الأحد، 24 يناير 2016

دمير طاش ..... أنت كالصخر (العباسية حبيبتي2)





دمير طاش  .........  أنت كالصخر.


هكذا قال السلطان الأشرف قايتباي للعابد لما خرج فى ليلة عاصفة بردها قارص فلم يجده فى حراسته بل وجده يتعبد فى الخلاء بعيدا عن أعين الناس فتعجب من امره وقوة تحمله وقال له بالفارسية :دميرطاش،ومعناها "انت كالصخر او الحديد فى تحملك " فأصبحت منذ ذلك الوقت لقبا له ثم حرفت فأصبحت تنطق دمرداش . 

والعابد هو الشيخ الصالح الزاهد صاحب الكرامات والأحوال العارف بالله ابوعبدالله محمد شمس الدين المعروف بالمحمدى والملقب بالدمرداش .ولد شيخنا بمدينة تبريز بأيران سنة 857هـ /1453م وكان لأعتناقه المذهب السنى وتصوفه أثر كبير فى عدم وصوله الى الوظائف الهامة فقد كانت الدولة الأيرانية شيعية المذهب ولا تعتمد الا فى من كان على مذهبها مما أدى الى رحيل ابى عبدالله محمد شمس الدين الى مصر فى عهد السلطان الأشرف قايتباى والتحق بخدمته .

ذكر ابن اياس فى بدائع الزهور فى وقائع الدهور فى حوادث عام 886هـ (وفيه سقطت صاعقة عظيمة على المسجد النبوى الشريف بالمدينة المنورة فاحترق المسجد بأكمله ولم يسلم من ذلك سوى القبة الشريفة فلما سمع السلطان قايتباى بذلك بكى وبكى من كان حوله وشرع فى تجديد المسجد الشريف وأرسل جماعة من البنائين والنجارين والمرخمين ) وكان على رأس هذه الجماعة اباعبدالله محمد شمس الدين لما يعرفه عنه من حبه الشديد للمصطفى صلى الله عليه وسلم ،ولما عاد الشيخ بعد اتمام عمارته للحرم النبوى الشريف اطلق عليه الناس لقب المحمدى. 

وكان مسجد الدمرداش هدية السلطان للعابد الورع.


مسجد الدمرداش
مسجد الدمرداش

وقد خلف الشيخ الدمرداش فى مشيخة الطريقة الدمرداشية عدد من الخلفاء حتى انتهت الى الشيخ عبدالرحيم مصطفى صالح المعروف بالدمرداش باشا –والد السيدة قوت القلوب –ودامت مشيخته للطريقة اربعا وخمسين سنة وتوفى رحمه الله عام 1348هـ/1929م ودفن فى قبر اعده لنفسه فى مستشفاه الذى انشأه والمعروف بمستشفى الدمرداش واباحه مجانا لمن يطلب الشفاء .وقد انجب ابنته السيدة قوت القلوب الأديبة الشهيرة وهى واحدة من الكاتبات المصريات اللاتى ابدعن ادبهن باللغة الفرنسية وتوفيت رحمها الله عام 1968م فى ايطاليا.

وخلف مستشفى الدمرداش كانت توجد منطقة عشوائية كبيرة تسمى "عرب المحمدي" وكان لي صديق يؤكد لي أن عرب المحمدي هم في الأصل عبيد الدمرداش باشا. وقد أزيلت هذه المنطقة العشوائية بأكملها وأقيم مكانها حديقة كبيرة بها مكتبة عامة تسمى "حديقة الوايلي".

ومما سبق يتضح لماذا كانت هذه البداية التاريخية المشوقة التي بدأت بها الجزء الثاني من هذه المقالات الخاصة بالعباسية. الدمرداش هي الكلمة مدخل هذا المقال. 

والدمرداش مستشفى ومسجد ومدرسة. وقد ذكرنا ما يتعلق بالمسجد والمستشفى في بعض الإيجاز وقد نعود إليهما مرة أخرى إذا لزم الأمر. 

