الاثنين، 29 فبراير 2016

«سعد حلاوة» الفلاح الذي رفض «التطبيع»







أرجو المعذرة. لم أستطع خلال هذه الغيوم الكثيفة المتلاحقة أن أكتب أو أن أنقل إلى أي أحد مما أعرفه شيئاً مبهجاً. 

أرجو المعذرة. فإنني وسط هذا الجنون المتواتر والذهول الطافي لا أستطيع أن أبتسم في وجه أي أحد أراه.

أرجو المعذرة. فالقصص الحزينة هي أكثر مما أحتمل وحدي وحكايات الأنقياء والأطهار دائماً حزينة وتنتهي بنهايات حزينة.


تزامنًا مع استقبال عكاشة السفير الإسرائيلى تحل الذكرى السادسة والثلاثين لوفاة الشهيد «سعد حلاوة» الفلاح المصري الذي رفض «التطبيع»




البطل سعد إدريس حلاوة،المزارع ابن محافظة القليوبية أول من مات رفضًا للتطبيع بين مصر والكيان الصهيوني، في فبراير عام 1980. 

سعد إدريس حلاوة، الذى كرمته ليبيا عندما صنعت له تمثالا ووضعته فى أحد ميادينها، وكرمته سوريا عندما أنتجت له مسلسلا إذاعيا يحكى عن حياته الشخصية وكيف عاش ومات بطلا.

شغلت قصة حلاوة العالم في تلك الفترة، التي مضى فيها الرئيس أنور السادات، في التطبيع مع إسرائيل، على الرغم من الرفض الشامل لهذه الخطوة من كل التيارات السياسية بمختلف توجهاتها خلال تلك الفترة. 

سعد حلاوة مولود في الثاني من مارس 1947 في أسرة ريفية متوسطة اقتصاديًا، تمتلك عدة أفدنة زراعية بقرية "أجهور الكبرى" التي تبعد نحو 30 كم عن العاصمة القاهرة.

كان للشهيد حلاوة خمسة أشقاء وشقيقة واحدة، جميعهم تلقوا تعليمًا عاليًا وتولوا وظائف حكومية باستثناء سعد، الذي اكتفى بالمرحلة الثانوية، واتجه إلى مساعدة والده في زراعة الأرض.

فى يوم الثلاثاء 26 فبراير 1980، وهو اليوم المحدد لاستقبال السادات السفير الإسرائيلي "الياهو بن اليسار" لتقديم أوراق اعتماده كأول سفير إسرائيلي فى مصر بعد معاهدة "كامب ديفيد، وقرر سعد حلاوة التعبير عن رفضه لخطوة السادات باستقبال السفير الصهيوني. 

جهز سعد شنطة سفر كبيرة تحتوي على مدفع رشاش ومسجل صوت ومكبر صوت وتسجيلات للقرآن الكريم بصوت الشيخ عبدالباسط عبدالصمد، وخطب لجمال عبدالناصر، وأغان وطنية بصوت عبدالحليم حافظ. 

واستقل "موتوسيكل" أجرة لتوصيله إلى الوحدة المحلية لقرية أجهور، لكونها الجهة الحكومية التى تمثل النظام في قريته، ووصل هناك فوجد ثلاثة من الموظفين يجلسون أمام الوحدة المحلية في شمس الشتاء، ثم نادى سعد إدريس حلاوة على الحاج نصيف خاطر، سكرتير الوحدة المحلية في هذا الوقت. 

يخبر "سعد" الموظفين بالوحدة المحلية بأنه أحضر لمن يشترى بعض البضائع، ويتكاثر الموظفون حول الفلاح الشاب يطلبون منه أن يفتح الشنطة "للفرجة على البضائع" فيطلب هو منهم أن يدخل أولاً "دورة المياه" ليغيب داخلها أقل من دقيقة ويخرج فى يدة مدفع رشاش مصوب تجاه الجميع، ففر كل الموظفين الموجودين بالوحدة ولم يبق سوى اثنان فى حجرة مطلة على فناء الوحدة المحلية التى مازالت مكانها حتى الآن.


وفى نفس التوقيت بالضبط كان السادات مع السفير الإسرائيلى "الياهو بن اليسار" فى غرفة مغلقة بقصر عابدين لمدة نصف ساعة بعيداً عن رجال الصحافة المحلية والعالمية، بعدها بثت الإذاعة المصرية تفاصيل اعتماد السفير الإسرائيلى وعندما سمع "سعد" هذه التفاصيل، أطلق وابلا من الرصاص من خلال شرفة الوحدة المحلية وبعدها أسكت الراديو ووضع شريط كاسيت لعبدالحليم حافظ، وصوب الراديو من خلال مكبر الصوت ناحية القرية حتى يعلو صوت عبدالحليم حافظ بدلا من صوت إعلان التطبيع بين مصر وإسرائيل، وأعلن أنه لن يفك اعتصامه إلا بعد طرد السفير الإسرائيلى من مصر.

قام عمدة القرية وهو عم سعد إدريس حلاوة، الذي أراد أن يخلي مسؤليته فاتصل بمركز طوخ، وسرعان ما يتصل المركز باللواء أحمد مختار، مدير أمن القليوبية في ذلك الوقت، الذي اتصل بالنبوي إسماعيل وزير الداخلية، وتكتمل حلقة الاتصالات عندما اتصل النبوي إسماعيل بالرئيس السادات، وطلب من رجال السادات دخوله على الخط الساخن لأمر مهم وعاجل.

ذهب وزير الداخلية في ذلك الوقت النبوي إسماعيل، إلى أجهور ليشرف على عملية تصفية سعد إدريس حلاوة، وعندما نزل من سيارته يلتقط الميكرفون، ويأمر فورًا بضبط وإحضار المواطن سليمان عبدالعزيز عبدالمؤمن سليمان، سائق "الموتوسيكل" الذي نقل سعد وحقيبته إلى الوحدة المحلية. 

ويأمر بضبط الحاج نصيف أبوخاطر سكرتير الوحدة المحلية، الذي هرب من الوحدة، واستعان النبوي إسماعيل بأقرب الأقربين إلى سعد إدريس حلاوة، للتأثير عليه والعدول عن موقفه، فوضع السلاح في ظهر والدة سعد، وعندما طالبته بالعدول عما هو فيه رد عليها قائلا "ارجعى يا أمي وافتحي قبر والدي واعتبريني من الشهداء دفاعًا عن الوطن ضد الخونة"، كما رفض توسل خاله الشيخ نور حلاوة. 

فى هذه اللحظة تعاملت قوات النبوي إسماعيل مع سعد بإلقاء وابل من الرصاص عليه محدثين إصابة في فخذه وعينه، وبعدها فر الرهائن المحتجزون داخل الوحدة المحلية.

وقبل أن تتم عملية التصفية، كتب "سعد" بدمه على جدران الحجرة "لا إله إلا الله تعيش مصر حرة"، وبعدها ألقوا عليه القنابل المسيلة للدموع، وتمت عملية التصفية. 



سعد لم يؤذ أحدًا، ولم يقم بإهانة المحتجزين، ولم يطلق طلقة واحدة لإصابة أحد، ولقي خبر مصرع حلاوة صدى كبيرًا داخل وخارج مصر، وخرجت وقتها تظاهرات تحمل صورة حلاوة وترفض التطبيع، ومن وقتها يحرص عدد كبير من مختلف التيارات السياسية بزيارة قبر الشهيد بقريته في ذكرى وفاته كل عام، ووضع الورود على قبره.


وقام الشاعر الكبير نزار قباني، برثاء الشهيد سعد حلاوة بقصيدة تحمل عنوان "صديقي المجنون سعد حلاوة"، بعد أن خرج تقرير طبي حينها يزعم أن حلاوة مختل عقليًا. 

يقول نزار قباني :

مجنون واحد فقط خرج من هذه الأمة العربية الكبيرة العقل المتنحسة الجلد الباردة الدم، العاطلة عن العمل.. فأستحق العلامة الكاملة.. قي حين أخذنا كلنا صفرا..

 مجنون واحد تفوق علينا جميعا وأستحق مرتبة الشرف قي ممارسة الثورة التطبيقية قي حين بقينا نحن قي نطاق التجريد والتنظير.. هذا المجنون العظيم اسمه سعد إدريس حلاوة.. وعلاماته الفارقة مجنون.. حسب آخر تخطيط دماغ أجرى له قي مستشفى أنور السادات للأمراض العصبية

 أما بالنسبة لنا ؟ نحن أهل الجنون فإن سعد إدريس حلاوة. كان مصريا مثقفا، ومتوازناً، وهادئ الطباع، وكان مزارعاً ربط قدره بتراب مصر،

وبالنسبة لتاريخ المقاومة المصرية فإن سعد إدريس حلاوة هو أول مجنون عربي لم يحتمل رأسه رؤية السفير الإسرائيلي يركب عربة تجرها الخيول إلى قصر عابدين قي القاهرة ويقدم أوراق اعتماده إلى رئيس جمهورية مصر. فأخد مدفعا رشاشاً وأتجه إلى قاعة المجلس البلدى قي قرية أجهور قي محافظة القليوبية وأحتجز سبعة رهائن مطالباً من خلال مكبر الصوت الذي حمله معه بطرد السفير الإسرائيلي لقاء الإفراج عن رهائنه،

هذا هو مجنون مصر أو مجنون الورد.. التي تناقلت وكالات الأنباء قصته باهتمام كبير قي حين قرأ العرب قصته كما يقرأون قبل النوم قصة مجنون ليلى.. وأنا شخصيا ـ وأنا أيضا ـ أحب المجانين واعتبر نفسى عضوا طبيعيا ً قي حركتهم واعتبرهم أشجع وأصدق حزب سياسى يمكن أن ينضم إليه الإنسان العربي..

سعد حلاوة كان الأصدق والأصفى والأنقى فهو لم يقتنع بأسلوب المقاومة العربية وبيانات جبهة الصمود والتحدى.. فقرر أن يتصدى على طريقته الخاصة ويخترع مقاومته، إذا كان سعد حلاوة مجنونا فيجب أن نستحى من عقولنا وإذا كان متخلفا عقليا فيجب أن نشك قي ذكائنا..

هو قاوم افتتاح السفارة الإسرائيلية قي القاهرة على طريقته الخاصة فقاتل وقتل.. قي حين نحن لم نقاتل ولم نقتل.. كل ما فعلناه أننا حملنا ميكروفناتنا.. وبدأنا البث المباشر..

أذعنا أسطوانة أخى جاوز الظالمون المدى وبكينا.. وأستبكينا وفرطنا كل دواوين شعراء الأرض المحتلة.. ورقة ورقة.. هددنا برفع مليون علم فلسطيني لقاء رفع علم إسرائيلي واحد.. أخرجنا من المخازن لافتات نحتفظ بها من أيام وعد بلفور.. ومشينا قي مسيرات أشترك فيها كل الأموات الذين عاصروا الحاج أمين الحسينى وفوزى القاوقجى وأخرجنا من أرشيف الإذاعة كل المونولوجات والطقاطيق والاستكشات السياسية التي نخزنها قي مؤنة البيت وكل الخطابات الحماسية أبتداء من خطابات ميرايور وروبسير والحجاج بن يوسف الثقافى.. إلى خطابات أدولف هتلر من إذاعة برلين..



وعندما دخل السفير الإسرائيلي ألياهو بن اليسار إلى قاعة العرش وقدم أوراق اعتماده سفيرا فوق العادة ومطلق الصلاحية إلى الملك محمد أنور بن فاروق بن فؤاد بن السادات توقفنا عن إذاعة القرآن الكريم ونصبنا الصلوات وبدأنا نستقبل المعزين.. سعد إدريس حلاوة هو مجنون مصر الجميل الذي كان أجمل منا جميعا وأجمل ما به أنه أطلق الرصاص على العقل العربي الذي يقف قي بلكونة اللامبالاة قي يوم 26 فبراير 1980 ويتفرج على موكب السفير..

ولكن العقل العربي لا يصاب.. فهو عقل مصفح ضد الرصاص وضد المعارضة وضد الاحتجاج وضد النابالم وضد القنابل المسيلة للدموع.. العقل العربي عقل متفرج واستعراضى وكرنفالى لذلك كان لابد من ولادة مجنون يطلق الرصاص على اللاعبين والمتفرجين جميعا قي مسرح السياسة العربية..

ومن هنا أهمية سعد حلاوة فقد أرسله القدر ليقول جملة واحدة فقط ويموت بعدها : هذه ليست مصر.. هذه ليست مصر.. والقصة انتهت كما تنتهى قصص كل المجانين الذين يفكرون أكثر من اللازم ويعذبهم ضميرهم أكثر من اللازم.. أطلقوا النار على مجنون الورد حتى لا ينتقل جنونه إلى الآخرين.. فالجنون يتكلم لغة غير لغة النظام لذلك يقتله النظام..

من هو سعد حلاوة ؟

جمجمة مصرية كانت بحجم الكبرياء وحجم الكرة الأرضية.. أنه خنجر سليمان الحلبى المسافر قي رئتى الجنرال كليبر..

هو كلام مصر الممنوعة من الكلام..

و صحافة مصر التي لا تصدر

و كتاب مصر الذين لا يكتبون

وطلاب مصر الذين لا يتظاهرون

ودموع مصر الممنوعة من الانحدار

و أحزانها الممنوعة من الانفجار

سعد حلاوة.. حسب النشرة الطبية الصادرة عن مستشفى القصر العينى قي القاهرة رجل متخلف عقليا.. أي متخلف عن اللحاق بحركة التطبيع ومفاوضات الحكم الذاتى واتفاقيات كامب ديفيد

وما يعتبره في علم الطب تخلفا قد يعتبر قي علم السياسة تقدما وما يعتبره أنور السادات غباء أو رذالة أو قرفا يعتبره الفكر العربي ذكاءً وفكراً لقاحاً.. وهذه هي مشكلة سعد حلاوة فهو عندما حاصر المجلس البلدى قي أجهور لم يحاصر مبنى بقدر ما حاصر اتجاها ومخططاً وعندما أطلق النار على قوى الأمن التي هاجمته لم يكن قي نيته أن يقتل شخصاً بعينه.. إنما كانت نيته أن يقتل فكرة أو على وجه التحديد فكرة مصر الإسرائيلية..

إن سعد حلاوة لا يمثل بحركته انطفاء الذاكرة المصرية بقدر ما يمثل توهجها وأشتعالها لا يمثل غياب ضمير مصر بقدر حضوره على أكمل ما يكون الحضور وسعد حلاوة يمثل بحركته العضوية انتصار مستشفى العباسية للأمراض العقلية على مستشفى قصر عابدين.. أبتداء من الباش دكتور إلى التمرجى الصغير..

إن حلاوة سعد حلاوة أنستنا مرارة ألياهو بن اليسار ورشاش بورسعيد الذي أستعمله قي معركته.. فكرنا بأشرف المعارك وأشرف الرجال.. ربما كانت القاهرة تبدو للناظرين سماء الصفيح الأزرق وربما كان نيلها يرقد تحت شمس الشتاء كتمساح نيلى يتعاطى المخدرات وربما كانت الوطنية المصرية تسافر قي أجازات طويلة بحثا عن لقمة العيش وربما ظن أنور السادات أن زرع سفارة إسرائيلية قي القاهرة مثل ذرع قلب قرد قي جسد إنسان..

ولكن الصورة الخارجية لمصر تختلف كثيرا عن تخطيط قلبها.. فلا تماسيح مصر ستبقى مطيعة منسلطة ولا جسد مصر سيقبل قلب قرد إسرائيلي فيه.




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق