الجمعة، 24 أبريل 2020

من العباسية . . . إلى الحسين . . . إلى الهند .



من العباسية دائماً يكون إنطلاقي . فيها ولدت وفيها كان تعليمي حتى أنهيت دراستي  الجامعية. وفيها المكتبة التي قضيت فيها ساعات طويلة من أيام عمري أتصفح ماحوته على أرففها من كتب. ومنها تزوجت ولي فيها أجمل الذكريات والأصحاب والجيران.


ومن مسجد القبة الفداوية في العباسيه إلى مسجد الحاكم بأمر الله في شارع المعز في حي الحسين إلى إقليم  " كجرات" غربي الهند رحلة طويلة وغريبة ولكن في التاريخ.

ترتبط الأماكن ببعضها البعض بشكل خفي غامض قد يخفى علينا لفترة طويلة من الزمن وقد لا يقدر لنا معرفته أبداً ولكن يبقى لدينا هذا الشعور الداخلي المستتر بأن هناك علاقة ما تربط بعض الإماكن ببعضها. 

كانت لنا في كل يوم جمعه رحلة أسبوعية رتيبة من بيتنا في حي العباسية إلى بيت جدي في حي الحسين وكنا نقابل في تجوالنا في هذا الحي العريق أفراداً من طائفة البهرة الذين سكنوا إقليم كجرات في غربي الهند.

ومسجد "القبة الفداوية" في العباسية أثر قديم عريق لا يلتفت إليه الكثيرون حتى من أهل المنطقة المحيطة به. وهذه هي القبة الثانية التي أنشأها الأمير يشبك من مهدى خلال الفترة 884-886 هجرية (1479-1481) ميلادية وهو أحد أمراء المماليك الجراكسة وكنت دائماً ما أتعجب من أصل هذا الإسم الذي يشوبه شئ غير قليل من الغموض وكنت متأكداً أنه لابد وأن يكون الإسم الصحيح هو "قبة الفداوية" ولا أعرف من هم الفداوية أو لماذا سموا بهذا الإسم؟

في حي الحسين بيت جدي في قلب القاهرة الفاطمية حيث شارع المعز ومسجد الحاكم بأمر الله الشهير الذي يأتي لزيارته بصفة دائمة طائفة من طوائف المسلمين يسمون "البهرة" وهم الذين أهدوا المقام الفضي الذي يحيط  بالضريح الذي يضم رأس سيدنا الحسين في مسجده الشهير في الحي الذي يسمي على إسمه. ونرى أتباع هذه الطائفة بملابسهم المميزة الموحدة يأتون لزيارة مسجد الحاكم في نهاية شارع المعز ناحية باب الفتوح.


فما هي العلاقة الخفية بين مسجد "قبة الفداوية" ومسجد "الحاكم بأمر الله" وطائفة "البهرة"؟


الحركة الشيعية  تاريخ نشأتها معروف لدى الجميع. وكان لعداء أهل المذهب السني الدائم لها في كل مكان وزمان أن تراوحت حركتها بين الظهور والإختفاء حسب الحالة السياسية للمكان الذي تتحرك فيه. 

الإنقسامات الشيعية وظهور المذاهب المتباينة عند الإختلاف في الرأي أمر طبيعي يحدث على المستوى السياسي والديني أيضاَ حتى عند أهل السنة. 

هكذا هي الحال مع المذهب الشيعي أيضاً فكلما اختلف أهله في شخصين من يستحق منهما أن يكون إمامهم ظهر لكل شخص  منهما مؤيدوه وتعصب كل من الفريقين لرأيه فينقسموا إلى مذهبين جديدين كل فريق يؤمن بإمام مختلف ثم يستمر الإختلاف عندما يموت الإمام ويتخذ التابعون من ذريته إماماً جديداً لهم.  

والأمر أيضاً ليس بهذه السهولة فقد لا يعترف الأتباع بموت إمامهم ولكن يعتقدون بأنه قد دخل في الستر وأصبح غائباً فيتبعون الإمام الغائب وذريته من بعده. و"سرداب الغيبة المقدس" موجود حتى الآن وهو يوجد في مدينة "سامراء" في العتبة العسكرية المقدسة من جهتها الغربية.

ولنبدأ مع الشيعة من عند الإمام "جعفر الصادق" وهو من يعنينا أمر البداية من عنده لكي نتجنب التشعب الذي قد يتسبب في تشتيتنا في طرائق التاريخ. 

عند وفاة جعفر الصادق تبع بعض الشيعة إبنه إسماعيل بن جعفر الصادق وأطلق عليهم الإسماعيليون. والبعض الاخر وهم "الإثني عشرية" قالوا بأن إسماعيل قد توفي قبل أبيه فكيف نتبعه؟ ولكنهم ردوا عليهم بأنه لم يمت وإنما قد دخل في الستر واتخذوه إماما لهم ومن بعده إبنه محمد بن إسماعيل. ومن هنا نشأ المذهب الإسماعيلي.

ظل الإسماعيليون يدعون سراً لمذهبهم حتى شعر عبد الله المهدي القائد المركزي للإسماعيلية حينئذٍ بالأمان فبدأ يدعو بالإمامة لنفسه جهراً فلم يوافقه أهل المذهب على ذلك بل واضطروه في رحلة شهيرة إلى الرحيل إلى شمال إفريقية حيث دخل تونس التي كان دعاته قد سبقوه إليها. ومن تونس بدأت دعوتهم حتى دخل الخليفة المهدي الفاطمي مصر واتخذها مقراً لخلافته ومركزاً لنشر الدعوة. وهكذا تم تأسيس الدولة الفاطمية الشيعية الإسماعيلية في مصر.

وعلى الجانب الآخر كان هناك ثلاثة أصدقاء وزملاء دراسة وهم نظام الملك وحسن الصباح وعمر الخيام وثلاثتهم من الفرس. 
تعاهدوا بأن من تعلو منهم مرتبته أن يساعد الآخرين. وكان أن وصل نظام الملك قبل صديقيه فأصبح وزيراً مرموقاً في دولة الأتراك السلاجقة فأوفى بوعده تجاه صديقيه. 
أما حسن الصباح فقد لقيه أحد الدعاة السريين الإسماعيليين ونجح في ضمه إلى المذهب الإسماعيلي وأصبح بعد ذلك من دعاته المهمين وسافر إلى مصر وقضى بها ثلاثة سنوات في بيت الحكمة الفاطمي يتعلم أصول الدعوة الإسماعيلية. 
وعندما عاد إلى فارس بدأ ينشر الدعوة سراً ويبحث في نفس الوقت عن مقراَ لدعوته حتى وجد قلعة "آلموت" الجبلية فاشتراها من مالكيها. وانتشرت الحركة الإسماعيلية حتى وصلت من فارس إلى سوريه. وكان الإسماعيليون في آسيا تابعين مذهبياً للدولة الفاطمية في مصر.

وفي مصر وبعد موت الخليفة الفاطمي المستنصر بالله نشب خلاف بين من رأوا أن ابنه نزار هو الأحق بالخلافة وبين من رأوا أن أحمد وكنيته أبو القاسم هو الأحق. كان وزير المستنصر القوي "الأفضل شاهنشاه" الذي ورث إمارة الجيوش عن والده "بدر الدين الجمالي" مؤيدا للمستعلي بالله وهو اللقب الذي اتخذه أحمد لاحقاً. 
وكان الأفضل أكثر الأطراف المتنازعة نفوذا، مما حسم الخلاف لصالح هذا الأخير وأدى إلى سجن نزار وموته لاحقا في السجن. وكان الأفضل نافذاً ومؤثراً في حكم المستعلي واستمر نفوذه إلى أن انقلب عليه الآمر ابن المستعلي.

رفض الشيعة الإسماعيليين في آسيا خلافة المستعلي أحمد أبي القاسم وأكدوا تأييدهم لحق نزار في الخلافة مما أدى إلى  إنقسام الشيعة إلى نزارية ومستعلية. 

أدى ظهور النزاريين في فارس إلى تأسيس الدولة النزارية وامتدت حركتهم إلى سوريه وعرفوا هناك بالنزاريين السوريين. والنزاريون هم من نسجت حولهم أساطير الحشاشين وجنة حسن الصباح قائدهم المهيب والطاعة العمياء له من قبل تابعيه.


وكان النزاريون على قدر عظيم من الشجاعة والطاعة العمياء لرئيسهم. وقد نفذوا عمليات إغتيال جريئة جداً غير مبالين بحياتهم في سبيل إنفاذ المهام التي وكلت إليهم. وكانت هذه العمليات التي استهدفت شخصيات مدنية وعسكرية مشهورة تنفذ في الأماكن العامة والمساجد بهدف إلقاء الرعب في قلوب الأعداء.



واشتهروا أيضاً بقدرتهم الكبيرةعلى التنكر والتربص لفترات طويلة حتى يتمكنوا من أداء مهمتهم. 

فقد تخفوا في زي رهبان مسيحيين  وقتلوا المركيز كونراد أوف مونتفيرات الصليبي قبل تنصيبه ملكاً للقدس في إحدى حارات صور. 

وكان أشهر اغتيالاتهم هو اغتيالهم للوزير نظام الملك. وكان أن تخفى أحدهم في زي صوفي فقير وتقدم منه ثم أخرج خنجره وطعنه. 

وحاول أيضاً الفدائيون النزاريون اغتيال صلاح الدين الأيوبي في مناسبتين مختلفتين ولكنهم فشلوا في مهمتهم. 

كما حاولوا اغتيال الخان الأعظم المغولي داخل بلاطه.

وقد نجحوا في إغتيال الخليفة الفاطمي الآمر بأحكام الله ابن الخليفة المستعلي بسبب المنشور الذي أذاعه ضدهم.



كانت عمليات الإغتيالات النزارية يقوم بها فدائييهم والذي أطلق عليهم أيضاً لقب الفداوية
وقد سميت هذه القبة في حي العباسية على إسمهم "قبة الفداوية". وقد بنى لهم الأمير يشبك دوراً يسكنون فيها بجوار قبتهم. 

وكانت نهاية "العاضد" آخر الخلفاء الفاطميين على يد صلاح الدين الأيوبي الذي كان قد عين نفسه وزيراً له ثم قام بعزله من منصبه وأعلن عودة السيادة العباسية على مصر. وكان للعاضد ولدين هما الحافظ والطيب فانقسم الشيعة المستعليين إلى حافظيين تم ملاحقتهم وإبادتهم وطيبيين. والطيبيون هم من بقوا على قيد الحياة حتى وقتنا الحاضر.



هذا وقد قامت دعوة إسماعيلية مستعلية طيبية مستقلة في اليمن بعد وفاة الخليفة الآمر بفترة قصيرة. واستمرت اليمن لعدة قرون القلعة الرئيسية للإسماعيليين الطيبيين معتقدين في إمامهم الطيب الذي اختفى رضيعاً.



ونجحت الدعوة الطيبية بمرور الوقت في اكتساب مستجيبين كثيرين من بين أفراد جماعة تجارية في "كجرات" غربي الهند حيث أصبح يطلق عليهم محلياً تسمية "البهرة".

وإمام الإسماعيليين الطيبيين الآن هو الأمير كريم أغا خان صاحب مؤسسة أغا خان الخيرية الشهيرة وهو أمير بلا إمارة وهو يحظى باحترام دولي شديد.



وهكذا فإن العلاقة الخفية التي تربط هذه الأماكن ببعضها البعض هي الطائفة الإسماعيلية بكل أسرارها وغموضها والتي لم تزل باقية حتى الآن.



عاطف شوشه



هناك تعليقان (2):

  1. نتشرف دائما بتصريحاتكم ومقالتكم التى تدل على الثقافة العميقه والاستناره الفكريه سيادتكم اضافه ونتشرف بكم دائما.

    ردحذف
  2. عبداللطيف ابوشوشه

    ردحذف