أما مدرسة الدمرداش فهي البداية لإتصالي بالعالم الخارجي وأقصد هنا بالخارجي أي خارج نطاق المنزل والعائلة. تقع المدرسة في شارع رمسيس أمام الكنيسة القبطية مباشرة. مدخلها من شارع صغير قصير جداً يبدأ من شارع رمسيس وآخره مغلق بإحدى الفلل الخاصة.

ألحقني أبي بمدرسة "طلمبات زغلول" الإبتدائية في مدينة رشيد والتي كان عمي "محمد أبو شوشه" ناظراً لها ذلك لأن سني لم يكن وقتها يسمح لي بالقبول في مدارس العاصمة. أرسل عمي محمد لي في القاهرة الكتب الدراسية الخاصة بالصف الأول الإبتدائي. ثم بدأ أبي في إجراءات نقلي من رشيد إلى القاهرة بإثبات محل سكننا في العباسية بالقاهرة. وتم النقل إلى مدرسة "الدمرداش الإبتدائيه النموذجية" كما كانت تسمى رسمياً على أن ألتحق بها بفصول الفترة المسائية. ثم انتقلت إلى الفترة الصباحية بعد السنة الأولى.

وممن أذكرهم جيداً من العاملين في المدرسة "داده فاطمه" والتي كانت دائما تحيط رأسها بغطاء أبيض واسع ينسدل حتى كتفيها ولا زلت أذكرها وهي في وقت "الفسحة" تعطي كل منا وجبته المدرسية والتي تتمثل في الفطير والجبن الشيدر الأحمر. 

كما أذكر "عم حمام" ببشرته السمراء ووجهه الطويل وحبه العميق لنا والذي كان يضحكنا كثيراً وهو يطاردنا في "حوش" المدرسة وقت الإنصراف ممسكاً بعصا طؤيلة جداً ومتظاهراً بالقسوة علينا.

وكنا أحيانا كثيرة ننجح في الإفلات منه والإختباء في مكان ما في المدرسة حتى يعتقد أن كل التلاميذ قد غادروا فيغلق أبواب المدرسة بالسلاسل الحديدية وينصرف مطمئاً. ثم نخرج نحن من مخبئنا ونبدأ باللعب مستمتعين بحوش المدرسة الخالي تماما إلا منا نحن. وعندما يجئ الوقت لننصرف إلى بيوتنا لا نجد حيلة للخروج من المدرسة إلا تسلق السور من الجهة الخلفية والقفز في "بلكونة" صديقنا "أمير" الذي كان منزله ملاصق تماماً للمدرسة ثم من شقته إلى الشارع.

أذكر أيضا أبله نبيله مدرسة التربية الفنية والتي مازلت أذكر قسمات وجهها الجميل والتي أدين لها بحبي للفن والتذوق الفني والنول الذي علمتني كيفية عمله.

أما الأستاذ محمود أستاذ التربية الرياضية فكان الفتى الأول للمدرسة كلها برشاقته الرياضية وخفة حركته وقد كان أيضا قائدا لأول فريق كشافه التحقت به في حياتي.

وإذا ذكرنا الأستاذ محمود فلابد أن نذكر أبله"ورده" معلمة الموسيقى الشابة الجميلة والتي جاءتنا بعد مدام إيفون. وقد احبها الأستاذ محمود منذ يوم دخولها المدرسة وكان لايستطيع مقاومة أن يكون بجوارها كلما سمح له الوقت بذلك.

وكذلك أذكر أبله "عائشة" الناظره والأبله الحكيمه ومدرس التربية الزراعية وأستاذ شفيق معلم اللغة العربية ونظارته السميكه.

ولا يمكن أن أنسى أبداً أبله "وجيده" مدرسة الحساب. وهي من أكثر من ذكرت في حياتي بعد ذلك لأنها علمتنا من أصول الحساب ما استفدت منه حتى وأنا أدرس الرياضيات البحته المعقدة علي يد دكتور من كلية العلوم كان يدرس لنا ونحن في السنة الثالثة في كلية الهندسة قسم الهندسة الكهربائية. وكنت أيضاً أذكرها وأنا أعلم إبني وإبنتي الذين التحقا بكليات الهندسة لاحقاً أصول الرياضيات وأذكر لهما أن هذا مما علمتني إياه أبله وجيده. ومما أذكره لها أنها في إحدى السنوات لم تكن راضية عن مستوانا العلمي فقررت أن تدرسنا حصصاً إضافية قبل ميعاد طابور الصباح حتى نكون عند المستوى اللائق في مادة الحساب وذلك بدون أي مقابل مادي. رحم الله أبله وجيده رحمة واسعة.

خارج المدرسة من ناحية شارع رمسيس كنت كثيراً ما أشاهد هذه العربة التي تبدو وكأنها تأتي من عالم آخر خفي عالم ملئ بالغموض والحيرة والخوف والأسئلة الحائرة عالم تسكنه كائنات أخرى لا نعرفها وهذا العالم هو نفسه جزء من عوالم علوية أخرى أشد غموضاً وتعقيداً ورهبة.

هذه هي عربة نقل الموتى التابعة للكنيسة الماثلة في الجانب الآخر من الطريق أمام المدرسة. كانت العربة كلها من الزجاج الشفاف الذي يسمح برؤية كل ما بداخلها. أركانها الأربعة من الخشب المذهب المنقوش والمنحوت بطريقة غير عادية. يعتلي جوانب العربة من كل زواياها أربعة تماثيل مذهبة كبيرة لملائكة مجنحة ذات وجه طفولي غامض أعينها مفتوحة تنظر إليك مهما حاولت الإختباء منها.

ويتقدم العربة عدد من الخيول لجرها وهي مغطاة تماما حتى رأسها الذي لا يظهر منه إلا عيناها وأذناها بلباس من القماش الأبيض الناصع المتدلي من جوانبها والمنقوش برسومات جلها الصليب المسيحي.

كنت أرقب هذه العربة بخوف وحذر شديدين فهي على علاقة مباشرة بالمجهول الغيبي الغامض. على علاقة مباشرة ومتصلة يومياً بالموت والموتى وعلى علاقة خفية بالعالم العلوي السري بملائكته الغريبة الموجودة بيننا والتي ترانا وتراقبنا وتطل علينا من فوق هذه العربة.

وأذكر أنه كان لنا صديق أسمه "عادل" كان يسكن في الناحية خلف الكنيسة فإذا أردنا زيارته كنا نسير بعد أن نتجاوز الكنيسة بحذاء أراضي زراعية ممتدة لمساحة كبيرة يمكن رؤية نهايتها وكنا ونحن نعبر هذه الأرض نشاهد الفلاحين وهم يعملون فيها بزراعة الخضروات. وكان صديقنا يسكن في الدور الأرضي فلم نكن نعرف طريقاً للدخول إلى شقته إلا القفز من سور الشرفة المطلة على الشارع.

وقد رأيت البنائين من شباك حجرة الدراسة في الدور الأول في مدرسة الدمرداش وهم يبنون في هذه الأرض الزراعية هذا المبنى الضخم المهيب ذو القبة الضخمة والتي كنت أظنها قبة مسجد حتى عرفت أنهم يشيدون كنيسة كبيرة أسمها كاتدرائية.

وأذكر يوم افتتاحها إذا امتلأ الشارع تحت بيتنا بسيارات كثيرة تخص المدعوين لحفل الإفتتاح الذي حضره الرئيس عبد الناصر ودعا إليه الإمبراطور "هيلاسلاسي" إمبراطور إثيوبيا والذي كانت ملابسه تشبه ملابس القساوسة. وقد أهدى الرئيس عبد الناصر الأرض الزراعية للكنيسة لتقيم عليها الكاتدرائية. 

وكنا ونحن اطفالاً نغافل حارس باب الكاتدرائية وننسل إلى داخل أروقتها الطويلة المظلمة والمحفوفة بتماثيل لأناس لانعرف من هم ولكن يخيفنا ظل تماثيلهم في الظلام.
















الكاتدرائية المرقسية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق