الاثنين، 1 فبراير 2016

فيروز .. بيرم .. أحمد شوقي .. الحصري القيراواني


فيروز "الطفلة المعجزة" كما اعتدنا أن نسميها وكما عاشت في وجدان المصريين جميعهم والشعب العربي كله سنينا طويلة وستظل كذلك دائما نراها بقلوبنا قبل أعيننا.

رحلت عن عالمنا منذ أيام قليلة ونحن لا نذكرها إلا طفلة جميلة ونعاها كل من استمتع بفنها وأفلامها الجميلة التي شكلت ومازالت تشكل علامات بارزة في تاريخ السينما المصرية والتي مثلت معظمها مع الفنان أنور وجدي. 


وكثيرا ما تثير نفس الأحداث مشاعر متابينة جداً عند أشخاص مختلفين عاينوها وعاشوها في نفس لحظة حدوثها. وقد أثارني أنا شخصياً رحيل فيروز لكتابة هذا المقال.

فمما لا أنساه لها أبداً أغنية "كروان الفن وبلبله" ولطالما تذكرت هذه الأغنية الكوميدية التي تدخل البهجة على قلوبنا وأنا أقرأ في كتب الأدب العربي حتى البعيدة منها كل البعد عن روح الدعابة والفكاهة. وأتأمل كيف أبدع كتابتها شاعر العامية الأول بيرم التونسي ويقودني في هذا التأمل سببان اعتقد أنهما فعلاً وجيهان.

السبب الأول هو كيف لجأ صانعو هذا الفيلم إلى شاعر في وزن بيرم لكتابة أغنية هزليهة في فيلم كوميدي تقوم ببطولته طفلة صغيرة فجاءت الأغنية بهذا الثراء والجمال والعمق الأدبي. وأقارن هذا بكاتبي الأغاني لأشهر المغنيين في أيامنا هذه.

والسبب الثاني وهو الأهم بالنسبة لي هو القالب الشعري الذي استخدمه بيرم لكتابة هذه الأغنية والذي فضح شاعريته المطبوعة وثقافته العربية الغزيرة.
.
فقد قام بيرم بما يعرف في كتابة الشعر باسم "المعارضة الشعرية". والمعارضة الشعرية يقوم فيها الشاعر بكتابة قصيدة على نفس الوزن والبحر والقافية لقصيدة أخرى كتبها شاعر آخر. ويكون ذلك عامة بسبب إعجابه بهذه القصيدة وكأنه تمنى أن يكون هو كاتبها فكتب على شاكلتها ما يرضي في نفسه هذا التمني.

كتب بيرم:



كـروانُ الـفنِ وبلبلهُ .. مش لاقي حد يؤكلهُ
ويغني على من يجهلهُ .. ده يشتمهُ وده يزغدهُ
الناسُ بلاشاً تسمعهُ .. وكفاهُ الفنُ يشبعهُ

ويعزٌ الفنَ ويرفعهُ  .. والفنُ يشيلُه ويهبدهُ

والقصيدة التي عارضها بيرم هنا هي نفس القصيدة التي عارضها أمير الشعراء أحمد شوقي بقصيدة جميلة من أروع ما غنى محمد عبد الوهاب من قصائد العربية.

كتب شوقي:


مضناك جفاه مرقده .. و بكاه و رحم عوده
حيران القلب معذبه .. مقروح الجفن مسهده
يستهوي الورق تأوهه .. و يذيب الصخر تنهده
و يناجي النجم و يتعبه .. و يقيم الليل و يقعده

ونلاحظ هنا الشبه الشديد بين القصيدتين وإن أختلف الغرض من كلتيهما.

أما القصيدة التي عارضها كل من بيرم وأحمد شوقي بل وعارضها كثيرون غيرهم وغناها أيضا كثيرون والتي تعتبر من عيون الشعر العربي وتراثه النفيس هي قصيدة    " ياليل الصب متى غده" لشاعر تونسي اسمه " الحصري القيراواني". والقصيدة طويلة تتكون من 99 بيتاً اشتهر منها نسيبها أي الجزء الغزلي الذي تبدأ به وهو عبارة عن 23 بيتاً.

يقول الحصري:

يا لَيْلَ الصَّبِّ مَتَى غَدُهُ * أَقِيَامُ السَّاعَةِ مَوْعِدُهُ

رَقَـدَ السُّمَّـارُ فَأَرَّقَـهُ * أَسَفٌ للبَيْنِ يُرَدِّدُهُ

فَبَكاهُ النَّجْمُ ورَقَّ لـهُ * ممّا يَرْعَاهُ ويَرْصُدُهُ

كَلِفٌ بِغَزَالٍ ذي هَيَفٍ * خَوْفَ الوَاشِينَ يُشَرِّدُهُ




 والحصري عاش جزءاً كبيراً من حياته في الأندلس مادحاً ملوكها وأمرائها. وعلى الرغم من أنه ترك تراثا فنياً يتمثل في أربعة دواوين شعرية إلا أن قصيدته هذه هي التي ذاعت شهرتها في الآفاق فلا يذكر الحصري القيرواني إلا ذكرت قصيدته ياليل الصب ولا تذكر القصيدة إلا وذكر صاحبها.

رحم الله الحصري القيراواني ورحم الله أحمد شوقي و بيرم التونسي الذين أمتعونا بقصائدهم الشعرية الخالدة على مر الزمان.

ورحم الله فيروز التي ذكرنا رحيلها بهولاء جميعاً وبهذه القصيدة الرائعة. وسيظل جميعهم رغم إختلافهم مرتبطين في وجداني برابطة واحدة  تلك الرابطة هي رابطة الحب للأدب والشعر والجمال أيا كان مصدره وزمانه ومكانه.


أما القصائد الثلاثة فهي كاملة كالتالي لكل من أراد التمتع بقراءتها.

كروانُ الفنِ وبلبلهُ .. مش لاقي حد يؤكلهُ
ويغني على من يجهلهُ .. ده يشتمهُ وده يزغدهُ
الناسُ بلاشاً تسمعهُ .. وكفاهُ الفنُ يشبعهُ
ويعزٌ الفنَ ويرفعهُ .. والفنُ يشيلُه ويهبدهُ
كروانُ الفنِ وبلبلهُ .. مش لاقي حد يؤكلهُ
ويغني على من يجهلهُ .. ده يشتمهُ وده يزغدهُ
ويغني من غير منفعةٍ .. ويقالُ عليه فى نغنغةٍ
ويلبسُ كل مرقعةٍ .. والناسُ جميعا تحسده
كروانُ الفنِ وبلبلهُ .. مش لاقي حد يؤكلهُ
ويغني على من يجهلهُ .. ده يشتمهُ وده يزغدهُ
يابختُك يا من عشانا .. يجزيك اللهُ الاحسانا
ولا يطلع ابنك فنانا .. ويمدُ الى العالم يدهُ
..............
مضناك جفاه مرقده .. و بكاه و رحم عوده
حيران القلب معذبه .. مقروح الجفن مسهده
يستهوي الورق تأوهه .. و يذيب الصخر تنهده
و يناجي النجم و يتعبه .. و يقيم الليل و يقعده
الحسن حلفت بيوسفه .. و السورة أنك مفرده
وتمنت كل مقطعة .. يدها لو تبعث تشهده
جحدت عيناك ذكي دمي .. أكذلك خدك يجحده
قد عز شهودي اذ رمتا .. فأشرت لخدك أشهده
بيني فى الحب و بينك ما .. لا يقدر واش يفسده
مابال العاذل يفتح لي .. باب السلوان و أوصده
و يقول تكاد تجن به .. فأقول و أوشك أعبده
مولاي و روحي فى يده .. قد ضيعها ، سلمت يده
ناقوس القلب يدق له .. و حنايا الأضلع معبده
قسما بثنايا لؤلؤه .. قسم الياقوت منضده
ما خنت هواك ولا خطرت .. سلوى بالقلب تبرده
...................

يا لَيْلَ الصَّبِّ مَتَى غَدُهُ * أَقِيَامُ السَّاعَةِ مَوْعِدُهُ
رَقَـدَ السُّمَّـارُ فَأَرَّقَـهُ * أَسَفٌ للبَيْنِ يُرَدِّدُهُ
فَبَكاهُ النَّجْمُ ورَقَّ لـهُ * ممّا يَرْعَاهُ ويَرْصُدُهُ
كَلِفٌ بِغَزَالٍ ذي هَيَفٍ      * خَوْفَ الوَاشِينَ يُشَرِّدُهُ
نَصَبَتْ عَيْنَايَ لَهُ شَرَكَاً  * في النَّوْمِِ فَعَزَّ تَصَيُّدُهُ
وَكَفَى عَجَبَاً أنِّي قَنِصٌ    * للسِّرْبِ سَبَانِي أَغْيَدُهُ
صَنَمٌ للفِتْنَةِ مُنْتَصِـبٌ  *    أَهْوَاهُ وَلا أَتَعَبَّـدُهُ
صَاحٍ والخَمْرُ جَنَى فَمِهِ   * سَكْرَانُ اللَّحْظِ مُعَرْبِدُهُ
يَنْضُو مِنْ مُقْلَتِه ِ سَيْفَاً * وَكَأَنَّ نُعَاسَاً يُغْمِـدُهُ
فَيُرِيقُ دَمَ العُشَّاقِ بِـهِ * والويلُ لِمَنْ يَتَقَلَّـدُهُ
كَلاّ، لا ذَنْبَ لِمَنْ قَتَلَتْ  * عَيْنَاهُ وَلَمْ تَقْتُلْ يَـدُهُ
يَا مَنْ جَحَدَتْ عَيْنَاهُ دَمِي *    وَعَلَى خَدَّيْهِ تَـوَرُّدُهُ
خَدَّاكَ قَدْ اعْتَرَفَا بِدَمِي    * فَعَلامَ جُفُونُكَ تَجْحَدُهُ
إِنِّي لأُعِيذُكَ مِنْ قَتْلِي *  وَأَظُنُّكَ لا تَتَعَمَّـدُهُ
بِاللهِ هَبِ المُشْتَاقَ كَرَىً * فَلَعَلَّ خَيَالَكَ يُسْعِـدُهُ
مَا ضَرَّكَ لَوْ دَأوَيْتَ ضَنَى *  صَبٍّ يُدْنِيكَ وَتُبْعِـدُهُ
لَمْ يُبْقِِ هَوَاكَ لَهُ رَمَقَاً * فَلْيَبْكِ عَلَيْهِ عُـوَّدُهُ
وَغَدَاً يَمْضِي أَوْ بَعْدَ غَدٍ * هَلْ مِنْ نَظَرٍ يَتَزَوَّدُهُ
يَا أَهْلَ الشَّوْقِ لَنَا شَرَقٌ *  بِالدَّمْعِ يَفِيضُ مُوَرَّدُهُ
يَهْوَى المُشْتَاقُ لِقَاءَكُمُ  * وَصُرُوفُ الدَّهْرِ تُبَعِّدُهُ
مَا أَحْلَى الوَصْلَ وَأَعْذَبَهُ *    لَولا الأَيَّامُ تُنَكِّـدُهُ
بِالبَيْنِ وَبِالْهِجْرَانِ ، فَيَا    * لِفُؤَىادِي كَيْفَ تَجَلُّدُهُ
الحُبُّ أَعَفُّ ذَوِيهِ أَنَـا         * غَيْرِي بِالْبَاطِلِ يُفْسِدُهُ





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق