الأحد، 14 فبراير 2016

الرحلة الحزينة


الرحلة التي تغادر القاهرة قبيل منتصف الليل إلى جده رحلة حزينة.

لا أدري كيف انتبهت وأنا في "الباص" الذي يقلنا من الطائرة إلى مبنى مطار جده. كنت عائداً من إجازة قصيرة قضيتها مع أسرتي في القاهرة. لا أذكر شيئا من تفاصيل الرحلة كلها. كيف صعدت إلى الطائرة. في أي مقعد جلست. كيف كانت هيئة المضيفات. ماذا كانت وجبة الطعام. كيف هبطت الطائرة. بالفعل لا أذكر شيئا من هذه التفاصيل التي غالباً ما تظل عالقة بذاكرتي لفترة ما واستعمل بعضها عادة لأجيب على السؤال التقليدي الذي يوجه إلي دائماً : كيف كانت رحلتك؟

أحس بحالة غريبة حولي شئ غير إعتيادي في مثل هذه الرحلات لا أعرف ما هو. أحاول التركيز لمعرفة هذا الشئ لكن بلا جدوى.

كل ما أذكره هو أنني في مطار القاهرة حانت مني إلتفاتة أخيرة تجاه زوجتي وإبني وإبنتي الذين ودعتهم منذ دقائق قليلة قبل أن أدخل بحقائبي إلى منطقة اللاعودة. في هذه الإلتفاتة القصيرة رأيتهم يخرجون من باب المطار متلاصقين ينظر كل منهم للآخر وهم يضحكون على تعليق قد قاله أحدهم. 

نظرت أمامي مرة أخرى لأمضي في طريقي ولكنني لم أر شيئاً طوال رحلة العودة. سقطت في داخلي أشياء لا أعلمها. وسقطت أنا في عالم لا أعرف كيف خرجت منه.




إلى أين أمضي وحيداً؟ 
كم مر من عمري وأنا أمضي وحيداً؟
كم بقي لي من عمري؟ 
وإلى متى سأظل وحيداً؟ 
هل وحدتي في المكان أم هي في الزمان أيضاً؟
هل هذه الوحشة التي تنتابني هي سبب وحدتي أم وحدتي هي سبب وحشتي؟
هل الغربة هي سبب وحدتي أم أن وحدتي أسلمتني إلى الغربة وإلى إستمراء الوحدة في الإغتراب؟

ما زلت في "الباص" أحس بهذه الحالة الغريبة حولي. ضايقني جداً أني لا أعرف مصدرها أو كنهها.

"رحم الله أبا ذرٍ يعيش وحيداً ويموت وحيداً". حديث..

"فقدت كل مؤنس وصاحب ومرافق ومشفق. والله لربما صليت في الجامع فلا أرى جنبي من يصلي معي ... فقد أمسيت غريب الحال غريب اللفظ غريب النحلة غريب الخلق مستأنساً بالوحشة قانعاً بالوحدة معتاداً للصمت ملازما للحيرة محتملاً للأذى يائساً من جميع من أرى متوقعاً لما لابد من حلوله. فشمس العمر على شفا وماء الحياة إلى نضوب ونجم العيش إلى أفول" . هذا ما كتبه أبو حيان التوحيدي في كتابه " الصداقة والصديق".

هل عشقي للقراءة هو سبب انطوائي ووحدتي؟

الآن بدأت أتعرف على هذه الحالة الغريبة من حولي. هناك صمت ليلي طويل لا يقطعه بكاء طفل أو صوت أم تنهر طفلها !!
ياللمفاجئة ..
لا يوجد بهذه الرحلة أطفال !!
لا يوجد بهذه الرحلة إمرأة ما !!
تفحصت الأوجه من حولي إنهم رجال فقط. رجال من جميع الأعمار. كلهم عائدون  كما قال أبو حيان بلا مؤنس أوصاحب أومرافق أومشفق.

إستغرقني هذا الإكتشاف لهذه الرحلة الذكورية الصامتة. بدأت أنظر في الوجوه التي علتها مسحة من الحزن  لا تخطئها العين وراق لي أن أحلل هذا الوجوم والذهول كل على قدره. 

هذا الشاب الذي تبدو عليه علامات الأسى قد ودع خطيبته منذ قليل ومازال يجتر هناءة الساعات القليلة التي خلا فيها بها والسعادة التي أحس بها في حينها عندما  سمحت له أن يمسك يدها لأول مرة. يرفض من داخله الإعتراف بأنه قد فارقها فعلاً ويتحسس يده التي لامستها في لحظات الوداع.

هذا الرجل في منتصف العمر يحمل لفافة ما قد غادر وزوجته مازالت في الفراش بعد أن وضعت مولودهما الأول الذي رزقاه بعد جهد شديد فبعض النساء  تذوي خصوبتهن في الغربة. هو يحاول أن يبقي في ذاكرته ملامح مولوده حتى يتذكره في أيام الفراق والبعاد الطويلة. اللفافة بيده تحتوي على بعض الحلوى التي توزع عندما يبلغ المولود يومه السابع. حرص على شراء الحلوى قبل سفره وقبل اليوم السابع.

هذا آخر في مرحلة عمرية متقدمة يفكر هل سيمنحه القدر فرصة أخرى ليعود ويرى والدته المريضة أم سيعود لوداعها الودع الأخير. أرهقته صورة والده يعيش وحيداً في هذا البيت الفسيح.

كل الرجال حولي يبدون في هيئة وقورة جداً وكأنهم خرجوا لتوهم من واجب عزاء لعزيز لديهم. والسبب بالإضافة إلى صمتهم المطبق وتخليهم عن روح الدعابة التي عادة لا تفارقنا هو الألوان الداكنة جداً لثيابهم والتي يغلب على معظمها اللون الأسود. ساعدهم كثيراً على هذا الوقار القهري تأخر الوقت وانهماك الليل في حلكته المترامية في الخارج وكأنهم يخشون الكلام حتى لاتُخدش مشاعر سكون الليل الذي يقاوم بكل ما أوتي من ظلمةٍ ساعات أفوله.

الرحلة التي تصل من القاهرة قبيل الفجر إلى جده رحلة حزينة جداً.



















ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق