت تثير اهتمامنا وهي تقف بقرب المدرسة بجوانبها الزجاجية الشفافة وتماثيل الملائكة التي تزين أركانها الأربعة رافعة بصرها إلى السماء

وفي بيت والدتي كنا نسمع أجراس الكنيسة في أيام الآحاد وفي كل الأعياد المسيحية القبطية. ونرى برج الكنيسة بارتفاعه الشاهق وإضاءته الليلية ونراقب حركة الأجراس الضخمة من الشرفة الخلفية. وكنا نرى جيراننا المسيحيين وهم يذهبون إلى الصلاة ويصطحبون زوجاتهم و أبناءهم الصغار معهم وهم يلبسون ملابس العيد الجديدة ويعودون سعداء حاملين البالونات في أيديهم

هذا الأسبوع هو أسبوع الآلام عند إخواننا الأقباط. وشاء الله هذا العام أن تقام الصلوات في الكنائس بلا مصلين تقديراً لحالة الوباء والحظر المفروض على كل دور العبادة المصرية 

تتوالي أيام الأعياد في هذا الأسبوع أحد السعف خميس العهد الجمعة الحزينة سبت النور عيد القيامة . أتذكر مشهد أبناء الكنيسة وهم يخرجون منها حاملين أفرع سعف النخيل الطويلة والتي يبرعون أيضاً في جدلها معاً ليصنعوا منها صلباناً وأشياءاً أخرى جميلة 




كان أصدقاؤنا الأقباط يهدوننا بعض المشغولات الصغيرة من السعف

نظرت إلى يدي مرة أخرى وتذكرت كفين صغيرين لطفل صغير كان يضع بأحد أصابعه خاتم من سعف




عاطف شوشه



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق